في شمال الأردن تغيّرت حكاية الأرض. القمح الذي كان يلوح ذهبيًا، والزيتون الذي يزيّن التلال، والرمان الذي يزهو بحمرته، يواجهون اليوم جفافًا متزايدًا وأمطارًا متقطعة وحرارة قاسية. ومع هذا المشهد، لم يعد أمام المزارعين سوى البحث عن محاصيل أكثر قدرة على الصمود، فكانت الفواكه الاستوائية خيارًا يفرضه المناخ ويعكس إرادة البقاء.
وفي هذا السياق، يروي المزارع الخمسيني حسين حسن، وهو أب لستة أبناء: "لم أشهد مواسم بهذا التراجع منذ سنين طوال… الأرض لم تعد كما عرفتها، والمطر لم يعد وفيًا لنا."
لقد ورث حسين زراعة القمح عن أجداده، لكنه لم يستطع مجابهة تراجع الإنتاج وارتفاع التكاليف. وبعد سنوات من الكفاح، اضطر إلى ترك أرضه والاتجاه إلى عمل آخر، لتبقى الحقول شاهدة على قصة انكسار صامتة.
وفي نفس السياق، واجه الزيتون مصيرًا مشابهًا، إذ يؤكد المزارع محمد يوسف، الذي يعتني بمزرعة ورثها عن آبائه، أن مواسم الوفرة أصبحت من الماضي. قبل عقد من الزمن، كانت "تنكة" الزيتون ذات الـ 16 كيلوغرامًا تُباع بستين دينارًا، أما اليوم فالسعر تضاعف، لكن المحصول تراجع. الجفاف جلب معه أمراضًا جديدة، وحوّل موسم القطاف إلى موسم قلق دائم، يخشى فيه المزارع الخسارة أكثر من تطلعه إلى المكسب.
وعلى خط موازٍ، يقف عمر إسماعيل، مزارع الرمان في الأغوار الشمالية، ليروي كيف انقلب الإرث إلى معاناة. مواسم والده كانت وفيرة، وحبات الرمان زاخرة بالحياة. أما اليوم، فقد بددت الحرارة الشديدة والجفاف والصقيع توازن الشجرة. وبنتيجة ذلك، أخذ المحصول يتناقص عامًا بعد عام، لتتضاعف الخسائر ويجد المزارع نفسه أمام معركة قاسية مع المناخ.
ومن زاوية الأرقام، تكشف الإحصاءات الرسمية حجم الأزمة بوضوح. إذ تمتلك إربد نحو 1,392,639 دونمًا من الأراضي الزراعية، منها حوالي 496,342 مزروعة فعليًا، وفق ما ذكره مدير الزراعة الدكتور حافظ أبو عرابي. ومع ذلك، فإن هذه المساحات، مهما بدت كبيرة، لم تعد كافية لمواجهة المناخ من دون خطط تكيف واضحة واستراتيجيات مدروسة تعيد الثقة للأرض والمزارع معًا.

وفي مواجهة هذه التحديات، لجأ بعض المزارعين إلى بدائل استوائية. ففي قرية سحم الكفارات، اختار المزارع عبدالله الخزاعلة المانجو بديلاً. زرع وبعض المزارعين في البلدة 300 شجرة، تعيش نحو عشر سنوات، وتنتج ما بين 50 - 55 كيلوغرامًا للشجرة في موسم آب. ومع أنه نجح جزئيًا، إلا أن غياب التسويق وا
لإرشاد الزراعي ظل عائقًا. ويقول الخزاعلة: "الزراعة وحدها لا تكفي، نحن بحاجة إلى سوق يفتح الأبواب أمام هذه الثمار."
وبالمثل، يؤيده كمال كناكري، مزارع الجوافة في "الشريعة"، معتبرًا أن التحول لم يكن رفاهية، بل وسيلة للبقاء. وفي السياق ذاته، جرّب أبو طارق طوالبة القشطة والميس فلورا والكاكا، ونجح نسبيًا رغم ضعف التسويق. بينما، على النقيض، لم تصمد البابايا التي زرعها طعمة العمري في الأغوار، إذ لم تتحمل الحرارة الخانقة، وفشلت قبل أن تعطي ثمارها.

ومن هنا، يمكن القول إن الزراعة الاستوائية في إربد ليست حلًا سحريًا، لكنها محاولة جادة لإيجاد طريق جديد وسط مناخ متقلب. فبين القمح الذي تراجع، والزيتون الذي يقاوم، والرمان الذي يتناقص، والفواكه الاستوائية التي تخطو خطواتها الأولى، تبقى الأرض مسرحًا لتجارب المزارعين في التكيف والبقاء. وبناءً عليه، يظل كل موسم اختبارًا جديدًا لقدرة الحقول على النجاة في وجه التغير المناخي.
وعلى صعيد الخبراء، يشير تقرير البلاغات الوطنية الرابع حول تغيّر المناخ إلى أن شمال الأردن، بما فيه إربد، يشهد تغيرات واضحة في درجات الحرارة وأنماط الهطول المطري. هذا الواقع يقلّص ملاءمة العديد من المحاصيل التقليدية، ويزيد من الضغط على الموارد المائية. وهنا، يوضح الخبير المناخي عمر شوشان أن هذه الظروف تدفع نحو البحث عن محاصيل أكثر قدرة على التكيف مع الحرارة المرتفعة، حتى وإن كانت غير مألوفة في البيئة المحلية.
كما يضيف شوشان أن خطة التكيف الوطنية حددت القطاع الزراعي كأحد أكثر القطاعات تأثرًا بالتغير المناخي، وأوصت بتطوير أصناف مقاومة للجفاف والحرارة، وتحسين إدارة المياه عبر الري الحديث وحصاد مياه الأمطار، إلى جانب تعزيز الإرشاد الزراعي. غير أن حالة إربد تكشف أن الاستجابة ما زالت جزئية، وأن معظم المبادرات جاءت من المزارعين أنفسهم، لا ضمن إطار وطني منظم.
وبالإضافة إلى ذلك، يؤكد شوشان أن البحث العلمي والإرشاد الزراعي يشكلان خط الدفاع الأول، من خلال توفير البيانات الدقيقة، وتجريب الأصناف الجديدة، ونقل المعرفة والتقنيات الحديثة للمزارعين. ويرى أن تعزيز التعاون بين مراكز البحث والقطاع الزراعي يمكن أن يحوّل التغير المناخي من تهديد إلى فرصة لتطوير أنماط أكثر استدامة.
أما من جانب النقابات، فيشير رئيس نقابة الزراعيين في إربد بشار نوافلة إلى أن التغير المناخي يساهم بشكل مباشر في تراجع الزراعات التقليدية. فارتفاع الحرارة، وتذبذب الأمطار، وتقلبات الطقس، وتدهور التربة، كلها عوامل أدت إلى انخفاض الإنتاجية وإجهاد النباتات. وبناءً على ذلك، اتجه المزارعون نحو الزراعات الاستوائية، بحثًا عن مردود اقتصادي أفضل، مستفيدين من بيئة جديدة أوجدها المناخ.
ويضيف نوافلة أن التحول إلى المحاصيل الاستوائية كان حلًا في حينه وحقق بعض النجاح، لكنه اصطدم لاحقًا بتحديات صعبة، منها قلة المياه والاختناقات التسويقية. ويعتبر أن الإرشاد الزراعي لاعب محوري في خدمة المزارعين، لكنه بحاجة إلى تطوير حقيقي لمواكبة التغيرات المناخية وتقديم التدريب الفعّال.
كما أكّد مدير دائرة الأرصاد الجوية رائد آل خطّاب أن مناخ إربد لم يتحول إلى مناخ استوائي كما قد يظن البعض، بل ما تزال المحافظة ضمن نطاق المناخ المتوسطي المعتدل. غير أن هذا المناخ بات أكثر تطرفًا في فصوله؛ إذ أصبحت موجات الحر الصيفية أطول وأشد، وفترات البرودة الشتوية أقل استقرارًا، فيما يتسم الهطول المطري بالتقطع، وأحيانًا بالغزارة خلال فترات قصيرة.
وأضاف آل خطّاب أن ما يجري في السنوات الأخيرة هو انعكاس مباشر لتأثيرات الاحترار العالمي والتقلبات الجوية، الأمر الذي يفرض على الزراعة في إربد تحديًا أكبر للتكيف مع واقع مناخي لم يعد مألوفًا، ويستدعي حلولًا أكثر شمولية لضمان استدامة الإنتاج الزراعي في المنطقة.
طور هذا التقرير ضمن المبادرة الصحفية (ECO Media) التي تأتي ضمن برنامج "جيل جديد" المنفذ من منظمة النهضة العربية للديمقراطية والتنمية - أرض.












































