مجرمون أبطال في قصص الأطفال

مجرمون أبطال في قصص الأطفال
الرابط المختصر

 

كان الراحل العظيم الكاتب الساخر أحمد رجب من أوائل الذين قاموا بمحاكمة درامية واقعية للقصص التراثية التي رُويَت لنا ونروي بعضها لأطفالنا أو يشاهدونها مجسدةً في حلقة تلفزيونية أو على المسرح ويخرجون بمُسَلَّمات وانطباعات زائفةً عن أبطالها وبطلاتها.

 

الفيلم التلفزيوني "محاكمة علي بابا" إنتاج اتحاد الإذاعة والتلفزيون المصري في منتصف الثمانينيات الذي كتبه أحمد رجب وقام ببطولته الفنان يحيى الفخراني والفنانة إسعاد يونس وثلاثة من الأطفال الموهوبين، يستعرض الفجوة المفاهيمية بين الأجيال التي تتجلى في تناقضات ومثالب أخلاقية غفل عنها كثيرون تكتنف "مُسَلَّمات" سلوكية وقصصية يتم تسليط الضوء عليها من خلال معايشة أبنائهما الصغار لبعضها وفهمهم وتفسيرهم الفطري السليم لدلالاتها. شكّل الموقف الذي تعرّض له الابن الأصغر "كوكي" المرآة التي استخدمها المؤلّف للكشف عن حقيقة مضامين القصص والإرث المحكي الذي نعاقره جيل عن جيل."كوكي" استمع بعناية لقصة "علي بابا" في نسختها الأصلية من مُدرّسته في الحضانة ليستنتج أن"البطل المغوار" و "الرجل الطيب" ما هو إلا لص مثل الأربعين حرامي اللذين سرق مغارتهم، سأل "كوكي" مدرّسته: "هل ما أخذه علي بابا من المغارة مملوك له أصلا؟"، فأجابته متذمرةً: "لا"، فجاء ردّه الذي يزلزل ثوابتاً و"مُسَلَّمات" تعاقبت عليها أجيال: "إذن علي بابا شرير وليس طيب".

 

قصة "علي بابا" في حقيقتها أداة ذهنية تعليمية ترسّخ قيم: "الفهلوة... والانتهازية... والكسب غير المشروع"، الخطير في هذه القصة خصوصاً في بعض المعالجات الدرامية الإذاعية التي تناولتها؛ أنها تُقدّم "علي بابا" على أنه إنسان مؤمن متديّن يثني على الله ويشكره بعد كل سرقة من المغارة، ثم هو يتصدق مما سرقه على الفقراء في صورة تجسّد بوضوح ممارسة غسيل الأموال معنوياً وأخلاقياً لجعله "حلالاً زلالاً"!

 

بدورها تعد قصة "علاء الدين والمصباح السحري" نموذجاً آخر على تجميل وترسيخ قيم مبتذلة من خلال قولبتها في إطار قصصي ودرامي تشويقي تصرف عناصر الإثارة فيه النظر عن مضمونه المنحرف. ف"علاء الدين" في حقيقته ما هو إلا شخص انتهازي كسول عاطل عن العمل آثر التواكل والاتكال على "جنّي" يطعمه ويسقيه ويبني له القصور ويزوجه بمن لم يستطع الزواج منهنّ حينما كان  فقيراً معدما، وليت المصباح أصلاً من ممتلكاته بل سرقه من القبو الذي أنزله عمّه فيه بغرض الحصول على المصباح والتخلص من ابن أخيه "علاء الدين".

 

ليس عبثاً أن تجري على لسان العديد من العاطلين عن العمل عبارة "ليته عندي مصباح علاء الدين"، هذه القصة كسابقتها تكرّس فكرة أنّ "سرقة الحرامي شطارة" و "اللي تِغلبُّه إلعَبُّه" وأن من وقع فريسةً للفقر أو ضحيةً للظلم بات كل شيء أمامه مشروع ولو كان ارتكاب جرائم القتل ثأراً والسرقة وغسيل الأموال.. ما دام سيطهر غنائم جرائمه بتخصيص جزء منها للفقراء والمحتاجين.

 

في الاتجاه نفسه، تبدو القصص التي تشكل النساء شخوصها المحورية؛ أكثر مرارةً وخطورةً في ما ترسيه من أفكار نمطية سلبية عن المرأة وتصويرها ضعيفةً منكسرةً مغلوبةً على أمرها وسلاحها الوحيد هو جسدها! ف"بياض الثلج" أو "قطر الندا" (سنو وايت) وكذلك "سندريلّا" تعتمدان على جمالهما للنجاة من الظلم الواقع عليهما ولتحقيق حلمهما بالزواج من أمراء أثرياء لم يلفت نظرهم فيهما إلا "سحر" جسدهما و "حلاوة" وجههما. في المقابل، تكرّسهاتان القصتان أفكار "التبعية" و "الرعوية"و"الضعف المتأصل" في المرأة، تلك الأفكار النمطية السلبية التي تعززها منظومة من العادات والتقاليد والفتاوى..وجميعها  استخدمت وما تزال لتقييد حقوق النساء وحرياتهنّ وإقصائهنّ من مشاركة الرجل في تقييم الماضي وصناعة الحاضر واستشراف المستقبل.

 

تقوم "سندريلا" بالأعمال المنزلية خدمةً لزوجة أبيها وبناتها وليست هذه هي المشكلة من وجهة نظر القصة بل يكمن المشكل القصصي في أنها تقوم بذلك دون أن يساعدها أحد من أخواتها غير الشقيقات اللاتي هنّ إناث أيضاً وعليهنّ واجب القيام بالأعمال المنزلية، الشيء نفسه بالنسبة ل"بياض الثلج" التي تستنجد ب"الأقزام السبعة" وتقدم لهم لقاء إيوائها وحمايتها؛ خدمةً منزليةً تتمثل في الطهي والغسيل والتنظيف... لتنتهي القصتان بالفكرة المقيتة ذاتها التي تجعل الغلبة لجسد المرأة الذي "أسر" و "سحر" الأميرين ودفعهما للزواج من الضحيتين.

 

ثمة عاملٌ مشترك بين غالبية قصص الأطفال؛ وهو تعزيز فكرة الانتقام في أبشع صوره، فمعظم هذه القصص تنتهي بقتل "الظالم" حرقاً أو بقطع رأسه أو بإلقائه في بئر...." دون وجود أيم مساحة للتسامح والغفران والعيش المشترك بين الجميع، وبطبيعة الحال تبقى الأموال والغنائم التي "شفطها" "علي بابا" و "علاء الدين" في حوزتهما يتمتعان بها ويرميان فتاتها للفقراء ليبقيا في أعين الناس إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها "أشاوس مغاوير طييبين".

 

قد أروي لأطفالي قصة "علي بابا" و "علاء الدين" ولكن بوصفهما نموذجاً للشر، وربما أروي لهم قصتي "بياض الثلج" و "سندريلّا" بوصفهما نموذجاً للضعف والاتكال على الشكل عوضاً عن استخدام العقل، سأروي لهم التراث كما هو ليتأملوه ويتجنبوا ما في بعضه من مخازي وآثام وكي لا يصبحوا رواةً لقصص ملؤها التدليس والتسويف تجعل الأشرار أخيار وتحوِّل المجرمين إلى أبطال.