ما بعد الحرب: سيناريوهات المشهد السياسي الفلسطيني
مثلت الحرب في قطاع غزة حدثاً مفصلياً في تاريخ القضية الفلسطينية ونقطة انعطاف في مسارها، ومع استمرار الحرب وتعمقها، فإن المعطيات الميدانية وتطوراتها بدأت تفرض تحولات على المشهد الكُلي الفلسطيني لا سيما في قطاع غزة والضفة الغربية، ففي القطاع تقترب إسرائيل من نهاية المعركة في خانيونس وتستعد لبدء أخرى في مدينة رفح، فيما بدأت الولايات المتحدة بإنشاء ميناء بحري يهدف إلى استقبال المساعدات، وتسليمها على ما يبدو لقوى عشائرية.
أما الضفة الغربية فهي تواجه واحدة من أخطر أزماتها الأمنية مع التصعيد العسكري المتزامن للحرب في غزة، وتزايد المخاوف من خطر الانفلات الأمني والانهيار السياسي، ما دفع بالولايات المتحدة ودول المنطقة لمحاولة تنشيط وتعزيز دور السلطة الفلسطينية، بحيث تبسط سيطرتها على الضفة الغربية وثُم قطاع غزة، ومن هذا المنطلق جاءت استقالة الحكومة الفلسطينية برئاسة محمد اشتية في 26 فبراير 2024.
تسليط الضوء على ثلاثة تحركات
إن مشهد القضية الفلسطينية ما بعد الحرب يتراوح على ما يبدو بين ثلاثة تحركات رئيسة وهي (الإسرائيلية، والأمريكية، وحركة حماس)، وبالنسبة إلى خطوات حركة حماس ما بين قطاع غزة والخارج، فلا تزال متشددة برفضها هدنة مؤقتة قد تفضي إلى إطلاق سراح الأسرى الإسرائيليين لديها، دون انسحاب للجيش الإسرائيلي من القطاع، أو إنهاء الحصار المفروض عليه. وذلك لإدراك قادة الحركة وتحديداً للأهداف الأمريكية والإسرائيلية بإنهاء سيطرتها وحُكمها للقطاع، واستبدالها بخيارات أخرى بالرغم من اختلاف الدولتين في تفضيلهما لتلك الخيارات.
في ضوء ذلك، يُرجح أن قيادة حماس الميدانية في قطاع غزة ترغب بتقليل المخاطر الاستراتيجية للحركة والخروج من الحرب بالحد الأدنى من الادعاء بالإنجاز، وهو ما يفرض الحفاظ على ورقة الأسرى بوصفها الورقة الرئيسة في المفاوضات وعدم التنازل عنها سوى بضمان السيادة الفلسطينية على القطاع. فيما قيادة الحركة في الخارج، تحاول الحفاظ على الهيكل السياسي لحماس وعلاقاتها الإقليمية والدولية.
أما الولايات المتحدة، فهي تسعى لتهيئة المشهد الفلسطيني وتقريبه من حل الدولتين ظاهرياً، من خلال إعادة تنشيط وإصلاح السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية، وبما يُمكنها من مد سيطرتها إلى قطاع غزة، وبينما هناك توافق إقليمي ودولي حول الأهداف الأمريكية، إلا أن ثمة اختلافات تظهر حول ضرورة مشاركة حماس في المشهد الفلسطيني المقبل؛ وهو الأمر الذي ترفضه واشنطن حتى اللحظة، بالرغم من إبداء الحركة مرونة تجاه ذلك المقترح، إذ وافقت للمرة الأولى في تاريخها، على بيان اجتماع الفصائل في موسكو، والذي يعتبر منظمة التحرير الفلسطينية ممثلاً شرعياً ووحيداً للشعب الفلسطيني، والاتفاق على استمرار الاجتماعات للوصول إلى وحدة وطنية شاملة تضم القوى والفصائل الفلسطينية كافة في إطار المنظمة، ولا ترفض كذلك التنازل عن إدارة قطاع غزة، فقد صرح عضو المكتب السياسي لحركة حماس موسى أبو مرزوق، حول استعداد حركته لتشكيل حكومة تكنوقراط لإدارة غزة.
لكن يُقابل تلك التحركات، تطورات أخرى تشهدها إسرائيل، خاصة من حيث رفض مجلس الحرب أي هدنة تفضي إلى وقف لإطلاق النار، وتقديم رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو في فبراير 2024 "وثيقة مبادئ" تضمنت خطته المتعلقة بقطاع غزة في اليوم التالي لما بعد حماس، والتي سبقها تصويت للكنيست الإسرائيلي بأغلبية كبيرة على قرار يرفض الاعتراف أحادي الجانب بالدولة الفلسطينية.
وهذا يقودنا إلى حالة عميقة من عدم اليقين لا سيما وأن إسرائيل التي تسيطر عليها رؤية اليمين المتطرف ترفض أي شكل من أشكال السيادة غير اليهودية غربي نهر الأردن، وما يترتب على ذلك من سياسات وإجراءات، كتكثيف الاستيطان والتهويد في الضفة الغربية، ورفض مشروع حل الدولتين، وتعزيز السيطرة الأمنية الإسرائيلية على كامل الأراضي الفلسطينية المحتلة، والتعامل مع الفلسطينيين باعتبارهم "أقليات" مدنية ودينية تعيش تحت السيادة الإسرائيلية، كما عبرت عن ذلك "وثيقة المبادئ".
سيناريوهات المشهد الفلسطيني القادم
في ضوء ما سبق، يمكن قراءة تحولات المشهد السياسي الفلسطيني من خلال ثلاثة سيناريوهات رئيسة، ترتبط بمواقف الأطراف الثلاث السابقة والتحديات التي تواجه مخططاتهم، وهذه السيناريوهات هي:
السيناريو الأول: تشكيل حكومة تكنوقراط فلسطينية
تكون مهمتها إدارة المرحلة الانتقالية في قطاع غزة والضفة الغربية، والتأسيس لدمج حماس في النظام السياسي الفلسطيني القادم ما بعد الحرب، سواء من خلال انضمامها رسمياً لمنظمة التحرير الفلسطينية، أو تنظيم انتخابات عامة (رئاسية وتشريعية) بمشاركتها المباشرة أو غير المباشرة.
ويعد هذا السيناريو هو الأكثر تعقيداً وصعوبة ويرتبط بجملة من الشروط، ومنها:
- حدوث تغيرات جزئية أو كلية في الحكومة الإسرائيلية، خاصة في ظل زيادة المعارضة الأمريكية لنتنياهو وشركائه من الأحزاب المتطرفة، واستقبال الإدارة الأمريكية لزعيم حزب "المعسكر الوطني" بيني غانتس، ولقاءه بنائبة الرئيس الأمريكي كاميلا هاريس، دون تنسيق مع بنيامين نتنياهو.
- تطورات الموقف الأمريكي كتوجيه الجيش لإنشاء ميناء مؤقت على شاطئ غزة لإيصال المساعدات الانسانية، والتي أكد الرئيس بايدن بأنها لا يمكن أن تكون ورقة تفاوض لإسرائيل، وأنّ الحل الحقيقي الوحيد هو حل الدولتين، ولا يوجد طريق آخر يضمن السلام بين إسرائيل وجميع جيرانها العرب بما في ذلك السعودية.
- درجة استجابة السلطة الفلسطينية لمتطلبات الإصلاح الإداري والمالي والأمني بشكل جدي، وعدم الاكتفاء بإجراءات شكلية كتغيير رئيس الحكومة، وهو الأمر الذي سيضمن دعم دول الإقليم في حال تحققه، كما يساهم في دمج حماس في النظام السياسي الفلسطيني الجديد.
السيناريو الثاني: تشكيل حكومة فلسطينية جديدة في الضفة الغربية فقط
يفترض هذا السيناريو تشكيل حكومة تكنوقراط في الضفة الغربية فقط، مع بقاء الحكم والإدارة في قطاع غزة معلقاً، سواء بانتظار نتائج المفاوضات بين إسرائيل وحركة حماس، أو بعدم فعالية السيطرة الأمنية لإسرائيل مع استمرار العمليات العسكرية ضد الجيش الإسرائيلي، وتردي الأوضاع لدرجة يصعب معها تشكيل إدارة ذات هياكل ومؤسسات سياسية.
وبذلك فإن هذا السيناريو مرتبط بالتطورات الميدانية في قطاع غزة، واحتمالات التوصل إلى اتفاقيات هدنة مؤقتة تؤدي لاحقاً إلى وقف تام لإطلاق النار، وتحقيق الحد الأدنى من شروط إسرائيل وحماس معاً، بالإضافة إلى مدى الضغط الذي قد تمارسه الإدارة الأمريكية على الحكومة الإسرائيلية، ومواقف دول الإقليم الفاعلة وقدرتها على التأثير في الملف الفلسطيني الداخلي.
السيناريو الثالث: بقاء الانقسام الجغرافي والإداري الفلسطيني
تشكيل حكومة فلسطينية جديدة في الضفة الغربية فقط، ونجاح المخطط الإسرائيلي في فرض إدارة محلية في قطاع غزة مع بقاء السيطرة الأمنية الإسرائيلية على القطاع، وبالتالي تكريس الانقسام الداخلي الفلسطيني، وبقاء حماس خارج النظام السياسي الفلسطيني.
وهذا السيناريو مرتبط باستمرار الحرب الإسرائيلية على غزة، وتصاعد مجرياتها من خلال تنفيذ عملية برية في رفح وإحكام السيطرة الإسرائيلية على الحدود المصرية مع قطاع غزة، وهو الأمر المرتبط بدوره ببقاء الحكومة الإسرائيلية الحالية بدون تغيير، كما هو مرتبط بنتائج الانتخابات الرئاسية الأمريكية التي ستمنح هذا السيناريو شرعية سياسية في حالة عودة الرئيس السابق دونالد ترامب إلى البيت الأبيض.
وأخيراً؛ قد يصبح المشهد السياسي الفلسطيني أكثر هشاشة بعد الحرب، بحكم التباين الكبير في تصورات ومخططات القوى الثلاث المستفردة في المشهد، والتحديات الكبيرة التي تواجه أهدافها، وترتبط سيناريوهات المشهد بالتطورات الموضوعية وشبكة التفاعلات المعقدة بين أطرافها الثلاثة.