ما بعد الحداثة: السرديات الصغرى والصفر العظيم

ما بعد الحداثة: السرديات الصغرى والصفر العظيم
الرابط المختصر

كان من أبرز نتائج كتابات لاكان ودولوز وغواتاري الدمج بين النظرية الماركسية ومقولاتها حول وسائل الإنتاج في المجتمع والصراع المحتدم حول ملكيتها والسيطرة عليها وقضايا الهيمنة داخل الفضاء الاجتماعي، ونظرية التحليل النفسي الفرويدي بنسختها اللاكانية ما بعد الحداثية، كما سبقت الإشارة إلى ذلك. فقد تم ولأول مرة ربط الإنتاج باللاوعي وبالليبيدو وانتقل الصراع من الفضاء الاجتماعي الجمعي إلى المجال النفسي للفرد وشمل قضايا مثل الهوية الفردية وإشكالات الذات وتمظهرات الجسد في الثقافة المعاصرة ومقولات القمع والكبت والفقد.

 

يُعد الفيلسوف الفرنسي ما بعد الحداثي جان فرانسوا ليوتار من أبرز المفكرين الذين جمعوا بين النظريات الماركسية والتفكيكية والسيميائية والتحليل النفسي ليخرجوا بتصورات فلسفية شاملة لطبيعة الثقافة والحضارة في حقبة ما بعد الحداثة في العالم الغربي. لقد استفاد ليوتار من بداياته الماركسية وتأثر بعمق بكتابات دولوز وغواتاري وأخذ الكثير عن دريدا ومقولاته التفكيكية واستثمر قراءاته الواسعة في علم اللغة الحديث لدي سوسير وسيميائية سان جون بيرس. لم يقم ليوتار بإعادة صياغة جديدة لكل تلك النظريات المتنوعة، ولكنه نجح في إنجاز نقد منهجي صارم وشامل لتلك النظريات وتجاوزها نحو بناء رؤية فلسفية متماسكة كانت تعبر بمجملها عن روح ما بعد حداثية وما بعد بنيوية بامتياز. جاءت اشتغالات ليوتار تطبيقيا عمليا لنزعة ما بعد البنيوية الفرنسية في القفز فوق الحدود الفاصلة بين النظريات المختلفة في مجالات العلوم الإنسانية، بل وحتى في مجالات التكنولوجيا والصناعة والعلوم الطبيعية. فقد تنوعت القضايا التي ناقشتها كتب ليوتار على امتداد فترة السبعينيات والثمانينيات من القرن العشرين لتشمل الصراع الطبقي وملكية وسائل الإنتاج وعلم النفس التحليلي ونظريات لاكان ودولوز وغواتاري وخطر الإيدولوجيا والفكر الأحادي المنغلق والنظريات السياسية وأحدث التطورات في مجال علوم التكنولوجيا ووسائل الاتصال الحديثة والحاسوب.

 

كان ليوتار في بداياته ماركسيا وانضم إلى جماعة تعرف باسم (الاشتراكية أو البربرية Socialism or Babarism) والتي سعت إلى إخضاع الماركسية لنوع من النقد الذاتي الداخلي والمراجعة الفكرية الشاملة لبعض مقولاتها الأساسية. وبذلك كان ليوتار فردا من مجموعة واسعة من المثقفين الماركسيين والشيوعيين الذين انتقدوا وعبروا عن شجبهم للممارسات السياسية والمواقف الفكرية للحزب الشيوعي الفرنسي بعد الحرب العالمية الثانية، ومن أبرزهم روجيه غارودي ولوي ألتوسير وهيربرت ماركوزه، بالإضافة إلى ليوتار وبودريلار.

 

عمل ليوتار مراسلا للصحيفة الصادرة عن الجماعة نفسها في الجزائر وبذلك كان قريبا جداً من أحداث حرب الجزائر في الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين. وكشفت مقالاته الصحفية آنذاك عن الفجوة الفكرية والسياسية بين الماركسية الأرثوذوكسية وبين فكره السياسي والنظري. مال ليوتار إلى المساءلة والتشكيك بالمبادئ الماركسية وكان اعتراضه ينصب على طريقة تعامل الحزب الشيوعي الفرنسي مع الحرب في الجزائر بوصفها ثورة البروليتاريا ضد الرأسمالية، بينما كانت في الواقع ثورة فلاحين ومزارعين لا علاقة للتحليل الماركسي للصراع الطبقي في المجتمع الصناعي الحديث بها. كما رفض ليوتار موقف الحزب الشيوعي من انتفاضة الطلبة في فرنسا عام 1968 والذي جاء مساندا للمؤسساتية وللحكومة، وفي نفس الفترة أعلن خروجه على الماركسية بعد أن أنفرط عقد جماعة (الاشتراكية أو البربرية).

 

سار ليوتار على نهج دولوز وغواتاري في ربط الإنتاج باللاوعي في كتابه (اقتصاد الليبيدو Libidal Economy) الصادر عام 1974، وقام بالبحث عن جذور الاقتصاد السياسي في الليبيدو بدلا من المجتمع ومظاهر الصراع الطبقي، واعتبر اقتصاد الرغبة نمطا آخر من الحديث عن الاقتصاد السياسي، وسعى نحو تقديم تأويل أكثر شمولية لعمليات التبادل الرمزي للعلامات وللنقود في المجتمع على حد سواء. لقد هاجم ليوتار في هذا الكتاب كل من الماركسية ممثلة بالاقتصاد السياسي والفرويدية ممثلة بفلسفة الرغبة واللاوعي والسيميائية ممثلة بنظام العلامات. ويعتمد المدخل النظري الذي اتبعه في نقده الشامل لتلك النظريات الكبيرة على مفهوم التبادل والاستبدال القائم على فكرة التداول، سواء التداول النقدي في النظرية الماركسية أو تداول الصور في علم النفس التحليلي أو تداول العلامات في دوائر الاتصال البشري في النظرية السيميائية. ويشير ليوتار إلى مفهوم كل من سان جون بيرس وليفي شتراوس المتعلق بالعلامة، فالعلامة تحل محل الشيء أو المعلومة التي يراد تداولها من خلال عمليات الاتصال، وهذه العلامة لا تكتسب معنى إلا داخل شبكة من المفاهيم تعود إلى نظرية التواصل (Theory of Communication). إن عملية الإبدال والتعويض عن الشيء أو المعلومة بعلامة (Sign) تتكون حسب علم اللغة الحديث وعلم العلامات، من دال (Signifier) يحمل صفه رمزية أو صوتية، ومدلول (Signified) يشير إلى صورة الشيء في الذهن أو الذاكرة ويحيل إلى الشيء أو المعلومة الخارجية. وبذلك تصبح العلامة مركب رمزي يتكون من الدال والمدلول في الوقت ذاته ويرتبط بعلاقات تماثل أو تعارض مع علامات أخرى ضمن نفس الشبكة من المفاهيم أو داخل نفس البنية الكلية. وينتقد ليوتار هذا التصور البنيوي للعلامة، حيث يعتبر عمليات الاستبدال نوع من الإقصاء للمدلول والحضور الكلي المادي والرمزي للدال. فعملية استبدال الأشياء والبضائع بالنقود لغرض التداول التجاري والمالي شبيهة بعملية استبدال الأشياء أو المعلومة بالعلامة، أو الكلمة في حالة الحديث عن اللغة، لغرض التداول في مجال علم الاتصال والتواصل. تختفي المعلومات ويتم تناسي الأشياء شيئا فشيئا في عمليات التواصل والتبادل اليومي وينتهي الأمر بمجموعة من العلامات التي تحمل دوال فقدت الصلة بمدلولاتها، وتصبح الدوال أهم من نظام الدلالة ولا يعود هنالك شيء سوى سلسلة من الإحالات اللانهائية في نظام العلامات. يتفق ليوتار مع ما يذهب إليه دريدا من فكرة تعويم الدلالات وفك ارتباط الدوال بالمدلولات في اللغة وفي مجمل العمليات ذات الطبيعة التبادلية السيميائية أو الرمزية، ونتيجة لهذه المقولة يصبح المعنى مؤجلا دائما (Signification is always deferred) ولا يحضر بصيغته المادية أبدا. وهذا يفسر تحول التراكم النقدي في الرأسمالية الحديثة إلى غاية بحد ذاتها، ولم يعد مهما الأشياء أو البضائع الذي حلت محلها النقود لغرض التداول التجاري والمقايضة. كما ظهرت اتجاهات حديثة في الأدب والفن والموسيقى أصبح فيها الاهتمام منصبا على عمليات التراكم والتلاعب اللغوي في الأدب، أو التجاورات اللونية والتجريد في الرسم، أو التجريب اللحني وكسر مبدأ التناسق والانسجام (Harmony) في الموسيقى. لم تعد العلامة تفهم بوصفها علاقة ترابطية بين الدال والمدلول، كما قالت البنيوية، بل أصبحت العلامة انعتاق وتعويم للدال وإقصاء وتهميش للمدلول.

 

يؤكد ليوتار في كتابه على انهيار قوة الفقد (Force of Lack) وأهميتها في التحليل النفسي، كما طرح مفهوم (الصفر العظيم The Great Zero، ويشير إلى اللجوء إلى قوة خارجية خارقة أو نوع من الإرادة التاريخية لتفسير وقوع الأحداث الكبرى في تاريخ البشرية وذلك لغياب القدرة على مواجهة ذلك الحدث وتأويله باعتباره احتمال وجد تحققه في اللحظة الراهنة. ويدعو ليوتار إلى حالة من التخلي الكلي عن كافة التصورات المسبقة والتي تقود إلى نوع من الانغلاق العقائدي ورفض الآخر. ويدعم ذلك النوع من الخطابات التي لا توظف آليات القوة والفرض ولا تقصي الآخر ولا تشل حريته الفكرية. يصف ليوتار تلك الخطابات بوصفها تتشكل من خطوط عامة ضعيفة وخطاطات فكرية لا تتضافر لتكون شبكة قوية من المفاهيم أو منظومة فكرية استبدادية، كالايدولوجيا السياسية أو الثقافية مثلا.

 

و في معرض هجومه على النظرية الماركسية، يصر ليوتار في (اقتصاد الليبيدو) على رفضه لكافة المقولات الفلسفية والنظرية التي تتحدث عن فكرة التطور التاريخي والاجتماعي عبر جدليات وديناميكيات الصراع، من هيغل وحتى ماركس. ويرى ليوتار ـ بدلا منها ـ أنه لا يوجد مجتمع بدائي أبدا. فكل مجتمع ينتج نظاما من العلامات الخاصة به وتتلاءم درجة تعقيد نظام العلامات وتبادل الدوال مع حاجات ذلك المجتمع. وتكمن القوة المحركة والدافعة لعمليات التبادل تلك في اللبيدو الجمعي وليس في الحقل الاقتصادي والفضاء الاجتماعي.

 

طرح ليوتار، ومع صدور كتابه الأكثر شهرة (حالة ما بعد الحداثة The Postmodern Condition) عام 1979، مقولته حول السرديات الكبرى والتي رسخت مكانته في ثقافة ما بعد الحداثة بوصفه واحدا من أبرز مفكريها وأكثرهم تأثيرا. والسرديات الكبرى هي ذلك النمط من الخطابات التي تتمركز حول افتراضاتها المسبقة ولا تسمح بالتعددية والاختلاف حتى مع تنوع السياقات الاجتماعية والثقافية، فضلاً عن أنها تنكر إمكانية قيام أي نوع من أنواع المعرفة أو الحقيقة خارجها وتقاوم أي محاولة للتغيير أو النقد أو المراجعة. تقف تلك الخطابات أو السرديات الكبرى خارج الزمن ولا تسمح بالشك في مصداقيتها وتصر على أنها تحمل في داخلها تصورات شمولية للمجتمع والثقافة والتاريخ والكون. ودائما ما تكون السرديات الكبرى ذات طبيعة سلطوية واقصائية تمارس التهميش ضد كل أنواع الخطابات الأخرى الممكنة .يرفض ليوتار السرديات الكبرى، كالماركسية مثلا، ويؤمن بفلسفة الفعل (Philosphy of Action) والتي تكون مرحلية ومؤقتة وراهنة وتخلو من البعد التنظيري الشمولي الذي يميز السرديات الكبرى. ويقول أن على الفلسفة أن تتجاوز التجريد وتتعامل مع الواقع كما هو. فليس موضوع الفلسفة هو البحث في الميافيزيقي أو المطلق مثل الحق والخير والجمال والصدق، وإنما البحث في قضايا الواقع السياسي والاجتماعي الراهن ضمن اللحظة المعاشه، بدون السعي إلى استنباط نظام أو بنية تدعي لنفسها القدرة على تأويل التاريخ والطبيعة والكون . ويذهب ليوتار إلى أن أفضل طريقة لمقاومة هيمنة السرديات الكبرى تتمثل في مجرد التوقف عن الاعتقاد أو الإيمان بها، فهو لا يدعو إلى العنف أو التصدي لها بالقوة، ولكنه يؤكد على أن السرديات الكبرى تعمل من خلال الأفراد أنفسهم. وتبعاً لذلك، فان تعطيل الإيمان بها سوف يفقدها بالنتيجة كل سلطاتها ويقوض هيمنتها.

 

و تبرز، مع رفض التسليم بالسرديات الكبرى وبالخطابات الشمولية، إشكالية فلسفية وفكرية تتعلق بإمكانية إطلاق أحكام القيمة على القضايا مع غياب المرجعية المعيارية. إن وجود السرديات الكبرى يوفر أسسا نظرية ومعايير عامة ذات طبيعة مرجعية عند الحاجة إلى إطلاق أحكام القيمة. فتحديد قيم مثل الخير والشر والعدل والمساواة والصالح العام يصبح صعبا في ظل غياب مرجعيات مشتركة للمجتمع تشكل أرضية للحوار حول طبيعة تلك القيم والقضايا المتعلقة بها. وقد حاول ليوتار أن يواجه هذه الإشكالية في كتابه (مجرد لعب Just Gaming) والصادر عام 1979. والكتاب في مجمله نقاشات حوارية بين ليوتار وجان لوب ثيبود (Jean- Loup Thebaud) امتدت على مدى ستة أيام وتوزعت فصول الكتاب حسب القضية المطروحة للنقاش في كل يوم.

 

يرى ليوتار أن بإمكاننا إطلاق أحكام قيمة حتى مع غياب السرديات الكبرى، وذلك من خلال الحكم على كل حالة على حدة. ويقول ليوتار أن المعيار الذي يتبعه للحكم على القضايا هو غياب المعيارية (The Absence of Criteria) ويطرح مقابل المعيار مفهوم الدنيوية (Paganism) ويعتمد عليه بوصفه مرجعية مؤقتة لإطلاق أحكام قيمة مؤقتة وراهنة أيضاً. ويعد السرديات الكبرى مجرد ألعاب لغوية، وأنها من خلال التزييف والتضليل، تجعل أحكام القيمة مستندة إلى نظام أو بنية تقع خارج المجتمع والتاريخ ولا تخضع للمنطق ولكنها تتمتع بمرجعية شمولية في تأويل كل ما يقع من أحداث داخل ذلك المجتمع والتاريخ(. وهذه القوة التي تمتلكها السرديات الكبرى وتتيح لها تأويل الأحداث المادية الراهنة بوصفها ظواهر تتعلق بقوى ميتافيزيقية خارجية، هي ما يطلق عليه (الصفر العظيم The Great Zero) والذي سبقت الإشارة إليه. ولإطلاق أحكام القيمة على الحالات المؤقتة والمعزولة يطرح ليوتار مفهوم (السرديات الصغرى Little Narrative) بوصفه بديلاً نظريا عن السرديات الكبرى. والسرديات الصغرى هي خطابات تتشكل من قبل جماعات أو تجمعات معينة لتحقيق أهداف محددة ذات طبيعة مرحلية ووقتية وبراغماتية ولا تحمل الطابع الشمولي ولا السلطوي القسري للسرديات الكبرى. فمن الممكن أن تتشكل السرديات الصغرى من بعض المقولات والأهداف التي تطرحها أقلية معينة داخل المجتمع والتي قد تتفق مع المقولات والأهداف لأقليات أخرى ضمن نفس المجتمع، وبمجرد تحقيق تلك الأهداف تنحل السرديات الصغرى تلقائيا وتتلاشى دون أن تتحول إلى أيديولوجيا سياسية أو اجتماعية قارة وثابتة. ويشير ليوتار إلى أحداث عام 1968 في فرنسا وتلاقى مطالب الطلبة والشباب الثائر مع مطالب الطبقة العاملة والحركات النسوية، وتمثلت تلك المطالب بالدعوة إلى تحقيق المزيد من الحريات العامة وتعطيل الممارسات الرأسمالية المتطرفة من قبل الحكومة وتغيير المناهج الدراسية والإدارات الأكاديمية للهيئات التعليمية والجامعات في فرنسا. ولم تتحول تلك المطالب العامة إلى تيار سياسي أو فكري له منظومة من المقولات النظرية والأهداف الشمولية. ولذلك فشل الحزب الشيوعي الفرنسي في احتواء تلك المطالب والانفتاح عليها ومساندتها. فقد كان الحزب يؤمن بنمط من أنماط السرديات الكبرى بينما شكلت تلك المطالب حالة من حالات السرديات الصغرى. وقد تتلاقى السرديات الصغرى لبعض الحركات التحررية اليسارية مع تلك التي تطرحها حركات التحرر العرقي والجنسي مثل حركات السود في أمريكا والحركات الراديكالية النسوية في كل من أمريكا وأوروبا، ولكنها لن تشكل بمجموعها نمطا من أنماط السرديات الكبرى. وذلك لأن لكل حركة من تلك الحركات مرجعية فكرية وثقافية مختلفة ومنهجية سياسية مغايرة. وبهذا يكون التحالف والاتفاق فيما بينها راهنا ومؤقتا.

 

* باحثة ومترجمة فلسطينية حاصلة على ماجستير تكنولوجيا حيوية، ماجستير تربية وعلم نفس، بكالوريوس صيدلة، صدر لها مجموعة أبحاث أبرزها:

1- أفق يتباعد: من الحداثة إلى بعد ما بعد الحداثة، دار نينوى للنشر والتوزيع. دمشق 2014.

2- الإنسان في ما بعد الحداثة، دار يوتوبيا، بغداد، 2014

3- نهايات ما بعد الحداثة: إرهاصات عهد جديد، مكتبة ودار عدنان للنشر 2013.

4- فصل في موسوعة: الفلسفة الغربية المعاصرة: صناعة العقل الغربي من مركزية الحداثة إلى التشفير المزدوج- الجزء الثاني

أضف تعليقك