ما الإيمان؟ ومن المؤمنون

الرابط المختصر

إنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ (سورة فصلت ـ 30).

"إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (سورة البقرة ـ 62).

يقترح سبينوزا مبادئ شاملة للإيمان تتجاوز الأديان والمذاهب، وهي تبدو للمؤمنين بالله جميعاً بغضّ النظر عن أديانهم ومذاهبهم، وهذا هو قانون الإيمان الشامل كما صاغه سبينوزا: "هناك موجود أسمى يحبُّ العدل والإحسان يلزم الجميع طاعته حتى يتمَّ لهم الخلاص، ويتعيَّن عليهم عبادته بمُمارسة العدل والإحسان. وابتداءً من هذا المبدأ نستطيع بسهولةٍ أن نُحدِّد باقي المبادئ، وهي:

1- يُوجد إله، أي موجود أسمى، خيِّر ورحيم على نحوٍ مُطلق؛ أي إنّه بعبارة أخرى نموذج للحياة الحقَّة، فمن لا يعرفه أو يؤمن بوجوده، فإنّه لا يستطيع طاعته أو الاعتراف به حكماً.

2- الله واحد لا شريك له، وهو أمر لا يمكن أن يشكَّ أحد في أنّه ضروري ضرورةً مُطلقة، لكي يكون الله موضوعاً أسمى للخشوع والإجلال والمحبَّة؛ إذ لا ينشأ هذا الخشوع وهذا الإجلال وهذه المحبَّة إلَّا من رفعة هذا الموجود، وسُموِّه على غيره من الموجودات.

3- الله حاضر في كلِّ مكان، ويرى كلَّ شيء، فلو اعتقَدْنا أن شيئاً يَخفى عليه، أو لم نعلم أنّه يرى كلَّ شيء، لتطرَّق إلينا الشكُّ في كمال عدله الذي يخضع له كلُّ شيء.

4- الله له الحقُّ والقدرة المُطلقة على كلّ شيء، وهو لا يُجبَر على أفعاله بل يفعل ما يشاء بمشيئةٍ مُطلقة وبفضل ينفرد به. وعلى حين أنَّ طاعته واجبة على الجميع فإنّه لا يُطيع أحداً.

5- عبادة الله وطاعته لا تكون إلَّا في العدل والإحسان؛ أي في حُبِّ الجار.

6- لا يتمُّ الخلاص إلَّا لمن يُطبِّقون هذه القاعدة في الحياة؛ أي لمن يُطيعون الله، على حين يهلَك من يعيشون تحت سيطرة اللَّذَّات، ولو لم يعتقد الناس بذلك اعتقاداً جازماً، لَمَا كان هناك ما يدعوهم إلى إيثار طاعة الله على السعي وراء اللَّذَّات.

7- وأخيراً، يغفر الله للتائبين خطاياهم، وكلّ بني آدم خطّاؤون، وهذا أمر لو لم يُسلَّم به، ليئس الجميع من خلاصهم، ولَمَا وجدوا سبباً للإيمان بالرّحمة الإلهية. أمّا من يعتقد اعتقاداً جازماً بأنّ الله برحمته وبفضله الذي وَسِع كل شيء يغفر ذنوب البشر حقاً، ومن ثَمَّ من يشتاق حبَّ الله، فإنّه يعرف المسيح حقاً بالرُّوح، ويكون المسيح فيه.

يرى سبينوزا أنّ المؤمن هو الذي يُقدِّم أفضل أعمال العدل والإحسان، وليس بالضرورة من يعرِض أفضل الحجج؛ إذ إنّه حتى المجدفون يستندون إلى النصوص والحجج، ولا تُوجَد أيّة صلة أو قرابة بين الإيمان واللّاهوت من ناحية، وبين الفلسفة من ناحية أخرى، وهذا أمرٌ لا يُمكن أن يجهله من يعلم غايةَ كلٍّ من هذين المبحثَين وأساسه؛ فغاية الفلسفة هي الحق وحده، وغاية الإيمان هي الطاعة والتقوى وحدهما. ومن ناحية أخرى، فإنَّ الأسُس التي تقوم عليها الفلسفة هي الأفكار المُشتركة، وهذه يجب أن تُستخلَص من الطبيعة وحدها، أمّا الإيمان، فأسُسه هي التاريخ وفِقه اللغة، وهي أسُس ينبغي أن تُستمَدَّ من الكتاب والوحي وحدَهما.

ولكن أيضاً فإنّ الإيمان يكفُل لكلّ فردٍ الحريَّة المُطلقة في أن يتفلسف، حتى ليستطيع أن يُفكِّر كما يشاء في أيِّ موضوعٍ، دون أن يكون بذلك قد ارتكب جرماً، وهو لا يُدين إلَّا من يدْعون الناس إلى العصيان والكراهية والمُنازعات والغضب، بوصفهم الخارجين على الدِّين ودُعاة الفتن. أمّا المؤمنون بحقٍّ، فهم عنده أولئك الذين يدعون الناس من حولهم إلى العدل والإحسان بقدر ما تسمح لهم عقولهم وقدراتهم.

وفي ذلك، فإنّه يرى أنّ "الكتاب" لا يحتوي إلَّا على تعاليم يَسيرة ولا يَحثّ إلَّا على الطاعة، وتقتصِر عقيدتُه في الطبيعة الإلهية على ما يُمكن اتِّخاذه قاعدة عملية في حياة الناس اليومية. فالمعرفة العقلية؛ أي المعرفة الصحيحة لله، ليست كالطاعة هِبَة لكلّ المؤمنين. إنّ المعرفة الوحيدة التي طلَبَها الله من جميع الناس بلا استثناء، على لِسان الأنبياء، والتي لا يُمكن إعفاء أحدٍ منها، هي معرفة العدالة الإلهية والإحسان الإلهي. وأمّا المعرفة العقلية، فإنّها لا تنتمي في شيء إلى الإيمان وإلى الدين المُوحى به، وبالتالي يستطيع الناس أن يُخطئوا فيها كما يشاؤون دون أن يرتكبوا جُرماً. والواقع أنَّ الكتاب يتحدَّث على مستوى فَهم العامَّة الذين يهدف الكتاب إلى أن يجعلهم مُطيعين، لا مُتفقِّهين، على أنَّ عامَّة اللّاهوتيين عندما أدركوا بالنور الطبيعي أنّ صِفةً مُعيّنة من هذه الصفات التي تُعطَى لله لا تتَّفِق مع الطبيعة الإلهية، طالبوا بالالتجاء إلى التفسير المجازي، وبأنَّ من الواجب، على العكس من ذلك، أن يُقبَل حرفيّاً كلُّ ما يتجاوز حدود فهمهم. ولكن لو كان من الواجب تفسير جميع نصوص الكتاب من هذا النوع تفسيراً مجازيّاً، لوجب أن نُسلم بأنّ النصَّ لم يُكتب للعامَّة والجهلة، بل كان مُوجَّهاً إلى أكثر الناس خبرةً ومعرفة، وإلى الفلاسفة بوجهٍ خاص. والواقع أنّه لو كان التسليم بروح تقيَّة صافية بالمُعتقدات التي ذكرناها، بدافعٍ من التقوى وصفاء النفس، كفراً، لحرَص الأنبياء أشدَّ الحرص على تجنُّب مثل هذه العبارات، وذلك على الأقلّ لضعف ذهن العامَّة، وليُعبِّروا عن الصفات الإلهية على النحو الذي ينبغي على كلّ فرد إدراكها عليه بوضوح وصراحة، ولكنّ الأنبياء لم يفعلوا ذلك.

إذن فلا ينبغي الاعتقاد بأنَّ الآراء في ذاتها - بغضِّ النظر عن الأعمال- تنطوي على أيّ قدرٍ من الإيمان أو الكفر، فنحن نقول عن الاعتقاد الإنساني إنّه ينطوي على إيمان أو كفر، بقدْرِ ما يحثّ المؤمنين به على الطاعة، أو يُبيح لهم الخطيئة والعصيان؛ وعلى ذلك فإنَّ من يَصحُّ اعتقاده ويعصي، يكذب إيمانه، وعلى العكس فإنَّ من يُخطئ في اعتقاده ويطيع، يصدُق إيمانه؛ ذلك لأنَّ معرفة الله الحقيقية ليست أمراً، بل هبة إلهية، والله لم يطلُب من الناسّ إلا معرفة عدله وإحسانه، وهي معرفة لا تُطلَب من أجل العلم، بل من أجل الطاعة وحدَها.

وبما أنّ الكتاب موجّه إلى جميع الناس على اختلاف مستوياتهم وأفهمامهم، فإنَّ لكلِّ شخصٍ الحق في أن يُكيِّفه حسب معتقداته الخاصة، إذا كان يرى في ذلك وسيلة لطاعة الله، في الأمور المُتعلِّقة بالعدل والإحسان، بنفسٍ راضيةٍ تمام الرضا، لكنّ طبقة من "اللّاهوتيين" منحت نفسها فقط حق معرفة مراد الله، ولم تعترف بذلك للآخرين بالحرّية التي تعتقدها لنفسها، وهم يحتقِرون من يُخالفونهم في الرأي، فيَعُدُّونهم أعداء الله، حتى لو كانوا يعيشون على أشرف نحوٍ يُمكن تصوُّره، ويُمارسون الفضيلة الحقَّة، كما أنّهم على العكس من ذلك، يُحبُّون مَن يَنقادون لهم، وكأنَّهم أصفياء لله، حتى ولو كانوا بعيدين كلَّ البُعد عن الخُلُق القويم.

إنّ نصوص الأنبياء والحواريين نفسها هي التي تشهد أكثر ممّا يشهد العقل نفسه، بأنَّ كلام الله الأبدي، وعهدَه والدينَ الحقَّ، مسطورٌ على نحوٍ إلهي في قلب الإنسان؛ أي في الفكر الإنساني، وهذا هو الميثاق الحقيقي الذي طبَعَه الله بخاتمه؛ أي بفكرته، وكأنَّه طبعَهُ بصورةٍ لألوهيته. في استطاعتنا إذن كما يقول سبينوزا أن نَستنتِج عن حقٍّ أنّ القانون الإلهي الشامل الذي علَّمَه الكتاب قد وصل إلينا كاملاً دون أيّ تحريف.