ليس لكل زمان ولا في كل مكان

ليس لكل زمان ولا في كل مكان
الرابط المختصر

لو لم يقل ابن خلدون سوى مقولته الخالدة: "اتباع التقاليد لا يعني أن الأموات أحياء بل أن الأحياء أموات"، لكان ذلك كافياً أن يجعله من أعظم عظماء عصره والعصور التي تلته.

يحفل القرآن بالآيات التي تنعى على من اختاروا عدم الإيمان برسالة الإسلام؛ أنهم يتبعون ما "ألْفَوا عليه آباءهم" وأنهم لم "يعقلُ" ولم "يتدبرُ" ولم "يتفكرُ"، أي أن المنهج الذي ينتقده القرآن هو منهج الجمود والتقليد والاتباع.

أكثر ما يأخذه أصحاب المذاهب السنية على أتباع المذاهب الشيعية؛ أن هؤلاء يتبنون نهج تقليد الفقيه وإعلان الولاية له دون تدبر أو تفكر، في المقابل، يلوم علماء الشيعة على أهل السنة تجمدهم عند القرون الثلاثة الأولى لبعثة الرسول دون مراعاة لمتغييرات العصور ومتطلبات تطورها. هذا الموقف الناقد للتبعية المطلقة التي تفتئت على العقل وتعطل وظيفته الرئيسية بوصفه الملاذ الوحيد لتجاوز الأزمات الفكرية والوجدانية العقائدية التي تعتري الإنسان يبدو غير منسجم مع نفسه في ما يتعلق بصميم التصور الذي رسّخه علماء الدين –وما يزالون- حول كنه الشريعة وفحوى مبادئها وقواعدها.

لقد سوّق علماء الدين بمجملهم وعلى اختلاف مذاهبهم؛ شعار "الشريعة صالحة لكل زمان ومكان"، حتى بات هذا الشعار بمثابة ركن سادس من أركان الإيمان يقصي جاحده إلى حلبة الكفر ومعاداة الدين. اعتمد الأصوليون المُأصِّلون لهذا الشعار على الآيات من مثيل: "إنّا نحن نزّلنا الذكرى وإنّا له لحافظون"، و "سنة الله، ولن تجد لسنة الله تبديلا" و "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولائك هم الكافرون"، إذ تجلت قريحة "الراسخون في العلم" بعد أن قَدَحوا زناد فكرهم في "تأمل" هذه الآيات، عن استنتاج أن البشرية برمتها بصدد منهج حياة يجب أن تتوقف عنده الحياة، ليكون ذلك المنهج صالحاً وسائغاً في مقدماته ونتائجه.

لقد ربط العديد من الأصوليين بين صفة الصلاحية المطلقة للنص الديني وبين وجوب جمود ذلك النص، إذ سوف يحقق هذا الربط أمرين رئيسيين: الأول تأكيد قاعدة "حفظ النص" واستعصائه على التغيير أو التحريف، والأمر الثاني؛ جعل معيار "الصلاحية المطلقة" مرجعه النص ذاته بمعزل عن الواقع وما يعكسه من متغيرات وما يفرضه من متطلبات، أي أن النص الديني غدى عنوان الصلاحية ومعيار تحققها على كل سياق زماني ومكاني تسري فيه أحكامه، فكل ما خالف النص غير صالح وكل ما وافقه صَلُحَ وصَحَّ، هذه التوليفة الغريبة هي التي أفرزت قاعدةً أصوليةً كارثيةً هي: "الصواب ما صوبه الشرع والخطأ ما خطأه الشرع"، بعبارة أخرى، إننا بصدد منهجية يقول أصحابها: "النص معيار الصواب والخطأ، وصلاح المجتمع يتحقق بموافقة سياقاته لمحتوى النص، وهذا ما يجعل النص صالح لكل زمان ومكان". نحن أمام معادلة اشتملت على كل شيء باستثناء كل شيء، ألا وهو التطور الطبيعي في الظواهر الاجتماعية والتقدم المطرد في المجالات المعرفية والعلمية التي يصاحبها تغير جذري في الاحتياجات التنظيمية، مما يتطلب وجود قواعد وأحكام تشريعية مرنة تعكس ما يدور في نطاق تطبيقها أكثر مما تفرضه من أحكام على ذلك النطاق.

شعار "الشريعة صالحة لكل زمان ومكان" في حقيقته يضع الدين والتطور الطبيعي للحياة بمختلف جوانبها؛ على طرفي نقيض بل في حالة صراع يجب أن ينتصر فيه أحدهما على الآخر، ذلك أن في جعل منظومة تشريعية ما صالحةً لكل زمان ومكان؛ يتطلب أن يتوقف الزمان وينحصر المكان عند حدود تلك المنظومة، والقول بغير ذلك سوف ينقلنا للتفكير بأن هذه المنظومة التشريعية إما أنها لا تصلح لكل زمان ومكان عملا ومنطقا، وإما أنها واجبة التغيير والتطوير، وهذا سيذهب بمفهوم "الصلاحية الأزلية المطلقة" أدراج الرياح، إذ أنه مبني على صفة الثبات والجمود المستمدة بدورها من خلود النص والوعد الإلاهي بحفظه من التغيير والتبديل وفقاً لفهم علماء العقيدة والتفسير. هذه العلاقة التناسبية العكسية بين النظرية والواقع، تفسر التلازمية الأبدية بين تبني منهج ديني للحكم وإدارة شؤون الدولة وتنظيم حقوق الأفراد وواجباتهم من جهة، وبين تباطؤ التطور المدني وتراخي التقدم المعرفي والعلمي من جهة أخرى.

التحليل الموضوعي لشعار "الشريعة صالحة لكل زمان ومكان"، يتطلب النظر إلى سياقه التاريخي ووقائع توظيفه سياسياً منذ بروزه وحتى يومنا الحاضر. لقد اعتلى الخلفاء المسلمون على مدار الماضي من القرون سدة الحكم باسم الدين وبمسوغ من البيعة التي أضفت عليهم صبغة المشروعية وحرّمت على من بايعووا الخروج عليهم والثورة ضدهم، حيث راجت الأحاديث النبوية التي تجعل من الخروج على الحاكم موبقاً ووزراً يضاهي في فداحته الكفر والشرك بالله، أي أنه يوازي نقض الدين وتعمد تخريبه. كان الحاكم المسلم في كل زمان ومكان؛ يمثل كلمة الله وتطبيق شرعه لذلك فإن من يحكم به يستمد صفة "الصلاحية المطلقة" منه، لتغدو محاولات الخروج عليه من أعمال الإفساد في الأرض وهدم رمز صلاحها، وهذا الوصف التخويني ينطبق على الممارسة الديمقراطية التي يشكل تداول السلطة قوامها، من هنا، يبدو جلياً السبب العقائدي بل والسياسي لتحريم الديمقراطية واعتبارها كفراً بواحاً كما يذهب إلى ذلك جمهور علماء السلف والخلف.

لا ضير في الاعتقاد بثبات العقيدة في شقها التعبدي، لكن الخطر كل الخطر أسر الزمان والمكان في قيود إن لم نزلها بأيدينا فسوف تتآكل بسبب عوامل التعرية الفكرية والعلمية، الخيار لنا، فإما أن نكون أموات يتبعون أموات أو أحياء يحيون الموات.

* خبير دولي في التحليل القانوني وصياغة التشريعات وحقوق الإنسان.

أضف تعليقك