لميس اندوني تكتب عن ظاهرة "المتصهين العربي"

إلى دعاة التطبيع والمتصهينين العرب
الرابط المختصر

بداية، يجب التوضيح أن تعبير المتصهين يعني الشخص الذي يقبل الرواية الصهيونية لاستعمار فلسطين، أو يدعو إلى قبول نتائجها أمرا واقعا من دون مقاومة، أو حتى رفض لفظي، ويجد أن المواجهة الفكرية أو القتالية أو السياسية مع الصهيونية "تعرقل" عملية التحاق العالم العربي بركب الحضارة والتمدّن والازدهار الاقتصادي، وكأن رفض الفلسطيني الاحتلال جريمة بحق الحضارة الإنسانية.

 

المعنى الفعلي لرسالة المتصهينين هي أن الفلسطيني وقضيته أصبحا عبئاً على الدول العربية، وكأن إسرائيل دولة مسالمة، بل وصديقة وحليفة، تضع في أولوياتها تقدّم العالم العربي، لكنها لا تستطيع القيام بمهمتها الإنسانية نتيجة مقاومة الفلسطينيين، أو عنفهم أو حتى إرهابهم، فلا فرق لديهم بين المفاهيم. 



ظاهرة المتصهين العربي الذي يرحب بالتطبيع، بل ويهاجم مناهضة التطبيع مع الكيان الصهيوني، باعتبار ذلك مؤشّراً على "رفض الآخر"، و"رفض التنوع الثقافي"، ودليلاً على تخلف همجي، فالمطلوب فك ارتباط المجتمع العربي بالقضية الفلسطينية شرطا للتنوير والانفتاح على الثقافات والعالم.



ليس الكلام هنا عن حكومات، أو حتى عن عملاء للمخابرات الإسرائيلية (الموساد)، فالحكومات لا تتحكم في قرارها، نتيجة التبعية السياسية والاقتصادية للولايات المتحدة، ونستطيع مواجهتها مباشرة، والعميل لا يبرّر عمالته فكراً وأخلاقاً، بل عن كتّاب و"مثقفين" وأصوات تنتشر على مواقع التواصل الاجتماعي، والتي تتسابق على شتم الفلسطيني، وعن مقالات منمقة لغوياً وفكرياً، تقوم بتصوير الاستسلام عملاً "تقدّمياً" وحضاريا للخروج من الأزمات الاقتصادية الاجتماعية في دول الطوق العربي. 



بعيداً عن الشتائم الموجهة للفلسطينيين، الأخطر هي المقولات "الفكرية" و"التقدمية" شكلاً، والتي توفر غطاء للإهانات اللفظية، وتساهم في تشويه الوعي، بفصلها المتعمد بين قضايا التنمية والعدالة الاجتماعية وفكرة المساواة والتنوع الديني وبين القضايا الوطنية التحرّرية، فدعوة فنانين وعلماء إلى مقاطعة إسرائيل تقدّم من هؤلاء دليلا لرفض الفن والعلم، بدعوى ضرورة فصلهما عن السياسة. 

المشكلة في هذه المقولات والحجج أن إسرائيل نفسها لا تؤمن بهذا الفصل؛ فكل معرض أو عرض أو حفل هو جزء من إضفاء شرعية أخلاقية حضارية على جرائم الاحتلال. ولذلك ما تقوم به حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات (بي دي إس) من إسرائيل، على أقل تقدير في تأثيره، إذا لم ينجح في هدفه، يبقى حملة توعوية نوعية ومحاولة لإيقاظ الضمير وفتح العيون على حقيقة الدولة الكولونيالية. وفي حالة الشركات التي تتعامل مع إسرائيل مثلاً، فالحملة هي تهديد مشروع لمصالحها وأرباحها. ولذلك تتجاوب بعض الشركات بسحب منتجاتها أو بإغلاق فروعها في المستوطنات الاستعمارية.



على الرغم من خطورة الهجوم على حركة المقاطعة، الأخطر هو بيع الوهم بأن التعامل العربي مع إسرائيل هو السبيل إلى النهوض بالاقتصاد العربي، فبعض الكتاب يرى أن التطور التكنولوجي الإسرائيلي سيكون رافعة للتطور التكنولوجي في البلاد العربية، ولا أدري كيف توصل هؤلاء إلى هذه الاستنتاجات، وهم يرون جرائم إسرائيل اليومية، وتدريبها أجهزة قمع في العالم، وتطويرها أجهزة التنصت، وبيعها إلى الأنظمة البوليسية. وهناك الأسلحة الفتاكة التي لا تستطيع الولايات المتحدة بيعها جهارا، فتبيعها إسرائيل لقمع شعوبٍ وإخضاعها. 



وماذا كانت إسرائيل تنتظر منذ توقيع اتفاقيتي كامب ديفيد مع مصر ووادي عربة مع الأردن لدعم الاقتصادين، المصري والأردني؟ إضفاء هالة الحضارة والتقدّم على إسرائيل، وكأنها رديف لقيم المساواة والعدل، هو قبول غير أخلاقي للجريمة التاريخية للحركة الصهيونية، باقتلاع الشعب الفلسطيني وتشريده من وطنه، وعدم ممانعة في استمرار عمليات الاستيلاء على الأراضي وطرد السكان وتهديم البيوت وقتل الأطفال واستعمال الذخائر الحية بشكل يؤدي إلى بتر الأطراف والإعاقات الدائمة.



لا تؤثر هذه الأفعال في المتصهينين العرب الذين لا يرون سوى مصالح ضيقة ومكاسب موهومة، تفضح، في جوهرها، عقليةً دونية، تشعر بأنها أقل شأنا من المستعمر الحضاري المتفوق، ورغبة في التشبه به، حتى وإن كان يرفضه، لأنه يؤمن ويمارس الاستعلاء العنصري المدعوم بترسانة عسكرية. ولا يشرح هؤلاء كيف ستساهم هذه العلاقة غير المتكافئة مع الدولة الصهيونية في نشر ثقافة تنويرية، يدعو بعض منهم إليها، حتى أن مقالات متحمسة للعلاقة مع  

 

إسرائيل هي لكتّاب يتحدثون عن نبذ الكراهية، ولا يعارضون، بل يتعاملون بإعجابٍ مع دولة مقامة على أرض مغتصبة، مؤسسة على ثقافة الكراهية، فالفصل العنصري هو ممارسة لثقافة الكراهية وتعميق لها، وقانون الجنسية التي تتفاخر إسرائيل به هو دسترة للكراهية وقوننة وشرعنة لها، والتمييز العنصري ضد يهود الفلاشا التي عملت إسرائيل على إحضارهم لتكون الأغلبية لليهود، ثم تضطهدهم اجتماعياً واقتصادياً بسبب لونهم، عنوان آخر للكراهية.



صحيحٌ أن اليهود الإثيوبيين لا يشكلون الخطر العربي الفلسطيني نفسه على ديمغرافية الدولة ونقائها، ولذا تكون وسائل القمع، وإن كانت قاسية وغير مبرّرة، أقل دموية من التعامل مع الفلسطينيين، ولكن الفكرة الصهيونية، وإن تحدّث مؤسسو إسرائيل عن "صهر" الإثنيات والقوميات المختلفة للمهاجرين في "بوتقة" مجتمعٍ متماثل توحّده الهوية اليهودية، تبقى الفكرة الصهيونية عنصريةً، ترى نفسها جزءا من العرق الأبيض الأوروبي المتفوق، على الرغم من جريمة المحرقة ضد اليهود.



لا تختلف كل المسوغات التي يسوقها المتصهينون ضد الفلسطينيين وقضيتهم عن مسوغات أشباه المثقفين والفئات التي ارتضت أن تخدم الاستعمارين، القديم والجديد، عبر تاريخهما، ولا مشروعية وطنية لها، إذ دائماً تكون هناك فئات مستفيدة من بقاء الاستعمار وتوسيعه. الجديد هو ظهور مقولات مزيفة عن العدالة الاجتماعية، دخلت في موضوع ترويج مشاريع اقتصادية مع إسرائيل، تحاجج أن تَحَكُم الأوليغاركية (الأقلية)، أو مجموعة ضيقة من المتنفذين في القرارين، السياسي والاقتصادي، يمنع فوائد التطبيع وموارده من التوزيع العادل في المجتمع،  

 

أي أنه لا بأس من استمرار قتل الفلسطينيين، إن كان هناك إنصافٌ في توزيع المكاسب. ولكنها مقولة خاطئة من أصلها، حتى من وجهة الاقتصاد الوطني في الأردن أو مصر أو أي دولة عربية لها مشاريع اقتصادية مع إسرائيل. مثال على ذلك إجبار المزارعين في شمال الأردن على بيع جزء من أراضيهم الخصبة لمشروع بناء خط الغاز (الإسرائيلي) المسروق من الفلسطينيين، بما يعنيه ذلك من تدمير للأراضي الزراعية المحاذية للأنبوب.. لماذا لم يتحرك دعاة التطبيع لنصرة هؤلاء، أم أنهم يعتقدون أن هناك أملا في توسيع الأوليغاركية قليلا حتى تشملهم؟



هجوم المتصهينين اللافت على الفلسطينيين هو نتيجة تواطؤ بعض الأنظمة مع خطة الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، لتصفية القضية الفلسطينية، وبروز اتجاهات الإقليمية العنصرية في بعض البلاد العربية، أمام الاختباء وراء مقولات الحضارة والتقدم الإنساني، نتيجة التقارب مع إسرائيل، ما هو إلا ترويج مقصود أو غير مقصود لجرائم العنصرية الصهيونية ضد الشعب الفلسطيني. (العربي الجديد)