لماذا لم يقرعوا جدران الخزان هذا ما حصل مع حجاج أردنيين

الرابط المختصر

 

"الساعة الثالثة عصرا، درجة الحرارة كمرجل داخل مكة، أما السكن فجهنم اللهم أجرنا" تصف  أم محمد ظروف سكنها الذي عاشت فيه لأكثر من أربعين يوميا - في منطقة العزيزية - متهيئة لأداء مناسك الحج! حيث كانت مع مجموعة ممن خرجوا على جناح حلم رسمه لهم أفراد من شركات العمرة.

توضح سبب سفرها بالقول:" صرت على عتبة السبعين وخفت ما أحج، قدمت وما طلعلي" تشير لإعلان وزارة الأوقاف الأردنية  شباط الماضي، قوائم الحجاج البالغ عددهم 8 آلاف حاج إلى جانب 4500 حاج من عرب 1948م، وهو العدد المقرر للأردن من قبل وزارة الحج السعودية، يلحقه غالبا فيز المجاملة هدايا من سعوديين لبعض الخواص في الأردن، وآخرى مكرمة سنوية من الديوان الملكي لا يتجاوز عددها 200.

 لتبدأ الحكاية  بحسب أم محمد بزيارة جاراتها في شهر رمضان، وما قصته عليها من تجربة حج لسيدة، لم تنتظر دور وزارة الأوقاف، أو دفع المبلغ الخيالي حسب وصفها، ما شجعها لتعرض الأمر على بعض الأصدقاء، ولأن الخوارزميات تلتقط أحاديث الناس، ظهر لها أثناء تصفح  الفيسبوك إعلانات من هذا القبيل، فعزمت أمرها.

تقول:" ارسلت لي الجارة رقم أحد المعلنين، وهو موظف حكومي له  بزنزه الخاص، قالت لي اسألوه هل ينظم حج؟" تواصلت معه فأكد الخبر، وأرسل لها ترتيبا، كان أوله ضرورة  قطع تأشيرة سياحية أطلقتها وزارة الخارجية السعودية  في سبتمبر من عام 2019م، وفق التعليمات تنتهي قبل  بدء  موسم الحج بأسبوعين، يكون ذلك بتاريخ 15 ذو القعدة، ومن يتجاوز يعد مخالفا.

أم  محمد كغيرها ممن سجلو مع شركات يعلمون أنها مخالفة لأنظمة الحج السعودية، تقول " هم قالوا الكم تكونوا مبسوطين، الحجة مضمونة ومو أول مرة نحجج الناس" فسألتها، هل بينكم عقد؟، قالت: " تعاقدنا شفويا" انتظرت بعد ذلك ونحو 100 أردنيا وأردنية للسفر مع هذه الشركة  صدور التأشيرة، فاستلمتها منتصف نيسان، ومن ثم جاء التوجيه الثاني، وهو التسجيل على تطبيق نسك لأداء "عمرة " وأضافهم لمجموعة واتساب للمتابعة.
 

بيع الوهم

ارتأى بعض رفاق الرحلة التوسع بطرح الاسئلة على المرشد حول  السكن والنقل، ليطمئنهم بأنه قريب من الحرم 6 كم، ولهم بعد تأدية العمرة التجول بمحيطه، كما وسيستلم كل منهم بطاقة تعريفية "تأشيرة حج"  ليلة عرفة؛لحمايتهم من الملاحقة القانونية ، وسيقلهم باص إلى جبل عرفات من السكن مباشرة، قبل أيام على مسير الرحلة بدأت مشادات عبر الواتساب، لدى سماع ترحيل السلطات السعودية  قوافل من الحدود أول أيار، ليهدأ روعهم ويصفها المرشد المكنى *" أبو رية" بالاشاعات ، ويؤكد لهم ضرورة استيفاء  600 دينار أردني قبل السفر، ودفع  الجزء المتبقي 600 دينار أخرى حال وصول مكة.
 

في اليوم الموعود، 8 أيار غادرو نقطة حدود العمري، قضوا ليلتين على الطريق ليحطوا الرحال في مكة مساءًا، أدوا العمرة، لزموا الصلاة في الحرم يوميا، وبحلول 24 مايو أبصروا وجه  آخر من سفرهم، كانت آخر جمعة يصلوا فيها في الحرم، جاءت تعليمات المرشد ليقلصوا مساحة تجوالهم في العزيزية حتى إشعار آخر.


 

قانون نافذ

 انتفض الحجاج، وأفصح عن تعزيز الحملات الأمنية على الفنادق والمجمعات السكنية؛ للتأكد من خلوها من المخالفين، تم خلالها ترحيل الحجاج لجدة بإعلان وسم #لاحج_بلا_تصريح  في 13 أيار، يهدف  لتأمين حج آمن بأركانه الصحية و الإيوائية والإعاشة، ففي الأول من  حزيران أعلن رئيس اللجنة الأمنية للحج ضبط  (17615) شخصًا لا يحملون تصاريح حج نظامية ، ( 9509)


 

مخالفين لأنظمة الإقامة، و(105) حملات حجٍّ وهمية تم إحالتهم إلى النيابة العامة، كان من ضمنهم مواطنين أردنيين.
 

أما عن طبيعة المخالفة، ففي عام2013 حاولت إمارة مكة الحد من أعداد مخالفي أنظمة الحج باستحداث نظام بالسجن أو الإبعاد للمخالفين وفق قانون تنظيم معاملة القادمين  للمملكة بتأشيرات دخول للحج والعمرة لعام1984م، وما أعلنته وزارة الداخلية السعودية  لهذا العام من  تطبيق  تأكيدا للعقوبة اعتبارًا من 2 حزيران وحتى 20 من الشهر ذاته، تمثلت الغرامة  بقيمة (10,000) ريال، وترحيل المقيمين منهم لبلادهم والمنع من دخول المملكة  لمدة نظامية.


 

كابوس مابعد 24 أيار

أمام ذلك كله ضيق المرشد حركتهم فمنع  خروجهم من السكن، بعد يوم من ذلك التاريخ، لعاشوا ظروفا صعبة، سألته أم محمد ممتعضة "ليش السجن، ما حكيتولنا هيك" ليرد " يما, السكن غير مرخص، لا نضر صاحبه ولا ننضر" تبرير وصفته بالصفعة، لم تكن تعلم حينها ما ينتظرها من صفعات، ففي إحدى الصباحات، لاحظت تغطية  الأبواب والشبابيك بأكيساس سوداء بحجة ألا ينفذ الضوء ليلا منها.

كما اضطرت وثلاثة شريكات لها في الغرفة لإطفاء المكيف في ظهيرة ملتهبة، لتكاد إحداهن لفظ أنفاسها، إذعانا لطلب المرشد أيضًا، فالشرطة ترحل الأردنيين في السكن المجاور! ناهيك عن انقطاع متكرر للكهرباء، ليصاب الجميع بقلق وتوتر يومي، أنهكهم نفسيا، باتوا كنزلاء السجن على حد تعبيرها، صورة لم يضعهم فيها قبيل  مغادرة عمّان، تتأمل أم محمد فلا تجد جوابا لسؤال لماذا لم يقرعوا جدران الخزان؟، سوى الخوف من إفلات حلمهم. 

في المجمع السكني المجاور لها، كانت تقطن ابنة الحي رويدة،تتصل يوميا لتطمئن على أم محمد، رويدة سجلت مع شركة أخرى في حملة خارج وزارة الأوقاف الاردنية، تصف ما عاشته من فزع لأيام:" كنا نسمع صوت الناس في الأدوار  يصرخوا مشان الله خلونا نكمل الحج، والشرطة تطلب منهم الإخلاء وإلا خلعوا الأبواب" في اليوم التالي طالبت رويدة ومن رافقها من مسير الرحلة بسكن آمن، ليجد لهم الأخير سكنا آخر، فنفذوا من الملاحقة.

 

نقض العهد

قبيل يوم عرفات بساعات، اعتقدت أم محمد أنه الفرج، حين دعا" أبو رية"الحجاج ليتهيئوا ركوب الباصات، طاروا فرحا وما أن تجهزوا، وصلتهم رسالة واتساب "الباصات حجزتها السلطات" ومن يود الذهاب سيستأجروا باص لسعودي لقاء 200دينار أردني على الحاج الواحد، وما أن لقي الاقتراح قبول البعض، غير المرشد ساعة الانطلاقة، لتبعد الشقة عليهم و يسيطر هاجس تأخر الوصول إلى المشعر.

سلمهم المرشد  تصريحا للحج "باجات"، كما وعدهم في عمّان، ليكتشفوا لاحقا أنها مزورة، بيانات مضللة، أعلاها أنهم موفدين عن طريق وزارة الأوقاف الأردنية، ودون اسم فندق ليسوا من نزلاءه، وخدمات تفويج لعرفات!

ارتدوها ونزل العشرات منتصف الليل من السكن راجلين قاصدين عرفات على بعد 16كم، بعيون هدها الأرق، وقلوب متلهفة لهذه اللحظة، سابقت خطواتهم طلوع الشمس؛ ليكسبوا كيلومترات أقل حرا، لم يجدو عربات تقلهم، فالسلطات السعودية أوقفت المواصلات مع بدء المشاعر، خلال تلك المدة، إلا من بعض الكراسي المتحركة يجرها شبان، بتسعيرة بلغت مئة دينار أردني لكل 5كم.

على امتداد الطريق، كانت عين الشمس تضرب رؤوسهم، وطوال تلك الساعات وطائرات الاسعاف تطوف فوقهم، تقول  ام محمد :" كغير نظاميين، ظل الظن أن يقدروا ما سيصيبنا من مشقة لحين وصولنا لعرفات فيتصرفوا"، وتضيف. " وخاب ظننا..".
 

الموت ينتظرهم

على بعد كيلو مترا من بداية عرفات، ثقلت خطى أم محمد والجمع، زاغت عيونهم وتراءى لهم السراب، تقول" فرن، كما لو أني وضعت رأسي بفرن، مع اني أحمل مظلة!"  ارتمى الحجاج على الرصيف مبللة ملابسهم بالعرق؛ ليتفيئوا تحت شجيرات لا تكاد تمسح عنهم تعب أو تنقذهم بنسمة هواء في عرفات، والتي تمتد مساحتها على أرض مستوية لنحو 10كم مربع وتبعد عن مكة نحو 20كم. 





 

وصلو المشعر بشق الأنفس ملبين، جالت أم محمد بعينيها لتفقد أخواتها، فلمحت الوسطى تنهض فجأة بوجه شاحب متورد، لا تكاد تفهم ما تريد، رمقتهم بنظرة وقالت فقط" حر ..حر" وألقت حقيبتها، ومطرة بيدها، وتوجهت لثلاجة ماء خلف الشجيرات على مسافة لا تتجاوز  مترين على حد تقديرها، نهضن خلفها، لتغدو بلحظة سراب، اختفت. 

أطبقت الدنيا عليهن، فلقد أفزعهن رؤية حجاج متوفين على جنبات الطريق، وضعن كل احتمال، تقول أم محمد، بعد ساعة من الانتظارعلها تعود لنفس المكان، توالت الناس عليه حتى ازدحم، فتذكرنا ما اتفقنا عليه في السكن" من يضيع يكمل المناسك ويعود إليه" وهكذا فعلن، مرت شمس عرفة ومزدلفة، وعدن فلم يجدنها!

 

غضب شعبي

لم تكن أختها أول من فقدت في هذا الحج، إذ أسفرت ساعات ما بعد وقفة عرفة، عن أعداد متزايدة للمفقودين، فجع أهليهم أيام عيد الأضحى بخبر وفاتهم في عدد من مشافي مكة، كان أكثرهم من الاردن ومصر، ثار غضب الناس، لتعليق وزارة الخارجية والقنصلية الاردنية في جدة، بوصفهم  "حجاج غير نظاميين"، وحملوا الشركات مسؤولية ما حل بهم.

علق مواطن " سمحت لهم السلطات السعودية بآخر ساعة من يوم الجمعة باتمام المناسك، بحين منعت استخدامهم وسائل النقل، مشوا بالحر تلك المسافة تعني حتمية الهلاك"، ونشر الإعلامي عامر الرجوب على الفيسبوك:" الأردني بحق حاله ضعيف.. أيعقل التمييز حتى في الموت" لا إله إلا الله.."، فيما تعجب وزير الإعلام الأسبق سميح المعايطة من الحدث خلال تغريدة على منصة اكس.

 

القانون لجانب المتضررين

بعد جملة انتقادات،أعلن رسميا في الأردن عن محاكمة كل من ضلل المواطنين وعرضهم للملاحقة القانونية، لما تسببو به من مخاطر، تتابعت التصريحات، ليوعز رئيس الوزراء بشر الخصاونة أمس للهيئات المختصة بتزويد القضاء بالبيانات.




 

أما المحامي محمود البستنجي فيقول:" نحن بصدد جريمة مستوفية كامل أركانها، هي جريمة إحتيال أولا، وفي شق آخر أمام جرم التسبب بالوفاة، أما الإيهام بوجود شيء،فكان  منحهم تصاريح، ما دفع الناس للسفر خلال الشركات بغية الحج، فتفاجأوا بعدم توفرها" ويضيف أن ثمة دعاوي حقوقية يترتب عليها الإضرار بالغير وحق ذوي المتوفين بالتعويض، وفق المادة (256) من القانون المدني "بأن كل إضرار بالغير يلزم فاعله بضمان الضرر"على ضوء عدم معرفتهم بالصعوبات التي ستواجههم، كما نصح  البستنجي حال التقدم بشكوى وجود شهود من  المتضررين، وأشار إلى تصرف الشركات وما تسببته من ضرر للحق العام وردة فعل السعودية.

إستمع الآن


 

وعن ترخيص تلك الشركات يؤكد الناطق الإعلامي لوزارة الأوقاف القول: "لم نسمع لغاية الآن أن هنالك شركات حج وعمرة مرخصة أقلت حجاجا مخالفين، كل ما سمعناه أنهم خرجوا عن طريق سماسرة".
 

رحلة البحث عن المفقودين

أمام الغضب الشعبي، وخلال الساعات الأولى لعيد الأضحى تداول الناس  أخبار المفقودين، إذ نشطت عدد من مجموعات الفيسبوك كنواة للبحث وطمأنة الناس على ذويهم، فالبعض غاب لثلاثة ليال، وحتى لحظة كتابة التقرير لم يعد العشرات منهم!

أعلمت  عائلة أم محمد السفارة عن فقدانها بعد انقضاء ليلة مزدلفة، واستعانت بعدة صفحات وجهت خلالها نداءات للوصول لاختها، وبحلول ثالث أيام العيد 18 حزيران، أعلنت وزارة الخارجية الأردنية عن إصدار 41 تصريح لدفن حجاج أردنيين في مكة، أحدها لأخت  أم محمد وحاجتين من نفس السكن، فيما عثر على 84 حاجا أردنيا، من بين 106 ظلوا مسجلين على قوائم المفقودين.



 

لم تسمح السلطات السعودية برؤية ذوي المتوفين ممن اختار دفنه في مكة، واكتفوا بمنحهم الصلاة على فقيدهم ومعرفة رقم قبره، وفي 21 من حزيران أعلنت وزارة الخارجية ارتفاع عدد الوفيات إلى 75،مع تأكيد أنهم "خارج بعثة وزارة الأوقاف"، وهو ما جرى على لسان كل من الحكومة المصرية والتونسية، إذ سجل أعلى وفيات بين صفوف المصريين نحو 600حاجا وحاجة، وتجاوزت عدد الوفيات لموسم الحج هذا العام ألف حاج، فيما بقي مئات المفقودين حتى كتابة هذا التقرير.






 

صرحت وزارة الصحة السعودية بأن أغلب حالات الوفاة نتيجة حالة الاجهاد الحراري للحجاج، لارتفاع درجة الحرارة في المشاعر المقدسة من الساعة 11 صباحا وحتى 4 عصرا، وعلق  الدكتور محمد بن خالد العبد العالي، على ارتفاع عدد ضربات الشمس لنحو2,764  أنه كان بالإمكان تلافي ذلك بعدم خروج الحجيج إلا بمظلة وللضرورة، وكان معظم المتوفين ممن قطعوا 20نحو كم من سكنهم وحتى مشعر عرفات.


عادت قوافل الشركات إلى الأردن وخيم الحزن والشرود، لا فرحة أم محمد اكتملت ولا الجرح التئم، إذ فرغت بعض مقاعد الباصات من أحد أفراد العائلة أو أحد الاصدقاء، من كان أنسه طوال رحلته إلى مكة، لتفتح بيوت عزاء، أما عما  سيفعلونه بحق تلك الشركات، فلا أحد ممن سألتهم يود الحديث، لكنهم اتفقوا على أن ثمة قضاء عادل.