لماذا تعادي هذه الأنظمة شعوبها؟

الرابط المختصر

مسألة معاداة الأنظمة الشعوب أو محاربتها ليست جديدة، لكن لا بد من الاستمرار بطرح الموضوع والتساؤل عن أسبابه، ليس من قبيل السذاجة، بل بهدف الاستنكار والإدانة. فمعظم الأنظمة العربية تخاف من شعوبها، وتلجأ إلى لجم الحرّيات والقمع بدرجاتٍ متفاوتة، وكل أنواع القمع مرفوضة. فلا يكاد يمضي شهر، وأحياناً يوم، إلا وتطالعنا أعداد للموقوفين السياسيين، والمحكومين من دون محاكمات عادلة، أو حتى أنباء عن تعذيب يُرهق أجساداً ويعطّلها أو يزهق أرواحاً كلّ ذنبها معارضة أو حتى مجرّد انتقاد نظام أو حاكم أو مسؤول كبير أو صغير. الفرق في شدّة القمع أو قسوته هو ما يميّز بين الأنظمة العربية؛ فبدل أن يكون هناك سباق في توسيع الحرّيات نرى سباقاً على تضييقها.

المفارقة أن معيار الاضطهاد زاد في بعض الدول بعد الانتفاضات العربية، التي لم تنجح في إحداث تغيير جذري في بنية أنظمة تسلّطية، فتمكّنت الثورة المضادّة من الانقلاب على حراك الشارع، الذي افتقد إلى قيادة موحّدة ذات رؤية تحرّرية استراتيجية، أو قادت جزءاً منه قوى لم تفهم خطر الليبرالية الجديدة وضرورة العمل على الانعتاق من التبعية للدول الغربية ومؤسّساتها المالية، ففكرة الندّية في التعامل لم تكن واضحة لقياداتٍ كثيرة في حينها، وهي ليست واضحة حتى لكثيرين من المطالبين بالتغيير حالياً، خصوصاً أن الدول الغربية، والولايات المتحدة تحديداً، دخلت أو عزّزت تأثيرها من خلال التمويل والتأثير في أجندات المجتمع المدني.

لكن، ما تقدّم لا يمكن أن يشكّل ذريعة لأي نظام، حليف لأميركا أو "معادٍ لها" بالشعارات أكثر من الفعل في أغلب الأحيان، فغياب المؤسّسات الوطنية لتشغيل الشباب وإتاحة مساحات للنقاش، إضافة إلى منع الأحزاب أو التخويف منها، أو تطويعها، وحتى تصنيع أحزابٍ مواليةٍ كما يحدُث في أكثر من دولة عربية، تدفع الشباب والنشطاء إلى مؤسّسات ممولة غربية.

بدلاً من الانفتاح على شعوبها بعد الانتفاضات العربية، قاد الحكومات العربية رعبها إلى الانقضاض على حرية التعبير

لا ننكر هنا النفاق والانتهازية العالية لدى بعض من يدّعي التزام حقوق الإنسان، فهذا للأسف متوقع، فأي مصدر رزق أو اغتناء أو سفر يفتح معه باب الانتهازية، إنْ في مؤسّسات الدول أو في مؤسّسات المجتمع المدني، لكن المسؤولية تقع على الدولة في الأساس لضمان حقوق المواطنة والمساواة، وإرساء قواعد العدالة الاجتماعية، ولو بحدودها الدنيا. لكن معظم الدول العربية لا تفهم الانفتاح إلا بالانصياع لضغوط الغرب بالتخلّي عن مسؤولياتها تجاه توفير التعليم والرعاية الصحية، إذ ينزلق الكل في الاتجاه السائد عالمياً، بالرغم من كل شواهد تدمير الرعاية الصحّية وفرص التعليم وتأمين شبكات المواصلات العامة، إن في بريطانيا أو أميركا، نتيجة سياسات "اللبرلة" الوحشية التي ما انفكّ يحذّر منها خبراء حتى من داخل المؤسّسات الأميركية، لكن الحكومات العربية لا تقرأ ولا تسمع. فبدلاً من الانفتاح على شعوبها بعد الانتفاضات العربية، قادها رعبها إلى الانقضاض على حرّية التعبير، وإلى إغلاق الساحات والميادين لمنع تكرار ظاهرة "ميدان التحرير"؛ ففي البحرين دمّرت السلطات ميدان اللؤلؤة، وفي الأردن أغلقت الدوار الرابع بالقرب من دار رئاسة الوزراء، ودوار جمال عبد الناصر، حتى لا تصبح رمزاً للمعارضة. والغريب أن الأردن بالذات لم يكن بحاجة إلى أيٍّ من هذه الخطوات، فكل التظاهرات والاعتصامات لم تشكّل خطراً على النظام، بل كانت تطالب بالإصلاح، باستثناء شعارات فردية هنا وهناك.

تختلف درجة حجب الحريات والحجر على العمل السياسي من دولة إلى أخرى، فمِن دولٍ يختفي فيها المعارضون أو يُزجّون في السجون فترات طويلة، كما في سورية ومصر وبعض الدول الخليجية، إلى بلد مثل الأردن الذي لم يشهد اختفاء أي معارض، لكن تضييق الخناق يعمّق الأزمة ويشكّل خطراً أكبر من أي شعار معارض. الأهم أن مبدأ التضييق مُدان من حيث المبدأ بغضّ النظر عن درجات القمع وكبت الحريات. وللأسف، ما تعلمته الأنظمة ما بعد الانتفاضات هو إيجاد سبل لتكميم الأفواه والتخويف من المشاركة السياسية وإبداء الرأي أو الشكوى.

المفارقة أن الدول لا تعي أن البطالة والتدهور المعيشي وفقدان الأمل في المستقبل هي أكبر عامل تفجير ضدّها، فالغضب الشعبي هو تعبير عن معاناة المسحوق والمكلوم، أليس من حقّ المظلوم أن يعترض أو يُحدِث ضجيجاً أو يشتم حتى، فمن يدافع عن حقّه في الحياة إذا تخلّت عنه الدولة، فيما تمرّر إجراءات وقوانين تحرمه حقّ الأنين والصراخ وجعاً وألماً. هذا ما يحدُث هذه اللحظة في العالم العربي، بما في ذلك تحت السلطتين الفلسطينيتين في رام الله وغزّة، وإن اختلفت أدوات فرض الصمت والإذعان.

موقف واشنطن المنافق من الحريات مفضوح، وهي تستخدم حقوق الإنسان وسيلة ضغط على الدول، أو لعقاب من يعارضها ولو بتصريح

مرّر مجلس النواب الأردني قانون الجرائم الإلكترونية الذي يهدّد بعقاب الناقد والمنتقد، ويهدّد بإغلاق مواقع إلكترونية، تتصدّى له نقابتا الصحافيين والمحامين، بل وحّد القانون الأحزاب، بما فيها أحزاب أُنشئت لمهادنة الدولة، لكن القانون الجديد أخاف الأكثرية، فمن الضروري مواجهة التشهير والكذب والابتزاز، لكن التعبيرات الفضفاضة في كثير من بنوده تترك للدولة والادّعاء العام تكييف المعاني، وبالتالي التهم، وتُعرّض المعارض والناقد لأحكام سجن وغرامات عالية، أي إننا نشهد إغلاق مساحات الفضاء الإلكتروني بعد إغلاق الميادين والساحات. والمعروف أن مواطني دولٍ مجاورةٍ للأردن يرون فيه واحة أمان مقارنة بمنسوب الأمان والحرية في بلادهم، ولكن يحقّ للأردنيين الدفاع عن حقوقهم، فالمقارنة بالأسوأ لا تُلزم الأردنيين بالصمت. من المهم التذكير بأن الأردن في مواجهة مشروع تمدّدي صهيوني، يهدّد أمنه ومستقبله، فماذا يفيد تكبيل الشعب بقوانين تقيّد مشاركتهم في الحياة العامة والسياسية فيما هم، أي الشعب، صمّام الأمام للدفاع عن وطنهم؟

من المفارقات الساخرة أن المتحدّث باسم وزارة الخارجية الأميركية انتقد قانون الجرائم الإلكترونية فيما تضغط حكومته على الأردن والدول العربية لقبول التطبيع مع الدولة الصهيونية وتعميقه، وتحاول تجريم حركة مقاطعة إسرائيل في كل مكان، ثم يأتي أحد مسؤوليها وينتقد القانون، ويدّعي اعتراض حكومته على القانون، وكأن الحكومة الأميركية لا تدري أنه لا يمكن إسكات الأردنيين والشعوب العربية عن إعلانهم رفض العلاقات مع إسرائيل ووجود القواعد الأميركية، إلا بالقمع وتضييق الحريات ومنعها.

موقف واشنطن المنافق من الحريات مفضوح، وهي تستخدم حقوق الإنسان وسيلة ضغط على الدول، أو لعقاب من يعارضها ولو بتصريح، فعملية التطبيع مع الدولة الصهيونية العنصرية الاستيطانية من أهم مصادر القمع ومصادرة حقوق الشعب العربي، وليس الفلسطيني فحسب. أما الأنظمة فلا تفرّق بين عدو حقيقي ومواطن مفجوع، فواشنطن تبقى مصدر "الشرعيات" المزيّفة، فهِمَ المسؤولون أو لم يفهموا.

 *العربي الجديد