لاتجار بالبشر: رب ضارة ضارة

الرابط المختصر

اخيرا بدأت الصحافة المحلية تعطي اهتماما ملحوظا لقضية "الاتجار بالبشر"، بعد ان كانت مغيبة طيلة السنوات الماضية او بعد ان كانت الصحافة تلتزم "الموقف الرسمي" بالرد على التقارير الدولية.

على ان هذا الاهتمام المفاجيء جاء ضمن "السجال السياسي الراهن" بين "النخب او مراكز القوى" في البلد الذي كان الاعلام ولا يزال ساحته الاكثر التهابا.
في عام 2000 اقر المجتمع الدولي بروتوكول "منع وقمع ومعاقبة الاتجار بالأشخاص وبخاصة النساء والأطفال"، كملحق باتفاقية باليرمو الخاصة بمكافحة الجريمة.
وقد عرف القانون الدولي الاتجار بالبشر على النحو التالي:" جريمة تقوم على تجنيد الأشخاص أو نقلهم أو تنقيلهم أو إيوائهم أو استقبالهم بالقوة، أو بأي شكل من أشكال القسر أو الاختطاف أو الاحتيال أو الخداع: أو بسوء استعمال السلطة أو استغلال حالة ضعف إنساني ما، أو بالأموال أو المغريات لنيل موافقة شخص له سيطرة على شخص آخر لغرض استغلاله.".
في عام 2006 نشر "لجنة العمال الوطنية الاميركية" تقريرا عن اوضاع العمالة الوافدة في الاردن، قالت فيه ان "اتفاقية التجارة الحرة بين الاردن والولايات المتحدة زادت من عمليات تجارة البشر في الاردن وخاصة العمالة الوافدة الى المناطق الصناعية المؤهلة".
وفي اعوام 2006 و 2007 صنف تقرير وزارة الخارجية الاميركية الادرن ضمن دول "الفئة الثانية" في الاتجار بالبشر، ووصفته بانه "دولة عبور" لهذه التجارة. وقد هبط ترتيب الاردن في تقرير العام الحالي الى "دولة تحت المراقبة".
على اي حال، فأن هذه التقارير لم تثر في وقتها ردود فعل حقيقية لدى الصحافة باستثناء متابعات يومية في صحيفتي "الغد"، فرح العطيات، و "الدستور" ليلى كركي، حول اوضاع العمالة الوافدة في المناطق الصناعية المؤهلة.
الكاتب في صحيفة "العرب اليوم"، فهد الخيطان (7/9)، يؤكد على حقيقة تجاهل هذه التقارير من قبل الجهات الرسمية او "تكذيبها، مطالبا:"حان الوقت لتعيد الحكومات ووسائل الاعلام النظر بمواقفها وتتجاوز عقلية التآمر وحالة الافكار العجيبة لما تورده هذه التقارير من ملاحظات نقدية حول الاوضاع الداخلية في الاردن. فقد دلت شواهد كثيرة ان الانتقادات او الملاحظات كانت صحيحة وموثقة ولم تكن مجرد اتهامات مفبركة لتشويه صورة الاردن في الخارج كما كان يدعي البعض."
مهما يكن من امر، فأن "السجال الراهن"، بحسب تعبير الكاتب في "الغد" محمد ابو رمان، دفع بالصحف اليومية الى "الاهتمام" بقضية "الاتجار بالبشر" كل بطريقته.
منذ عام تقريبا والاردن يعيش حالة من "السجال" بين من يوصفون بـ"الليبراليين الجدد" و " الحرس القديم". وقد انتقل هذا السجال الى الصحف بعد ان اخذت صحيفة "العرب اليوم"، تحديدا، على عاتقها "محاربة الفساد".
لم يعد سرا او امرا يحتاج الى اثبات ان جميع الهجمات التي يشنها كتاب المقالات والاعمدة والمواقع الالكترونية على "التيار الليبرالي" تتركز على شخصية رئيس الديوان الملكي السيد باسم عوض الله بوصفه "زعيما" لليبراليين الجدد.
لذلك، فان تقرير وكالة الصحافة الفرنسية الذي نشر في 28/ اب الماضي، حول قضية الدعوى التي رفعها عامل نيبالي نجا من الموت في العراق على شركتين اميركية واردنية، متهما اياهما بالتضليل والاتجار بالبشر.
هذا التقرير الذي "ورد" فيه اسم عوض الله بوصفه كان "شريكا" في شركة "داود وشركاه" المتهمة بالقضية، يتسأل محرر "وكالة رم" :" لماذا قامت رنده حبيب بتسريب إسم رئيس الديوان علما بأن علاقته انتهت بهذه الشركة منذ سنوات طويلة ولا يعني أن ماقامت به الشركة قد يكون لعوض الله أي علاقة بالموضوع جملة وتفصيلا؟".
المهم، شكل ذكر اسم "عوض الله" في تقرير الوكالة، سيان كان هذا العمل مهنيا ام لا، سببا كافيا ليكون الشرارة التي اندلع منها "لهيب" تغطية "الاتجار بالبشر"، وقد زاد من حجم هذه التغطية كميا، التحركات الرسمية المتسارعة نحو القضية المطروقة.
من دون التأكد من حقيقة مشاركة عوض الله في الشركة، ومن دون ان يذكر لنا اي تقرير في الصحافة، وخاصة تقرير الفرنسية، الذي جاء احادي التغطية، وجهة نظر عوض الله في "الاتهامات"، ولا نعرف ما اذا كان هناك صحفيا واحدا توجه بالسؤال لعوض الله ورفض هذا الاخير الحديث او ان الصحفي واجه صعوبات في الحصول على "رد" من عوض الله، عملا بمبدأ الموضوعية في المهنة. فان سيل الاتهامات لرئيس الديوان لم ينقطع.
عليه، فأن تغطية قضية "الاتجار بالبشر" لم تكن مقصودة بحد ذاتها بقدر ما كان مقصودا منها استخدامها سلاحا في "السجال الراهن". فقد تركز "السجال الاعلامي" وكذلك التغطية الاخبارية على قضية "العمال النيباليين" مع ان الاتهامات الموجهة للاردن في صعيد الاتجار بالبشر تشمل اشكالا اخرى منها "العمالة الوافدة جميعها وخاصة العاملة في المناطق الصناعية المؤهلة وكذلك العمالة المنزلية والاجبار على البغاء".
على اي حال، فان المقالات التي تناولت "الاتجار بالبشر" منذ انفجار تهمة عوض الله بقيت ايضا دون ما تستحق هذه القضية من اهتمام، اذ انها لم تجاوز العشر مقالات. ركزت اغلبها على "تحسين صورة الاردن" ومعاقبة المتورطين، فرديا، في القضية دون التفات الى الاشكال الاخرى. او هي حاولت التخفيف من الظاهرة
يصف الكاتب ابو رمان في "الغد" 1 / 9 : تقرير وكالة الصحافة الفرنسية حول "العمال النيباليين" بانه "قضية امن وطني بامتياز"، وفي نهاية مقاله يمر على موضوع الفتيبات المغربيات العاملات في النوادي الليلة.
اما عريب الرنتاوي الكاتب في "الدستور"،8/9، فهو يصف "معاناة" الاردنيين مع "مكاتب استقدام العاملات في المنازل وفي نهاية مقاله يحمد الله على :" أن ظواهر التعامل اللاإنساني مع البشر أو الاتجار بهم ، لم تستفحل عندنا بصورة كبيرة بعد".
ويركز الكاتب في "الرأي" سامي الزبيدي، 8/9، على :"خطوة وزارة العمل الاخيرة، تشكيل لجنة لدراسة مخرجات الاتجار بالبشر، فانها تعد عملا حضاريا من شأنه منع بعض الحالات الفردية من التأثير على سجل الاردن في هذا المضمار، وربما ان الاوان ان لا نتخذ مواقف مسبقة من بعض التقارير الدولية حتى ولو كانت في غير صالحنا مرحليا لان سياسة النعامة لم تعد سياسة ملائمة...".
أو امتداح "شفافية" الحكومة، كما فعل نبيل الشريف في "الدستور"، 9 /9 :" صمتت الحكومة اياما عديدة ثم اوضحت موقفها امس من قضية الاتجار بالبشر ، فكان موقفا جليا.. ومقنعا...".
على كل، فان الصحيفة الاكثر اهتماما بالموضوع، الا وهي صحيفة "العرب اليوم" لم يعرف عنها يوما اهتمامها بقضية الاتجار بالبشر مطلقا. رغم كل التقارير الدولية التي اكد مدير تحريرها فهد الخيطان على ضرورة اعادة النظر فيها. واي عملية بحث في موقع الصحيفة على الانترنت يظهر انها لم تتنبه لهذه القضية الخطيرة الا بعد صدور تقرير وكالة الصحافة الفرنسية وحسب خلافا لصحف الدستور والغد التي كانت دائما تعطي التقارير الدولية مساحة في تغطيتها.
يدافع الخيطان، 3 /9، عن الاتهامات الموجهة للعرب اليوم بالقول :" لقد كانت الصحافة المستقلة وفي مقدمتها "العرب اليوم" ملتزمة بخطها الحالي ومنحازة للدولة من دون النظر الى طبيعة العلاقة بين تلك المراكز (مراكز القوى) التي اتسمت بالانسجام والتحالف في احيان كثيرة.".
في هذا السياق، تجدر الاشارة الى مقالة عيدة المطلق في "الدستور"، 10/ 9، التي قدمت من خلالها تعريفا شاملا لاشكال الاتجار بالبشر وكذا حجم واسباب هذه "الصناعة".
التغطية اخباريا
على كل، مع كل الضجة التي اثيرت حول "تورط عوض الله ودعو العمال النيباليين والتقارير الدولية حول الاتجار بالبشر"، فأن التغطية "الاخبارية" لكل هذه بقيت اقل كثير مما يمكن ان يتوقعه مراقب اعلامي لموضوع على هذه الدرجة من الخطورة.
ففي الجانب الكمي نشرت الصحف منذ 28/8 الماضي وحتى اليوم نحوا من عشرين خبرا لصحيفتي "الغد" و "الدستور" واقل من ذلك كثيرا لصحيفتي "العرب اليوم" و "الرأي".
وقد تركزت التغطية الاخبارية على تحركات الحكومة الاخيرة وحسب وبخاصة تصريحات وزير الداخلية عيد الفايز حول صياغة مشروع قانون الحماية من الاتجار بالبشر. بيد ان صحيفة "الغد" ومراسلها الاقتصادي حسن الشوبكي تميز في ملاحقة القضية "دعوى العمال النيباليين" وقد نشرت الصحيفة 8/9 و 14/9 ملخص الدعوى.
المراقب للتغطية الاعلامية لموضوع الاتجار بالبشر يمكن ان يسجل التالي:
- زاد اهتمام الصحف في الموضوع ليس لاسباب انسانية انما لأن تقرير وكالة الصحافة الفرنسية اورد اسم رئيس الديوان في دعوى العامل النيبالي.
- وفي هذا السياق، لم تطلعنا الصحف والمواقع الالكترونية على رأي المتهم الاول الذي اثار كل هذه الضجة. وباستثناء صحيفة "الغد" فان الصحف الاخرى لم تبذل اي جهد في الدعوى او في الاتصال باي من المعنيين بها.
- بقيت كل التغطية مركز فقط على قضية دعوى العامل النيبالي وتجاهلت اي شكل اخر. ولم يرد اي تقرير جديد عن الموضوع في الصحف وخاصة في اشكالها الاخرى التي وردت ضمن التقارير الدولية وتحديدا في التعامل مع العمالة الوافدة في المناطق الصناعية المؤهلة او العمالة المنزلية او الاجبار على البغاء.
- تركزت التغطية الاخبارية على تصريحات الحكومة وحسب.
- لم تتناول المقالات او الاخبار او التقارير مشكلة الاتجار بالبلشر "كحالة انسانية" بل بقيت فقط ضمن اطار التغطية السياسية: محاولة تعريف المفهوم، متابعة تطورات الدعوى، تجاهل او التخفيف من حدة المشكلة، الدعوة لتحسين صورة الاردن، المطالبة بمعاقبة المتورطين في دعوى النيباليين.
- لم تطلعنا الصحف او المواقع الاكترونية مطلقا او هي لم تنشر او تعيد نشر اي تقرير دولي، وجاء اختصار او تكثيف بعض الفقرات في تقرير وزارة الخارجية الاميركية للعام الحالي والعام الذي سبقه كخلفية للخبر مجزوءا وغير واضحا في المفاهيم.
ما كان يمكن ان يكون ضارة نافعة تحول الى ضارة ضارة، فقد نسيت الصحافة القصة الانسانية وذهبت الى السياسة مراوحة بين الاتهام والتخفيف والحمد وكل ذلك حماية "للصورة" التي ينقلها الاعلام لا بحثا استقصائيا او حتى ميدانيا عن مدى انتشار ظاهرة تجارة البشر في الاردن التي لا يخلو تقرير دولي من الاشارة اليها.