"لأن الكل مركوب"
"قال النحاس . والعرب تكني عن المرأة بالنعجة والشاة، لماهي عليه من السكون والمعجزة وضعف الجانب. وقديكنى عنها بالبقرة والحجرة والناقة; لأن الكل مركوب.". إنه القرطبي، أحد كبار علماء التفسير المسلمين. لقد أوتيَ من الشجاعة والتصالح مع الذات ما لم يؤتَه تيار من جراحي التجميل الذين يحاولون عبثاً إصلاح ما كشفه الدهر والممارسة. القرطبي يعبر بوضوح عن مخزونه الثقافي والإرثي المتراكم والمُعزز بجماع العلوم التي تلقاها حتى غدى من كبار علماء عصره. "لأن الكل مركوب"، هكذا هي المرأة ليس من وجهة نظر شخصية بل من وجهة نظر اصطلاحية شرعية ينقلها عالم جهبذ بلغ اسمه الآفاق في علوم التفسير.
قد يبدو التشبيه بوضاعته صادماً ومقززاً لكنه ليس مفاجئاً بحال، فأنى للمرأة أن تكون أكثر من "حيوان مركوب" وهي التي أخبرنا الترمذي والحاكم بتصحيح من الشيخ الألباني في كتاب الإرواء أن الحديث النبوي يقول عنها: "لوكنت آمرا أحدا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها"، محظوظة هي المرأة أن لم يُسمح لأحد أن يسجد لأحد وإلا لكانت أول من يسجد وآخر من يرفع رأسه، محظوظة هي بأن أنزلوها منزلة "البقرة والنعجة" حيث أن "الكل مركوب" بدلاً من أن تخر بين يدي "سيدها" و "ولي نعمتها القيّم عليها" ساجدةً مسبحةً بحمده شاكرةً فضله متوسلةً له أن لا يطلقها وأن لا يستخدم رخصته الأزلية بانتقاء "ما طاب له من النساء" كما تُنتقى الخراف أو الفاكهة؛ إذا أردنا أن نكون أكثر رومنسية، "ما طاب له"! وكأني برجل يستعرض بائعات الهوى من خلف زجاج حتى تطيب له إحداهنّ ف"ينكحها" وليته يتزوجها.
"لأن الكل مركوب"، علّمَنا المدلّسون في المراحل الابتدائية فضل المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار فأقنعونا أن أبشع ممارسة يمكن أن تعرفها البشرية هي عين الإيثار والتضحية من أجل الآخر! قال لنا المدلسون أن أناس من الأنصار ممن كان لهم أكثر من زوجة؛ نظموا عرضاً حياً أمام "إخوانهم" من المهاجرين الذين جعلوا ينظرون للزوجات ثم ينتقون ما "طاب لهم" منهنّ، وقبل أن يفتح أحد باب التضعيف والصحة والحسن من الأحاديث، فإن هذه القصة مروية من حديث أنس في صحيح البخاري وقد أوردها ابن حجر في فتح الباري، ورواها يحيى ابن سعيد وغيرهم من المحدثين الذين يستشعرون الفخار والانبهار بهذا العمل "العظيم" الذي يعرض فيه رجل زوجاته على آخر لينتقي منهنّ ما يطيب له دون أدنى اعتبار أو احترام لكرامة تلك الزوجات وإنسانيتهنّ!
"لأن الكل مركوب"، اقرأ وليتك ما تقرأ تفسير الطبري وابن كثير والقرطبي ومن شئت من "علماء" التفسير؛ شرحهم وبيانهم لآية سورة الأحزاب "وإذتقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه أمسك عليك زوجك واتق الله وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها"، وإذا كانت الروايات تباينت في تفسير "وتخفي في نفسك ما الله مبديه" بين علم الرسول المسبق من خلال الوحي أنه سوف يتزوج زينب وبين أنه قد رآها في خيمتها غير مستترة فأعجبته، فلا خلاف بين المحدثين بأنه قد تزوجها بلا شهود ولا ولي ولا عدة، وما قصة زواج صفية بنت حيي ابن أخطب التي سبيت ثم دُخِل بها ليلة قَتْل أبيها وزوجها وابن عمها على يد المسلمين كما يرويها البخاري ومسلم وغيرهما مع اختلافات بين بعضهم فقط في ما إذا كانت قد زُوجِت في ذات الليلة أم أنها أُمهِلَت لتقضي عدتها، ما هذه الحادثة بدورها نغمةً نشازاً في "ملحمة" امتهان المرأة بل هي مقطع رئيس يستكمل مشاهد تلك الملحمة وفصولها.
"لأن الكل مركوب"، سبق وأن تعرضنا لبيان أحاديث الصحاح التي تقرن المرأة ب"الكلب" و "الحمار" في مبطلات الصلاة إذا مرت هي أو أحد هذان الحيوانان من بين يدي المصلي، فهذا يشرح على نحو أوضح أصل النظرة الوضيعة للمرأة التي لخصها القرطبي بأن "الكل مركوب" فهي تارةً "نعجة وبقرة" وتارةً أخرى "حمار وكلب"، ثم علينا أن نصدق جراحي التجميل العبثيين ونكذب كبار المحدثين وعلماء التفسير!
لو دُفِعَت الملايين لخبراء التخطيط والتربية وعلماء والاجتماع والفلاسفة وعلماء النفس ليضعوا منظومةً غير أخلاقية لتحط من شأن المرأة وتجعلها مستساغةً في الضمير والوعي الجمعي لأمة ما، لما استطاعوا أن يأتوا بعُشر ما جاء به هذا الموروث من بشاعة قولية وعملية، وعلى من لا يعجبه هذا الكلام أن يجاهر ويقول: البخاري ومسلم والقرطبي وابن كثير والطبري والحاكم والترمذي وسائر علماء الحديث والمفسرون كذابون وأفاكون، من جهتي، فإنني لا يساورني شك في أنهم جميعاً ثقاة صادقون.
عضو مجلس الأعيان الأردني، وحاصل درجة الدكتوراة في حقوق الإنسان