كيف انتهت ما بعد الحداثة

كيف انتهت ما بعد الحداثة
الرابط المختصر

 

 

مثلما وُظف مصطلح ما بعد الحداثة لأول مرة في دراسة عن فن العمارة كتبها الباحث تشارلز جينكس، ظهر مصطلح بعد ما بعد الحداثة لأول مرة في دراسة للباحث والمختص بالتخطيط الحضري للمدن (توم تيرنر Tom Turner) والذي تحدث عن ضرورة تجاوز الإطار الفكري لثقافة ما بعد الحداثة والاهتمام بالكشف عن ملامح المرحلة القادمة، التي أطلق عليها بعد ما بعد الحداثةPost Postmodernism)).

 

ومع بدايات التسعينيات من القرن العشرين بدأ يظهر بوضوح التململ من النموذج الثقافي لما بعد الحداثة، فقد طرح ذلك التيار الفكري والثقافي الراديكالي من الإشكاليات أكثر بكثير مما استطاع تقديمه من حلول لمأزق الحداثة بعد نهاية الحرب العالمية الثانية. وتراكمت التناقضات التي أفرزتها ما بعد الحداثة لتصل إلى نقطة حرجة أصبح معها من البديهي إقامة الحلقات النقاشية والمؤتمرات العلمية واستطلاعات الرأي بين المثقفين والباحثين والمختصين في محاولة لوضع بعض الحلول الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والسياسية للمشكلات التي برزت في تلك اللحظة التاريخية من الرأسمالية المتأخرة. ولطالما حاول المفكرون اليمينيون والمحافظون أن يقدموا ما بعد الحداثة بوصفها آخر المراحل التاريخية لتطور المجتمعات الحديثة وأن النموذج الثقافي والفكري الذي طرحته لن تتم إزاحته أو لن تظهر احتمالية لاستبداله، وكل ما قد يحصل هو بعض التعديلات الطفيفة على النظام. شكل هذا التصور الأساس الفكري لأطروحات كل من دانيل بيل وبودريلار وليوتار، على سبيل المثال لا الحصر. غير أن الأزمات السياسية والعسكرية والاقتصادية والاجتماعية والكوارث الطبيعية التي توالت في العقدين الأخيرين من القرن العشرين، وما نتج عنها من هجرات جماعية وتغيرات ديموغرافية كبيرة، والتطورات الهائلة في مجالات العلوم وتكنولوجيا الاتصالات، جعلت ما بعد الحداثة جزء من المشكلة نفسها وليست وسيلة للحلول وتجاوز الأزمات. ونتيجة لكل تلك التداعيات تنامى الشعور باليأس والإحباط من ما بعد الحداثة، وبدأ السعي الاجتماعي والثقافي لتجاوزها والمضي قدما.

 

في عام 1990 نشر الباحث وليام تي. فولمان(William T. Vollmann) مقالا قصيراً بعنوان (الكتابة في أمريكا اليوم: تشخيص المرضAmerican Writing Today: Diagnosis of the Disease) ذكر فيه أن الألعاب اللغوية والتقانات التي روجت لها ما بعد الحداثة وما بعد البنيوية أدت بالنتيجة إلى إفراغ الكتابة السردية من أي قيمة أو وزن يذكر. ومثلما عد النقاد والمعلقون الثقافيون المؤتمر الذي أقامته جامعة جون هوبكنز بالتيمور في أمريكا عام 1966 تحت عنوان (لغات النقد وعلوم الإنسان) وحضره كل من لوسيان غولدمان وتزفتان تودوروف وجاك لاكان وجاك دريدا، اللحظة الحاسمة لانطلاقة التفكيكية على وجه الخصوص، وما بعد البنيوية على وجه العموم، اتفق الجميع على أن اللحظة الحاسمة التي تؤشر الانعطافة نحو بعد ما بعد الحداثة تمثلت في المؤتمر الذي دعت له الباحثة البارزة (هايدي زيغلر Heide Ziegler) والذي عقد في آب (أغسطس) من عام 1991 في مدينة شتوتغارت في ألمانيا تحت عنوان (نهاية ما بعد الحداثة The End of Postmodernism). كان المؤتمر سلسلة من الحلقات النقاشية حضرها إيهاب حسن، ومالكوم برادبري، وريموند فيدرمان، وجون بارث، ووليم غاس. ونشرت الأوراق المقدمة إلى المؤتمر في كتاب حمل عنوان(موت ما بعد الحداثة: اتجاهات جديدة The End of Postmodernism: New Directions) صدر عام 1993.

 

كان الهدف من المؤتمر القيام بمراجعة أخيرة لما بعد الحداثة من أجل تجاوزها نهائيا وإلى الأبد. وقبل مؤتمر شتوتغارت، صدرعام 1990 كتاب للبروفيسور البارز (وليام سبانوسWilliam V. Spanos) بعنوان (الحداثة/ مابعد الحداثة: دراسة في الفن والأفكار في القرن العشرين Modernism\Postmodernism: A Study in Art and Ideas in the Twentieth Cuntury) والذي تساءل فيه "ألم يحن الوقت بعد للسؤال عن ماذا كانت ما بعد الحداثة ؟". وفي عام 1993 أجرى الروائي والناقد الأمريكي ريموند فيدرمان استطلاعاً شمل عشرين كاتباً وروائياً أمريكياً ما بعد حداثي وتكون الاستطلاع من سؤالين فقط، الأول: "هل تعتقد بأن ما بعد الحداثة قد ماتت؟"، والثاني: "ما هي أسباب موت ما بعد الحداثة؟". لقد اختلف الجميع حول إجابة السؤال الثاني، ولكنهم اتفقوا على إجابة السؤال الأول "نعم". وشهد النصف الأول من التسعينيات نشر عدد من المقالات لكل من إيهاب حسن وبرايان مكهيل ومالكوم برادبري حملت جميعها العنوان ذاته (ماذا كانت ما بعد الحداثة؟ What Was Postmodernism) والذي أثار الانتباه هو توظيف صيغة الفعل الماضي (Was) للحديث عن ما بعد الحداثة.

 

وفي عام 1996 صدر كتاب الناقد الفني البارز (هال فوستر Hal Foster) بعنوان (عودة الواقعي: الطليعية عند منعطف القرن The Return of the Real: The Avant-Garde at the Turn of the Cuntury) والذي كشف فيه عن نهاية ما بعد الحداثة وتراجعها بوصفها حركة راديكالية في الثقافة والأدب والفن. وبعدها توالت الدراسات والكتب والمؤتمرات التي سعت إلى الكشف عن ملامح المرحلة الجديدة القادمة والتأكيد على أن ما بعد الحداثة أصبحت جزءاً من الماضي ولم تعد تعبر عن الواقع الثقافي والاجتماعي المعاصر.

 

 

كان من أبرز أسباب نهاية ما بعد الحداثة وتجاوزها منذ بداية التسعينيات من القرن العشرين استهلاك تقاناتها وجمالياتها، والتي كانت تعد طليعية ومغايرة وصادمة، من قبل الثقافة الشعبية ونمط الحياة اليومي ووسائل الإعلام والإعلان. فقد أشار هال فوستر إلى تحول ما بعد الحداثة إلى موضة وفقدانها لأهميتها الثقافية التي تمتعت بها عند انطلاقتها في النصف الثاني من القرن العشرين، بينما أكد ريموند فيدرمان على أن ما بعد الحداثة قد لاقت حتفها على يد نفس المجتمع الاستهلاكي ومابعد الصناعي الذي بشرت به وسعت إلى خلقه. وشخصت الباحثة الألمانية زيغلر في ورقتها النقدية التي افتتحت بها مؤتمر شتوتغارت السبب وراء نهاية ما بعد الحداثة في أنها لم تعد تمثل أو تعبرعن سياسات الاختلاف والتي حظيتبمكانة محورية بارزة في فكر تلك الحركة، وذلك لأن المجتمع المعاصر كان قد تحول بالكامل إلى مجتمع ما بعد حديث بسبب النزعة الاستهلاكية ووسائل الإعلام والاتصال الجماهيري.

 

لقد خضع الجميع لخطاب ما بعد الحداثة دون مقاومة وتحولت في النهاية إلى ما كانت تسعى هي ذاتها إلى تقويضه. لقد أصبحت الحداثة الجديدة الطليعية هي الاختلاف والتمايزعن ما هو سائد وشعبي.

 

يتفق معظم النقاد والمفكرين والباحثين على أن نهاية الحرب الباردة بانهيارالإتحاد السوفيتي وسقوط جدار برلين وانهيار الحكومات الشيوعية في أوروبا الشرقية مع نهاية الثمانينات من القرن العشرين كانت أحد أهم أسباب نهاية ما بعد الحداثة. يشير مالكوم برادبري إلى انتفاء الحاجة لما بعد الحداثة ونزعتها الشكية والتقويضية المضادة للسرديات الكبرى بعد انهيار الأنظمة الشمولية في الاتحاد السوفيتي وأوروبا الشرقية.لقد انتهى الصراع بانتصار الديمقراطية الليبرالية، وهكذا زالت من التاريخ المعاصر مجموعة الإشكاليات والأزمات التي جاءت ما بعد الحداثة بوصفها استجابة ثقافية وفلسفية لها.لم تستطع ما بعد الحداثة تجاوز ذاتها وانكفأت على نفسها من خلال النزعة الانعكاسية الذاتية والنرجسية المفرطة والنوستالجيا الذي حولت التاريخ إلى سلسة من الذكريات المشتتة والغير مترابطة. إذ عندما يعيش الإنسان في الماضي لا يعود له مستقبل. ويتساءل البروفيسور سبانوس عن المدى الذي استطاعت فيه ما بعد الحداثة بانعكاسيتها وإحالاتها الذاتية وتناصاتها ومساءلتها للأنماط والأنظمة التقليدية (Traditional Systems of Representation) التحرك إلى ما وراء اشكالياتها التشكيكية والابستمولوجية لتحدث أثراً أو تغيراً في العالم الواقعي. ويؤكد سبانوس على أن انتصار الديمقراطية الليبرالية مع نهاية الحرب الباردة حول ما بعد الحداثة من حركة مقاومة وتصدي راديكالية إلى حركة تصالحية مع الواقع الذي تطابقت معه بدرجة كبيرة. ويضيف سبانوس، لقد تحولت ما بعد الحداثة إلى سلعة تجارية يتم تسويقها وتوزيعها لغرض الربح المادي والتجاري وذلك من خلال وسائل الإعلام والجامعات ومراكز البحوث التي أنتجت أعداداً كبيرة جداً من الكتب حول هذه الظاهرة. وفي النهاية أصبحت هناك مؤسسة كبيرة جداً في المجتمع تدعى ما بعد الحداثة.

 

مع ذلك، لم يكن من الممكن التظاهر بأن ما بعد الحداثة لم تكن موجودة، أو أنها لم تقع بوصفها لحظة تاريخية فاصلة في مسار التطور التاريخي للمجتمعات الحديثة، لذلك فأن أي مرحلة قادمة بعد ما بعد الحداثة لن تمثل عودة تامة وغير نقدية للمنطلقات المعرفية والإطار الثقافي للحداثة الغربية. يؤكد معظم النقاد والمفكرين والمعلقين الثقافيين على أن كل مرحلة تحاول أن تجمع ما تم تجاوزه وإهماله وتهميشه في المرحلة السابقة. فقد تشكلت ما بعد الحداثة من التراث الفكري والفلسفي والثقافي للتيارات والأطروحات التي كانت مهمشة ومغفلة في مرحلة الحداثة. لم تكن الروح العدمية الساخرة والنبرة التهكمية والتشتت والتكرار اللانهائي ومفهوم القوة والمعرفة قضايا جديدة برزت لأول مرة مع ما بعد الحداثة. لقد كانت موجودة أساسا عند نيتشة وشوبنهور وهايدغر وفي مجال الأدب ظهرت عند توماس ستيرن وبورخيس وكافكا ورابليه, ولا ننسى أن آينشتاين نفسه يُعد التطور الطبيعي لاتجاهات البحث العلمي الذي بدأ مع الحداثة الغربية والحرية المطلقة التي منحتها للعلم وللعقل في ارتياد مجالات جديدة لم تكن متاحة من قبل بسبب القيود التي كانت تضعها الكنيسة والنزعات الأخلاقية في المجتمع. ولا يغيب عن أذهاننا أن التقدم العلمي والتكنولوجي الكبير في المجتمعات الحديثة كان المحور الرئيس في كتابات أبرز مفكري ونقاد ما بعد الحداثة مثل دانيل بيل وليوتار ومانويل كاسلز. لقد كان لانتقال المجتمع الغربي من مرحلة التصنيع إلى المجتمع ما بعد الصناعي ومجتمع التكنولوجيا الفائقة والمعرفة الأثر الحاسم في ظهور ما بعد الحداثة وانتشارها الواسع. وها هو التقدم التكنولوجي الحاصل على صعيد وسائل الاتصال الجماهيري والانترنت والنشاطات التفاعلية التواصلية، يسهم في إسدال الستار على ما بعد الحداثة ويعلن عن نهايتها.

 

وهكذا فقد بدأت ملامح المرحلة القادمة(بعد ما بعد الحداثة) بالتشكل من القضايا والمقولات والأطروحات التي أهملتها ما بعد الحداثة وسعت إلى تهميشها وإقصائها. يؤكد مالكوم برادبري على أن المرحلة القادمة ستكون عبارة عن (حداثة جديدة New Modernism) تحل محل سكونية ومحدودية النمط ما بعد الحداثي بعد نهاية الحرب الباردة والتي تحولت إلى مجرد نوستالجيا فارغة تتوسل بالمعارضة والتناص والاستعارات المتكررة ولا تطرح أي جديد.

 

من أبرز الجوانب التي بدأت الثقافة الغربية باستعادتها من مرحلة الحداثة هي إعادة إحياء النزعة الإنسانية وتجاوز مفهوم "موت الإنسان" الذي ظهر لأول مرة مع الحركة البنيوية واستمر في ما بعد البنيوية وما بعد الحداثة على يد أهم وأبرز ممثليه مثل لاكان ودولوز وغواتاري وفوكو وليوتار ودريدا. وقد رصدت الباحثة (نيكولاين تيمر NicolineTimmer) عودة الاهتمام بالنزعة الإنسانية (Rehumanization) وقضايا الذات والذاتية في مجالات علم النفس والعلوم الاجتماعية في الغرب مع بداية التسعينيات من القرن العشرين بعد أن كانت قد تعرضت للتشويه والتشكيك والتفكيك في مرحلة ما بعد الحداثة. من أبرز مظاهر عودة النزعة الإنسانية في مجالات العلوم النفسية والاجتماعية، حسب تيمر، الاهتمام المتزايد بالتجربة الإنسانية ودلالاتها وتفاعل الوعي مع العالم الخارجي والإشكاليات الوجودية للذات التي تظهر نتيجة تغير السياقات الاجتماعية والثقافية. فلم يعد النسق أو النظام هو القوة الفاعلة والمهيمنة على الذات الإنسانية، تلك الذات التي تحولت مع ما بعد الحداثة إلى بؤرة تقاطع الخطابات، وفقدت وحدتها وهويتها.

 

غير أن صورة الذات الإنسانية التي بدأت بالظهور مجددا في الدراسات والبحوث الفلسفية والنفسية والاجتماعية لاتتطابق مع صورة الذات النرجسية المتضخمة التي جسدتها الحداثة. إنها ذات حذرة تميل الشك والتردد وتلجأ إلى التصالح والتكامل مع المحيط الاجتماعي والثقافي والطبيعي من حولها، ولا تسعى للهيمنة والسيطرة واستنفاذ الطاقات واستنزاف الموارد الطبيعية. فهذه النزعة الإنسانية المستعادة لا ترغب في تكرار الكوارث التي جلبتها الذات النرجسية الحداثية والتي تجسدت في أقصى صورها تطرفا في صعود الحركات النازية والفاشية. إنها ذات تموضع نفسها في شبكة من العلاقات المتبادلة مع الذوات الأخرى، كما عبر هابرماس عن ذلك في فلسفته النقدية التواصلية. وفي القسم الثاني من الكتاب سيتم تناول موقف المجتمعات الحديثة من ما يعرف الآن بالنازية والفاشية الجديدة الصاعدة في مرحلة بعد ما بعد الحداثة.

 

* باحثة ومترجمة فلسطينية حاصلة على ماجستير تكنولوجيا حيوية، ماجستير تربية وعلم نفس، بكالوريوس صيدلة، صدر لها مجموعة أبحاث أبرزها:

1- أفق يتباعد: من الحداثة إلى بعد ما بعد الحداثة، دار نينوى للنشر والتوزيع. دمشق 2014.

2- الإنسان في ما بعد الحداثة، دار يوتوبيا، بغداد، 2014

3- نهايات ما بعد الحداثة: إرهاصات عهد جديد، مكتبة ودار عدنان للنشر 2013.

4- فصل في موسوعة: الفلسفة الغربية المعاصرة: صناعة العقل الغربي من مركزية الحداثة إلى التشفير المزدوج- الجزء الثاني

أضف تعليقك