قانون حقوق الطفل الأردني.. دولة تنسحب من مسؤولياتها
قبل نحو أشهر عدّة، عادت ابنتي ذات الأعوام الخمسة من الروضة (Pre-school) مسكونةً بفزعٍ شديدٍ استمر أياماً بسبب ما يرويه زملاؤها لها حول معلّمة تضرب طلّابها في أحد الصفوف الأساسية، وقالت بنبرةٍ قاطعةٍ إنها لن تكمل تعليمها في المدرسة حتى لا تصل إلى تلك الغرفة التي تنطلق منها أصوات بكاء الأطفال وصراخهم.
انتابتني لحظتها مشاعر مركبّة وأفكار مضطربة. استحضرت حالة الخضوع والاستسلام المطلقة حين كنت أضطر لرفع يدي لتلقّي جرعتي من الضرب إلى أن أنهيت المرحلة الثانوية، والأمر لا يزال متواصلاً بحسب شكاوى متكرّرة من استمرار العقاب البدني في مدارس أردنية، رغم صدور تعليمات من وزارة التربية والتعليم بمنعه عام 2007.
في طريقي إلى مدرسة ابنتي في اليوم التالي، تملّكني الغضب بأثرٍ رجعي على عنف مدرسين ما أزال أحتفظ بصورٍ شيطانيةٍ لهم في ذاكرتي، وتبادرت لذهني المقولة الرائجة التي تربط التدهور الحادّ لمخرجات التعليم بتراجع الانضباط المدرسي، بزعم أن النظام التعليمي كان قادراً على تخريج تقنيين مؤهلين لسوق العمل في مراحل سابقة.
التفسير الشعبي لتراجع التعليم يلغي عوامل أخرى أكثر أهميةً تتعلّق بنوعية ما يقدّمه التعليم أصلًا، والذي لم يعد يلائم تطوّرات سوق العمل، فمعظم أبناء الطبقة الوسطى، الآيلة إلى الاختفاء، لا يتلقون مهاراتٍ ومعارف تضمن لهم فرصاً مهنية أفضل. مونولوج عاصفٌ توقّف عند مقابلة مديرة المدرسة التي أكّدت أن إشاعاتٍ كثيرة تتُداول حول تلك المعلّمة بسبب حزمها وضبطها، وأنها في الحقيقة لا تحتاج إلى تلك العصا التي تهيمن على مخيّلة الطلبة.
عدم التواؤم مع تشريعات أخرى
لم أفلح في تبديد مخاوف ابنتي إلا بأن أيّدت رفضها الاقتراب من غرفة الصفّ تلك في الأعوام المقبلة، خاصة وأنها لسببٍ ما لم تصدّق كلام المديرة. واقعةٌ خطرت ببالي بعد طرح مشروع قانون حقوق الطفل لمناقشة مسوّدته نهاية الشهر الماضي، خلال انعقاد الدورة الاستثنائية لمجلس النواب التاسع عشر.
فالمادة (17/ ب) لم توضح آليات الإبلاغ التي على وزارة التربية والتعليم أن تحدّدها عن حالات العنف الجسدي أو المهين أو التنمّر في المؤسسات التعليمية، وكيفية إتاحتها للطفل أو والديه أو الشخص الموكل برعايته، وماهيّة الإجراءات التأديبية والقانونية المناسبة بشأنها.
التشكّك بما نصّت عليه المادة المذكورة لا يأتي من هيمنة تيار محافظ على كوادر وزارة التربية فحسب، تدعمه مقالات تُنشر في وسائل الإعلام أو على مواقف خطباء جمعة في التشجيع على الضرب الذي من دونه فقَد المعلم والمؤسسة التعليمية هيبتهما، بل تسنده تشريعات أردنية، إذ تجيز المادة (62) من قانون العقوبات ضروب التأديب التي ينزلها بالأولاد آباؤهم على نحو ما يبيحه العرف العام، دون أي محدّدات لهذا العرف، والتي لطالما انطلقت دعوات حقوقية لإلغائها.
ولأن التشريع الأردني يفتقر إلى التواؤم بين العديد من قوانينه، فمن المرجح أن تتغافل وزارة التربية وغيرها من الوزارات عن وضع التعليمات المناسبة أو تطوير تشريعاتها بما يلائم مشروع قانون حقوق الطفل، ما لم ترتفع أصواتٌ تطالب بهذه التعديلات التي من دونها ستتعطّل مواد عديدة من القانون في حال إقراره.
تعجز الدولة الأردنية عن بلوغ الطموحات ما يعني توجّه الأهل الراغبين في تحسين نوعية ما يتلقّاه أبناؤهم من معارف ومهاراتٍ، في بيئة آمنة صحيّة خالية من العنف والتنمّر، إلى مدارس خاصة معروفة بعينها، ما يعني استمرار طبقية التعليم..
تواصل التقييد بمواد أخرى تتعلّق بالتعليم، ومنها الحق في تمتّع الطفل بخدمات دور الحضانة الذي يقترن بعبارة “وفق التشريعات النافذة”. ولدى العودة إلى تلك التشريعات النافذة نجد أنها لا تُلزم بهذا الحق بل تضعه ضمن استراتيجية وطنية تسعى لتحقيقه عام 2033. ينسحب الأمر على غيرها من المواد التي تنصّ على توفير المرافق والتسهيلات المناسبة في المؤسسات التعليمية وتمكين الطفل من استخدامها بما فيها الوسائل الإلكترونية، أو ضمان نوعية التعليم وتوفير العدد الكافي من المعلمين والمرشدين وتطوير أدائهم ورفع كفاءتهم وتنمية قدراتهم، أو توفير برامج التوعية المتعلقة بنموّ الطفل وتطوراته الجسدية والنفسية وصحته الجنسية وضمان تثقيفه وتوفير التربية الصحية له في المراحل التعليمية كافة بما يتوافق مع سنّه وإدراكه.
طموحاتٌ كبيرة تعجز الدولة الأردنية عن بلوغها، ما يعني توجّه الأهل الراغبين في تحسين نوعية ما يتلقاه أبناؤهم من معارف ومهاراتٍ، في بيئة آمنة صحيّة خالية من العنف والتنمّر، إلى مدارس خاصة معروفة بعينها، والذي يقود بالضرورة إلى استمرار طبقية التعليم الذي يقّره تصريح وزير التربية والتعليم العالي وجيه عويس في أيار (مايو) الماضي بالتزامن مع تقديم مشروع قانون حقوق الطفل.
إحدى أبرز مواد مشروع القانون تتحدّث عن توفير حدائق وأماكن آمنة ومجانية لكنها تضيف عبارة “وفق الإمكانيات المتاحة”، في تنصّل واضح من تأمين الحكومة لفضاءات ومراكز ترفيهية ومنتزهات حيث تشير الإحصاءات إلى وجود حوالي مئة وأربعين حديقة في العاصمة الأردنية التي يقطنها أكثر من أربعة ملايين وستمائة ألف نسمة، تمثّل حوالي مليون أسرة. النقص الفادح تترجمه الأرقام بوجود حديقة واحدة لكلّ سبعة آلاف ومئة أسرة عمّانية.
لكن المشكلة ليست بالكمّ فقط، بل تتعدّاها إلى سوء الخدمات التي توفّرها هذه الحدائق في ما يتعلّق بالمرافق الصحية والنظافة العامّة وقلّة عدد الألعاب وغياب الميسّرين والمشرفين عليها، ما يرتّب أعباء مادية إضافية على الأهالي المضطرين لاصطحاب أبنائهم إلى صالات الألعاب الخاصة في المراكز التجارية عادةً.
أربعة وعشرون عاماً من الإبطاء
يمكن الذهاب إلى مناقشة بقية المواد ذات الصلة بمسؤولية وزارات الصحة والتنمية الاجتماعية والتعليم وغيرها في الحفاظ على سلامة الطفل وحقوقه ومواجهة العديد من الانتهاكات التي لا يزال يتعرّض إليها كما فعل العديد من مؤيدي القانون.
لكن ينبغي التوقّف عند التعامل الرسمي الذي يثير الريبة منذ الإعلان عن أول مسودة للمشروع أُعدّت عام 1998، وأول مشروع للقانون أرسل إلى البرلمان سنة 2004، ولكنه لم يبحث، وفي عام 2008 عادت الحكومة عن المشروع وسحبته.
أبطأت السلطات فرض تشريع متخصّص في هذا الشأن أربعة وعشرين عاماً، رغم أن الحكومة الأردنية صادقت عام 2006 على “الاتفاقية الدولية لحقوق الطفل سنة “1991، ثم أنّها بعد أن أقرّت في نيسان (أبريل) الماضي، مشروع القانون استجابةً لتعديلات دستورية أكدت على حماية الطفولة، لم تنظّم أية حملة للتوعية بموادّه ولم تبن أية مرافعة متماسكة حوله إذ يفضل المسؤولون الحكوميون الصمت كلما طُرحت للتداول أي تشريعات تتعلّق بالحقوق، وأن يأخذ النقاش حولها صيغة الجدل بين مجموعة من الناشطين ذوي الميول الليبرالية وبين تيار الإسلام السياسي والقوى المحافظة في المجتمع.
تتخذ السلطة تعاظم حالة الشكّ والكراهية والنفور بين الفئات المهمّشة ذريعةً لاستمرار نهجها في تحقيق الأمن والاستقرار القائم على منع التصادم بين أصحاب الأفكار المتصادمة، لكنها تسمح في الوقت نفسه بأقصى درجات العنف اللفظي واتهامات التخوين، التي تُطلق عادة من تيارات دينية ومحافظة باتجاه خصومها ..
تتخلى الدولة الأردنية عن أبسط واجباتها في توفير المعلومة للمواطن عن التشريعات التي من المؤمّل أن تُحدث تغييراً اجتماعياً تمّ التوافق عليه من قبل أصحاب الرأي والاختصاص المكلّفين من قِبل سلطة يُفترض امتلاكها الشرعية، وبذلك تنزع عن القانون أساساً فاعليته كأداة للتغيير الاجتماعي حين لا يكون هذا القانون قادراً منذ طرح مسوّدته على إحداث التأثير المطلوب.
السجالات بين تيارات توصف بأنها ليبرالية وأخرى محافظة حول العديد من الحقوق، يوحي بوجود صراعات حول مصالح متنازع عليها بينهما، فيما الواقع يخالف هذه الحقيقة بالمطلق إذ إن كلا الطرفين لا يمتلك تمثيلاً شعبياً في ظلّ احتكار فئة للسطة، تستفيد من تضخيم الخلاف إعلامياً بما يضمّن استمرار انسحابها من أداء واجباتها المنصوص عليها في هذا القانون أو ذاك، وتغيب الفرصة أمام احتمالية تطوير هذه القوانين، من خلال النفخ في تناقض اجتماعي يقوم على أسس متوهّمة يلغي فيها الخلاف (الثقافي) إمكانية النظر في مصالح الناس على أساس طبقي ومصلحي.
وفي حالة مشروع قانون الطفل، يغيب الأثر المرجوّ في تحقيق العدالة الاجتماعية لفئات مهمّشة لا يجد أطفالها رعاية صحية ونفسية وتعليمية واجتماعية وصولاً إلى حقها في التعبير عن آرائهم “بالقول أو الكتابة أو الطباعة أو الفن” كما نصّ المشروع المقدّم.
وبدلاً من ذلك تتعاظم حالة الشكّ والكراهية والنفور بين هذه الفئات المهمّشة والتي تتخذها السلطة ذريعةً لاستمرار نهجها في تحقيق الأمن والاستقرار القائم على منع التصادم بين أصحاب الأفكار المتضاربة، لكنها تسمح في الوقت نفسه بأقصى درجات العنف اللفظي واتهامات التخوين، التي تُطلق عادة من تيارات دينية ومحافظة باتجاه خصومها.
*نقلا عن خط رابط التقرير في المصدر