سيكون الأردنيون، بما في ذلك وسائل الإعلام، أحرارا في متابعة مشاهد جميع تغييرات التحديث الموعودة من على الهامش، لكنهم سيكونوا بحاجة إلى ممارسة الحذر الشديد فيما يقولونه عنها بعد دخول القانون حيز التنفيذ.
في عمان تساؤلات عما إذا كان الملك عبدالله الثاني سيصادق على قانون الجرائم الإلكترونية المتشدد أم يرده قبل أو بعد زيارته نهاية الشهر الحالي للولايات المتحدة، الحليف الاستراتيجي للمملكة والتي عبرت عن قلقها الشديد من تداعيات إقرار مشروع القانون على حرية الرأي والتعبير ووعود التحديث السياسي.
مشروع القانون الذي تبناه مجلس الوزراء والنواب وبحسب منظمات حقوقية يقوّض بشدة حرية التعبير على الإنترنت، ويهدد حق مستخدمي الإنترنت في إخفاء هويتهم، وإدخال هيئة جديدة للسيطرة على وسائل التواصل الاجتماعي من شأنها تمهيد الطريق لطفرة مقلقة في الرقابة على الإنترنت. وهو يأتي وسط حملة تضييق مستمرة ضد الفضاء المدني في الأردن من خلال قوانين غامضة تجرم التعبير وتكوين الجمعيات من خلال عبارات فضفاضة من نوع التصدي لـ “الأخبار الكاذبة”، و”الكراهية”، و”القدح والذم” على الإنترنت.
دستورياً، يستطيع الملك أن يصادق على القانون أو حتى رده ورفضه قبل أقل من 6 شهور، بعدها يدخل حيز التنفيذ.
لكن من المرجح أن الملك سيصادق على القانون بأقرب وقت لمنع “كسر” هيبة ومصداقية مجلسي الوزراء ومجلسي النواب والأعيان ولوقف النقاشات التي يرى النظام أنها “ابتزاز سياسي”، بحسب مسؤولين إذ “استخدم فيها بعض معارضي القانون صلاحية الملك للضغط باتجاه رفض قانون مفاجئ مر بسرعة البرق عبر بوابتي مجلسي الاعيان والنواب مؤخرا مع تعديلات تجميلية.
القصر، بحسب هذه الرواية، يحترم رأي السلطة التشريعية التي أقرته ورأي الأغلبية التشريعية التي مررته مع تخفيف بعض”العقوبات المادية الفلكية”، والإبقاء على مبدأ التوقيف لغالبية الجرائم لحين صدور قرار المحكمة النهائي.
والحكومة تصر أن القانون ليس لمعاقبة الصحفيين بل أنه “السبيل الوحيد لحماية الحرية من الانفلات لعدم تحصينها بالمسؤولية خصوصا في الفضاء المفتوح الذي جعل لكل مواطن منصة ينشر فيها ما يشاء من شتم وسباب وأغتيال شخصية. القانون ضروري لحماية الأردنيين من الاحتيال والتزوير والسرقة عبر الإنترنت والاعتداء الجنسي على القصر.”
لا بوادر رسمية تظهر خلاف ذلك في المستقبل القريب.
القصر لا يريد ان تكون هناك سابقة برد القانون في إطار عملية التحديث السياسي القادمة التي ستفرض ممثلين للأغلبية والأقلية، كما أن القانون ليس مقدسا وربما سيتعرض للتبديل لكن بعد التجربة.
التشدد إذا سيد الموقف وان كان تكتيكياً ومرحلياً لحين التعامل مع قلق واشنطن والعواصم الأوروبية، الحلفاء الاستراتيجيين والمانحين الرئيسيين، وقراءة بوصلة المشهد المحلي الداخلي حيث وصل النقاش المجتمعي والحزبي والنخبوي إلى مستويات حرجة في غياب الية علمية مستقلة لقياس الرأي العام وفشل حكومي في الترويج لمشروع القانون.
لقاء نائب رئيس الوزراء ووزير الخارجية وشؤون المغتربين ايمن الصفدي مؤخراً بسفراء مجموعة دول الاتحاد الأوروبي ودول أوروبية أخرى كسويسرا، مثال صارخ على تشدد الأردن الرسمي حيال أي نقد خارجي قد يطال قرارا داخليا أتخذه لتنظيم الفضاء السيبراني، آخر معقل لحرية التعبير في الفضاء المدني المتضائل منذ سنوات.
فالصفدي الذي يعتبره البعض رجل الدولة الأقوى بسبب عدم تردده في الدفاع وبشراسة عن المواقف الرسمية غير الشعبية وبسبب الدعم اللامتناهي الذي يحظى به من قبل القصر والأجهزة الأمنية لم يتردد في مساجلة سفيري ايرلندا وبريطانيا عندما تحدثا بدبلوماسية عالية عن مخاوفهما من إقرار القانون مع تفهمهما الكامل لدوافع الأردن الأمنية.
الأكيد هو أن القانون ضربة للمنظومة الشاملة للتحديث السياسي والاقتصادي والاداري التي قادها الملك عبدالله الثاني ما بين 2021-2022 مدعومة بترويج إعلامي واسع النطاق للإعلان عنها وشحد الهمم.
وبعد استعراض موقف الأردن من قضايا إقليمية سأل الصفدي الحضور إذا كان لديهم رغبة بمناقشة أية أمور أخرى؟ فأبدى السفراء رغبة في نقاش مشروع قانون الجرائم الإلكترونية.
وهنا أبدى الصفدي صرامة ” غير ديبلوماسية” بحسب وصف أحد المشاركين في اللقاء. فهو قدم مطالعة لتشريعات أوروبية تتعامل مع قضايا مماثلة، كانت أيضا مثار انتقادات حقوقية وشعبية عندما أقرت مؤخرا.
السفيرة الايرلندية كانت أول من تحدث.
فعبرت عن مخاوفها من تأثير القانون الجديد على حرية الرأي والتعبير وعمل الصحفيين، خاصة وان مجلسي الاعيان والنواب ابقيا على تعابير فضفاضة مثل “اغتيال الشخصية، وازدراء الأديان، وإثارة الفتنة والنعرات والحض على الكراهية “. وهنا طلب الصفدي منها مثالا محددا على ما تقصد حيال تهديد حرية الرأي والتعبير. ارتبكت وجمدت في مكانها بحسب بعض الحضور.
وجاء دور السفيرة البريطانية في الكلام.
وبعد ان عبرت عن تفهم بلادها لمواقف الأردن من ضرورة حماية أمنه واستقراره تساءلت عن الرسالة التي يوجهها إقرار قانون كهذا لوعود التحديث السياسي الملكي الشامل الذي يرتقي الى ديمقراطية برلمانية أوسع و حكومة أكثر تمثيلا.
وألمحت الى ان بلادها قد تجري مراجعة لاتفاقيات التعاون مع الأردن.
ارتفعت مناسيب الحدة في الصالة. الصفدي الذي ذكرهم أنه عمل في الماضي كصحفي وكاتب مقالات رأي قبل أن يصبح موظفا عاما أخرج ورقة وبدأ بقراءة نصوص قانونية من القانون البريطاني.
وهنا ساد اللقاء صمت بعد أن شعر بعضهم بأنهم أتوا لسماع محاضرة أحادية الجانب وليس للتحاور كحلفاء صادقين لهم أيضا تجربة مع مثالب القوانين الجديدة التي تعالج الجرائم السيبرانية في بلادهم.
الوزير أصر على أن القانون ليس مقدساً ولا مثالياً وهو كغيره من التشريعات سيكون قيد التجربة وهو لن يطبق بصورة تعسفية.
السفراء الأوروبيون خرجوا من الاجتماع بانطباع غير إيجابي من الطريقة التي جرى التعامل معهم، بحسب وصف ثلاث دبلوماسيين شاركوا في اللقاء. وقد تتحرك المجموعة ككل بعد التشاور مع العواصم وترسل موقفا مكتوبا.
وقال أحد الدبلوماسيين المشاركين: “صحيح أن بعض دول الغرب باتت تتشدد بقوانين التعامل مع منصات التواصل الإعلامي ومع حرية الرأي والتعبير، لكن في هذه الدول ضغوط قوية ضد ذلك”. وبحسب دبلوماسيين آخرين هناك إعلام تقليدي وجديد متنوع ومؤثر لا يخشى من قول الحقيقة ومحاسبة المسؤولين لخدمة الصالح العام. هناك جهاز قضائي أكثر استقلالاً يقف أمام التدخلات السياسية، وهناك أحزاب حاكمة واخرى معارضة لها برامج واضحة.
الخلاصة هي أن الأردن سيكون على مفترق طرق لناحية حرية الرأي والتعبير إذا ما أقر القانون بـ”الإرادة الملكية” ودخوله حيز التنفيذ.
فإقرار القانون بصيغته الحالية يعتبر ضربة قاضية لحرية التعبير ودور السلطة الرابعة، وللتحديث، ويعيد البلاد إلى أجواء ما قبل التحركات الشعبية في اطار الربيع العربي ومرحلة الأحكام العرفية التي حكمت الأردن من خمسينيات القرن الماضي ولغاية إطلاق الملك الراحل الحسين بن طلال سلسلة قوانين لـ إطلاق الدمقرطة في بداية التسعينيات بعد هبة نيسان الشعبية التي دلت على عمق الغضب الشعبي من السياسات الرسمية.
منظمات دولية خاطبت الملك قبل وبعد إقرار القانون للتدخل وإبطال المواد التعسفية. لجنة تنسيقية المعارضة التي تضم 15 حزبا ونشطاء وصحافيين أطلقت عاصفة الكترونية بعد إقرار القانون تناشد الملك التدخل ووقف إعدام وعود التحديث.
قبيل اللقاءات الملكية المزمعة في واشنطن يصر مسؤول أردني على أن ردود الفعل الدولية يمكن إدارتها والتعامل معها على قاعدة أن المصالح بين الدول متشابكة وواسعة وهناك أولويات في العلاقات. وستكون هناك خطوات ملكية ومواقف لطمأنة الجميع على ان هذا القانون لن يمس حرياتهم ولن يتعارض مع عملية التحديث ولن يستخدم من قبل المسؤولين لمعاقبة المعارضين والمنتقدين متى جاء النقد في إطاره السليم بحسب المسؤول.
لكن هناك خشية في أوساط شعبية وسياسية وإعلامية مبررة، فالجميع يفكر مرتين قبل اللجوء لمنصات فيسبوك وتويتر وانستغرام وغيرها.
الأحزاب الجديدة التي تقدمت بترخيص والقديمة التي أعادت تكييف نفسها مع قوانين الانفتاح السياسي الموعود تحتل غالبية مقاعد مجلس النواب الذي مرر قانون الجرائم الإلكترونية، حيث يتساءل العديد من غالبية المواطنين الفاقدين أصلا الثقة بدور الأحزاب عن مدى مصداقية العمل الحزبي الموعود.
حرية التعبير والإعلام المستقل بما فيها وعود التحديث الشامل ليست أكثر من إنعكاس لحالة من الإنكار التي تعيشها بعض مفاصل صنع القرار بحسب نشطاء وساسة في مملكة باتت تقترب من مفهوم “صناعة الوهم” الذي تحمله وتروج له النخب السياسية والاقتصادية والإعلامية الجديدة لإخفاء الفقر المتزايد والفساد والمحسوبية وانهيار الخدمات العامة.
سيكون الأردنيون، بما في ذلك وسائل الإعلام، أحرارا في متابعة مشاهد جميع تغييرات التحديث الموعودة من على الهامش، لكنهم سيكونوا بحاجة إلى ممارسة الحذر الشديد فيما يقولونه عنها بعد دخول القانون حيز التنفيذ.
درج