في وداع الذهبي: عقلٌ إستراتيجي يقود المخابرات العامة ويغيّر صورتها

الرابط المختصر

 الفريق محمد الذهبي هو مدير المخابرات العامة الوحيد الذي عرفته وهو على رأس عمله ، وأجريتُ معه ثلاث جلسات مطوّلة من العصف الفكري في مكتبه ، شاعرا ، لأول مرة في حياتي السياسية، أنني بإزاء ممثل استثنائي للنظام الأردني ـ الذي يعج بالتقليديين ـ وفي لقائنا الأول دهشتُ من ذكائه وحيويته وسعة أفقه. لكنني فيما بعد أدركتُ أنني أمام مثقف يتربع على مقعد مدير المخابرات ، وليس أمام مدير مخابرات ” منفتح”.

 

ليس الذهبي برجل مخابرات عادي أو تقليدي . ليس برجل أمن بقدرما هو رجل سياسة. أو قل هو رجل أمن وسياسة معا ، بمعنى أنه يتحلى بعقلية إستراتيجية هي التي كانت وراء تصريحه الشهير ” نحن مخابرات الدولة ، ولسنا دولة المخابرات” .

غيّر الذهبي صورة المخابرات العامة جذريا، وحوّلها من ” خصم لدود” للحزبيين والتيارات السياسية المعارضة ، إلى جهة حوار فعّال مع القوى الحية في المجتمع ـ بما في ذلك الإسلاميون واليساريون ـ ومع المثقفين والإعلاميين.

رأيت الذهبي ـ المهجوس بخطر الوطن البديل ـ واعيا بأن مواجهة هذا الخطر، لا تتم بالمناورات الدبلوماسية، ولا بالإجراءات الأمنية، ولكن بتجذير الحياة السياسية في تيارات فاعلة قادرة على تنظيم الشعب ، وزجه في معركة الدفاع عن الذات. فالشعب ، مثلما قال غير مرة ـ وليس الجهزة ـ هو القادر على حماية البلد والدولة والنظام . وأشهد أنه طالما قرن القول بالفعل ، مذللا الصعوبات البيروقراطية أمام النشاطات السياسية ، النخبوية والجماهيرية، وبغض النظر عن اتجاهها . فالحكمة التي خرج بها الذهبي هي أنه ، كرجل معني بأمن الدولة، ليس معنيا بالخلافات السياسية وتعارض الاتجاهات الفكرية ـ لكنه معني بأن يكون الحزب أو النشاط وطنيا أردنيا ، ثم ، بعد ذلك، ليكن ما يكون من حيث فكره وبرامجه ومواقفه في السياسة الداخلية او الخارجية.

والذهبي رجل مبادرات كبرى . فحين ايقن أن تجديد العلاقة مع حماس ، يشكل ضرورة استراتيجية أردنية في مواجهة الوطن البديل، وتمأزق العلاقة مع الرئاسة الفلسطينية، استأذن بفتح خطوط العلاقة مع حركة حماس وإدارتها بدينامية ، والدفع نحو تعزيز العلاقة مع سورية . ولا شك أن هاتين الخطوتين الجريئتين ، بالإضافة إلى الانفراج الداخلي غير المسبوق في عهده وتشجيعه للاستجابة الحكومية للمطالبات الاجتماعية ، لا شك أن كل ذلك قد حسّن صورة الأردن ، وعزز تماسكه الداخلي ، وقوّى قدرته على مواجهة المصاعب.

خاض الذهبي المعركة ضد الليبرالية الجديدة وفسادها ومساعيها لبيع البلد بالمفرق وبالجملة ، خاضها بإخلاص متمثلا ـ كما قال ـ ذكرى وصفي التل. ولم يكن يخوضها ـ مثلما يُقال ـ من أجل منصب أو مصلحة. وقد التقيته في عز الأزمة ووجدته صلبا ومثابرا ومصمما على إزالة النهج الليبرالي الجديد وليس رموزه فقط.

ولا بد أن جميع النشطاء و المشتغلين بالعمل السياسي في الأردن قد شعروا، في السنة الأخيرة خصوصا بأنهم يتحركون بحرية غير مسبوقة ، وكان الأردن ، منذ بدء العدوان على غزة ، في مقدمة البلدان العربية من حيث حرية وكثافة التعبير السياسي الجماهيري. وهو ما لم يضر بالأمن الوطني، بل عزّز صورة البلد، وترك لدى المواطنين شعورا بأنهم مواطنون في وطن . وعلى المستوى العربي أضاءت صورة الأردن، بينما خسرت السلطة الفلسطينية ومصر ، الجولة. وكل ذلك من دون أي مساس بالأمن أو إلقاء حجر أو كسر لوح زجاج. إنها المعادلة المعروفة عن فضائل الحرية المسئولة التي أدركها رجل أمن استثنائي.


إن انجازات الذهبي الإدارية والسياسية والأمنية هي انجازات وطنية ، نأمل ألا تكون اليوم موضع تساؤل.