في نقد الأديان و"أسلمة" الدولة "الكافرة"

الرابط المختصر

ينتابُني شعور بالقلق والخوف حينما أحاول الكتابة عن الرسوم الكاريكاتورية التي تسيء للنبي محمد.

الاقتراب من قضايا الدين، وحتى الجنس في المجتمعات العربية والإسلامية من المسكوت عنها، ومن التابوهات والخطوط التي من الصعب البحث فيها مهما صدقت النيّات، ومهما أعلنت مُسبقا موقفا لا يقبل الالتباس، فهناك من يترصد بك لتكفيرك ووسمك بالإلحاد.

نعم أخاف الكتابة بهذه القضايا الشائكة رغم أهميتها، ورغم أنها تُسيطر على وجدان الناس وتشغل بالهم، فإن لم تتهم بالتجديف فإن التشريعات تكون لك بالمرصاد.

أشعر بالوجل وأنا أقترب سعيا لمناقشة هادئة لأفكار عُصمت من البحث، وأسبغ عليها حالة من التقديس، وكأنني حين أضع الحروف أسير على حبل مدود بين جبلين شاهقين فأخشى السقوط مهما كنت يقظا ومحترفا، وتظل تُشاغلني وتوجعني صورة الشهيد الكاتب ناهض حتر مُسجا على أدراج قصر العدل في عمّان ودماؤه نازفة بعد أن أطلق مجرم رصاصات الغدر نحو قلبه فأرداه قتيلا بعد أن أعاد نشر رسوم كاريكاتورية اعتبرت مسيئة للإسلام.

سأبدأ بالقول حتى تصمت الألسن المُحرفة بأنني ضد ازدراء الأديان، وضد الإساءة للأنبياء، وهذه القيم أستمدها من إيماني بحرية المعتقد، وتكريسا لمبادئ حقوقية لا أحيد عنها، ويحضر بين يدي قرار للمحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان اعتبر أن ازدراء الدين والإساءة للنبي محمد ليست من حرية التعبير.

بعض الأقليات المهاجرة تعيش في "غيتو" وتأخذ كل منافع المواطنة وتنظر للدولة التي تعيش في كنفها على أنها كافرة

هذا الثابت في عقلي وضميري لا يمنعني من نقد الفكر الديني، والدعوة للتجديد في الخطاب الديني وتنقيحه من "الشعوذات" التي حملها إرهابيون ليسفكوا الدماء في كل بقاع الأرض رافعين رايات دينية مهما كان اسمها، أو لونها، أو هويتها.

نقد الخطاب الديني حتى ولو كان قاسيا وحمل شططا أو إساءة لا يُشكل رخصة لمهووس ليستل سيفه فيذبح من أساء، أو قال رأيا اعتبره مُهينا أو إساءة لدينه أو معتقده أو نبيه.

بوضوح، الإساءة وشتم الرموز الدينية إسلامية، أو مسيحية، أو غيرها مرفوض، لكنه ليس مُبررا لحمل السلاح، وتشكيل جماعات ومنظمات سرية أو علنية لاستباحة أرواح الناس، وتنصيب أنفسهم حُكاما باسم الله في الأرض.

سألت صديقتي المحامية والحقوقية هالة عاهد عن رأيها في هذه الأزمة التي تختلط فيها المواقف، فأجابتني "بين عبارتي ازدراء الأديان وانتقاد الأديان خط رفيع جدا؛ يدفع البعض لجعل أي انتقاد هو بمثابة ازدراء قد يؤجج المشاعر، ولا يمكن التعويل على مدى استياء اتباع دين ما من الانتقاد ليكون هذا سببا كافيا لإخراج انتقاد الأديان أو ازدرائها من كونها حرية رأي وتعبير محمية".

وتابعت "ما ينبغي أن يظل مجرما ولا يدخل في نطاق حرية الرأي والتعبير هو التصرفات التمييزية، والتنميط، وأفعال التحريض والكراهية، والعنف ضد أتباع دين معين، أو ربط دين معين بالإرهاب وليس انتقاد تعاليم الدين، أو شخصياته، أو ممارسات اتباعه".

القصة لم تبدأ بالرسوم الدنماركية التي أساءت للرسول محمد وأشعلت براكين الغضب في العالمين العربي والإسلامي، ولم يكن ما نشرته مجلة "شارل إيبدو" الفرنسية الشعرة التي قصمت التعايش بين الديانات والشعوب، وإنما تاريخ يمتد لقرون من الزمن استخدم الدين من قبل بعض السياسيين والجماعات لإضرام نيران الحقد والكراهية لبناء ممالكهم ودولهم، تعزيزا لنفوذهم ومصالحهم.

♦♦♦

نعود إلى اللحظة الحاضرة التي فجرتها باريس "عاصمة النور" وصبّ الزيت على نارها الرئيس ماكرون بتصريحات شعبوية ظاهرها الدفاع عن قيم الجمهورية والعلمانية، وباطنها شراء ضمير اليمين المتطرف؛ أملا في جني أصوات انتخابية تضمن فوزه مرة أخرى للوصول إلى قصر الإليزيه.

قررت مجلة "شارل إيبدو" إعادة نشر الرسوم الكاريكاتورية المسيئة للرسول محمد والتي نشرتها عام 2015 بمناسبة بدء محاكمة القتلة الذي هاجموا مقر المجلة وتسببوا بمقتل 12 شخصا، وقرر معلم فرنسي أن يعرض تلك الرسوم على طلبته في المدرسة معتقدا أنه يغذي ويدافع عن قيم حرية التعبير، فجاء الرد جريمة بشعة ارتكبها لاجئ "روسي ـ شيشاني" مسلم قرر تطبيق شريعته بذبحه بوسط الشارع، ولم يشفع للمعلم اعتذاره؛ فاهتزت فرنسا مجددا تحت وطأة الإرهاب الذي يتدثر برداء الدين.

من حق الفرنسيين أن يغضبوا من هذه الجريمة البشعة رغم أن الشرطة قتلت المجرم ـ الذي لم يبلغ الـ 20 عاما ـ بعد ساعات قليلة، والحقيقة أن التداعيات التي تلاحقت بعد ذلك ليست معزولة عن سياق سياسي أمني؛ ففرنسا أكثر الدول الأوروبية عُرضة للعمليات الإرهابية؛ فمنذ عام 2015 فقط سقط 253 قتيلا ومئات الجرحى ضحايا العمليات الإرهابية التي نفذت على أراضيها.

تصريحات ماكرون ظاهرها دفاع عن القيم العلمانية وباطنها شراء لضمير اليمين المتطرف

فرنسا التي يقترب فيها عدد المسلمين من 6 مليون وقع بها 18 هجوما إرهابيا بدءا من حادثة مجلة "شارل إيبدو"، ويكشف تقرير برلماني فرنسي نُشر في شهر يوليو الماضي عن وجود 8123 شخصا مدرجين على قوائم التطرف حسب إحصائيات لوزارة الداخلية، ويعتبر التقرير ما أسماه "التطرف الإسلامي" في فرنسا قد مس كل نواحي الحياة الاجتماعية، ويفرض أنماطا جديدة مُستفيدا من الحرية الفردية.

يستخدم السياسيون الفرنسيون وعلى رأسهم ماكرون هذه المؤشرات ليُطلق حملة تُنادي بالتصدي للانعزالية الإسلامية، ويُعلن على الملأ أن الإسلام ديانة تعيش أزمة في كل مكان في العالم، ولا يتردد في طرح مشروع قانون أسماه "الانفصال الشعوري" يهدف إلى مكافحة من يوظفون الدين للتشكيك بقيم الجمهورية، ويُكمل وزير داخليته الهجوم بالتأكيد على أن "فرنسا في حرب ضد الإرهاب الإسلاموي".

لا يبدو أن الرئيس ماكرون منشغلا كثيرا بحملات المقاطعة للصناعات والمنتجات الفرنسية التي انطلقت في دول العالمين العربي والإسلامي، ولا يُصغي لحملات التنديد بخطاباته التي تتصاعد وتيرتها حتى إعلانه أن بلاده لن تتخلى عن الرسومات الساخرة، ولن ترضخ للتهديدات، وأن الإسلاميين لن يقتلوا مستقبل فرنسا.

في مناظرة تلفزيونية أذيعت على محطات تلفزة فرنسية استضافت "ميشيل أونفراي" و"إريك زمور" اتفقا ـ رغم اختلافهما ـ على أن حملة ماكرون تعبير عن صدام بين حضارتين.

كثيرون في العالم العربي يرون أن ماكرون يُكرس ظاهرة "الإسلاموفوبيا" ويُغذي تصنيع الخوف، وما يقوم به ليس أكثر من استثمار انتخابي لحصد الأصوات لوضع حد لتقدم مارين لوبان مرشحة اليمين المتطرف التي تتقدم في سباق استطلاعات الرأي العام.

لا يكترث الزعماء السياسيون حين تكون حماقاتهم السياسية سببا لتأجيج خطاب الكراهية، وتزايد العنف والتمييز، فمصالحهم دائما أولا.

الاقتراب من قضايا الدين والجنس "تابوهات" يصعُب البحث فيها حتى لو صدقت النيّات فهناك من يترصد بك لتكفيرك

للقصة وجه آخر لا يرتبط بخطابات ماكرون وخطاياه السياسية، وإنما في بعض الأقليات المهاجرة التي تعيش في عزلة و"غيتو"، وتأخذ كل منافع المواطنة وتنظر للدولة التي تعيش في كنفها على أنها كافرة، ويعملون على "أسلمتها" حتى ولو كان بالسيف أو البندقية.

هؤلاء يجدون أن من حقهم فرض التغيير حتى ولو بالقوة، ولا يجدون حرجا في التشكيك بالروايات الدينية للكتب المقدسة (الإنجيل والتوراة)، ويُجاهرون بتكذيب سرديات دينية يؤمن بها الملايين، واستقرت في نفوسهم.

حرية المعتقد مُصانة للجميع، وإعلاء قيم التسامح والتعايش لا تُعطي الحق لأي كان بفرض أجندته الدينية، أو أن يعبث ببُنيان الدولة وهويتها؛ فإن كنت كارها لنظامها السياسي فلا أحد يُجبرك على البقاء بها.

يُهاجر البعض إلى الغرب لا يحمل في حقيبته ملابسه فقط، وإنما كل أفكاره وأنماط حياته وتقاليده، ويُقرر سلفا أنه لن يتغير أو يتعايش مع مجتمعه الجديد، فما يُريده من "البلاد الكافرة" التي لجأ إليها بعد أن عاش تجربة الاستبداد في بلاده، الرفاه الاقتصادي، والتنعم بامتيازات التعليم والصحة والنقل.

لا يطوي هؤلاء صفحة حياتهم السابقة، ولا يفتحون عقولهم وقلوبهم للمستقبل، ولا يُدركون أن التغيير تصنعه صناديق الاقتراع، وليس "سواطير" يُشهرونها في وجه مُخاليفهم في الرأي والعقيدة والحياة.

من عند هؤلاء تبدأ القصة، ويتجدد الصراع الذي يأخذ لبوسا دينيا، وثقافيا، وتُستحضر من خلاله عقود الاستعمار البغيضة، يجزع الجميع، إلا هم فرحون مبتهجون بغزواتهم وشعاراتهم. 

*موقع الحرة