في رثاء الراحل الكبير صلاح حزيّن هزمتنا أيها الموت

الرابط المختصر

بالأمس حاولت أن أكتب عن الصديق الكاتب صلاح حزين ، الذي ارتحل وهو يحلم ببداية جديدة مع الحياة ، لكنني سمعت هاتفا يقول لي: لا شيء يصلح الآن للكتابة ، لا فائدة من إغلاق الاسطبل بعد أن يخرج الحصان.

هذه محاولة أخرى للملمة الأشياء والكتابة ، علني أفلح هذه المرة.

لقد أحسست بأن موتك أيها الصديق قد أعاد تصفير الأشياء والوقت ، فلم أجد ما أتذكره أو أحتفي به ، بعد أن غدا الموت موضوع احتفاء غامض نمارسه بوعي او بلا وعي ، هو كذلك برغم خوفنا منه وكرهنا له،

قلت لي قبيل موتك بأيام "سنلتقي هناك ، قد يكون عالم هناك أفضل من عالم هنا" وضحكت ، لكنني أحسست بأن ضحكتك لا تنتمي إلى ماضيك الذي عرفته ، ولا لأيامك الصاخبة ، كنت تنتمي إلى عالم آخر ، كأنك بدأت تشد الرحال نحو عالم الهناك منذ تلك اللحظة.

قلت لي أيضا ، وكثيرا ما نقوّل الراحلين ما لم يقولوه ، هكذا نحن الكتاب ، قلت "أجلس معكم وأخادعكم دون أن تعرفوا". وحين استوضحت منك قلت بأنك تجلس مع الأحياء الذين لا تنتمي الى عالمهم ، وبأن خديعتك تتمثل في جلوس من ينتمي الى العالم الآخر مع من ينتمون إلى هذه الدنيا.

لكنك صمتّ طويلا بعدها ، إلى حد أنني رأيت ذكريات العمر وهي تتسرب بغزارة من جيوب عينيك المكابرتين.

كنت تحاول شد أزري بادعاء انتصارك على اورام جسدك ، وكنت أساير ظفرك المؤقت بلحظات الاسترخاء التي تمكنت منها ، بعد عمر كامل من الشقاء والتعب.

آه كم تعبت أيها الصديق ، أعرف بأنك كنت تتعب بصمت ، لم تنتظر التفاتة من أي كائن على وجه هذه الأرض ، لم تعتب على من لم يلتفتوا اليك في غمرة توزيع غنائم المثقفين ، وأنت المثقف الكبير الذي لم يقف على عربات التهريج الملونة كي يعلن عن وجوده المكثف ، لم تحصل على شيء من موائد الوطن وكل الأوطان ، وآثرت الاشتباك مع الحياة وحدك ، زادُك الأصدقاء الذين أخلصت لهم وأعطيتهم كل ما لديك من حب وفرح ومجد.

ها إن الموت يهزمنا أيها الصديق ، ويصيب فينا مقتلا يمتد إلى غسان قلوبنا التي توارت وأعرضت عن الحب جراء توقفها المباغت عند جثمانك.

ماذا أبقيت لزوجتك المحبة لك ، ولولديك وإخوتك بعد أن فجعتهم - في أيامك الأخيرة - بركضك الغريب نحو الأبدية ، ثم برحيلك السريع غير المفهوم؟

ماذا أقول للأصدقاء الذين كذبتُ عليهم وأخبرتهم بأنك ستشفى عما قريب؟

ماذا أقول للأصدقاء في عمان والقاهرة ورام الله وبيروت ودمشق ولندن وبلغاريا وتونس وبغداد ودبي والدوحة والكويت وكل جزيرة العرب؟ بأي وجه ألقاهم من دونك؟ ماذا أقول لمن اختلفتَ معهم ولمن اتفقتَ معهم خلال شوطك الطويل مع الفكر والسياسة والثقافة؟

وأنت الذي لم تكن ترضى بأنصاف الحلول ، كنت تملك جسارة الوضوح ، لم تتردد يوما في إعلان مواقفك التي غالبا ما تصطدم بمواقف "الجماهير الغاضبة" والسياسيين المندفعين المتحمسين ، أولئك الذين غالبا ما تبنوا - متأخرين وبعد فوات الأوان - آراءك المبكرة عن مستجدات فلسطين والعراق ، وعن ولاية الراديكاليين وزحفهم.

هزمتنا أيها الموت ، وأجهضت رهاننا ومحاولاتنا البائسة الحزينة للإبقاء على واحد من ألد أعدائك.

فسلام عليك أيها الصديق ، سلام على أيامك العذبة.

ترى هل سنلتقي هناك