في الجدل الدائر حول الأحزاب وقانونها وسبل تمثيلها في البرلمان

تنطلق أشغال "اللجنة الملكية لتحديث المنظومة السياسية" من فرضية تقوم على الحاجة لوجود أحزاب كبيرة، وطنية في تمثيلها، برامجية، ويفضل أن تتوفر على "حكومات ظل". لا أحد يجادل في صحة هذه الفرضية، وحاجة الأردن لأحزاب بمثل هذه " المواصفات والمقاييس" ... بيد أن الخلاف مع ذلك، سيظل محتدماً حول أنجع السبل للوصول إلى هذه الغاية المشروعة تماماً.

ثمة فريق وازن في اللجنة، من ضمنه رئيسها، يرى أن زيادة عدد المؤسسين، واشتراط وجود برامج وطنية، وربما حكومات ظل، هو شرط لا غنى عنه لوجود الحزب وترخيصه (نفضّل أن نتحدث عن تسجيله)، فيما آخرون، ومن ضمنهم كاتب هذه السطور، يجادلون بقاعدة حقوقية – دستورية مفادها: "أن لا قيد على تشكيل الحزب السياسي طالما كانت أهدافه ومشروعه ووسائله سلمية"، وأن القانون، أي قانون، يهدف إلى تنظيم هذا الحق وليس تقييده بما يخالف روح، وأحياناً نص، القاعدة الدستورية.

هنا ينبغي القول إن إشاعة الحق بتشكيل الأحزاب، لا ينبغي أن يرتب على الدولة والخزينة أي كلف إضافية، مادية أو معنوية، فالدولة بمالها ومؤسساتها العامة، مُلزمة فقط بالتعامل مع الأحزاب التي تصل البرلمان، أما من يظل خارجه، فلا إلزام أو التزام من أي نوع، في تمويله أو تعويضه أو حتى دعوته للمشاركة في المناسبات العامة، اللهم إلا إذا كانت من النوع المفتوح جداً، ويتعين على المراسم والبروتوكول أن تختصر قائمة "طبقة الأمناء العامين" لتقتصر على من يجلس ممثلوهم تحت قبة المجلس.

أما "القيود"، فيتعين أن تكون صارمة على "تمويل الحزب"، هنا المسألة تدخل في باب حفظ المال العام، مال الأردنيين جميعاً، ومحاربة الفساد والإفساد، وتطهير الحياة السياسية من أي ظواهر انتهازية وارتزاقية، و"تخليق" العمل الحزبي، وضمان أن يكون الصالح العام، هو مبتدأ جملة العمل الحزبي وخبره.

هنا نفتح قوسين لنضيف، أن التمويل يجب أن يكون مقروناً بنتائج الانتخابات العامة، من محلية ونيابية، وأن يتضمن قانون الأحزاب "معايير هذا التمويل"، وأن تترك تفصيلاته وجزئياته فقط للنظام، فلا يجوز أن يظل تمويل الأحزاب عرضة لمزاج الحكومات، سيما ونحن نخطط لحكومات برلمانية في المستقبل غير البعيد (10 سنوات كما قيل لنا).

ثمة في التجربة الأردنية من الارتباك، ما يكفي للدفع باتجاه استحداث حالة من الاستقرار التشريعي بصورة عامة، وبخاصة في حقل الأحزاب والانتخاب ... وثمة في هذه التجربة ما يكفي من العبر والدروس، ما يصرفنا عن هذه النزعة "الإرادوية-البيروقراطية" في النظر للأحزاب السياسية ... عندما رُفع عدد الأعضاء المؤسسين للحزب إلى 500 عضو، ووضِع شرط (10 بالمئة من المؤسسين من النساء) لحصول الحزب على "التمويل"، فقد زادت الأحزاب عدداً، ولم تنقص، وأثناء إنجازنا لدراسة حول "دور المرأة في الأحزاب السياسية الأردنية" كانت صدمتنا عظيمة، ومفاجئة، حين رأينا عضويات شكلية، لا تعرف إلى أي حزب تنتمي، وحين وجدنا عنتاً ومشقة في جمع "عينة" من 500 سيدة حزبية، من أصل ألوف السيدات اللواتي افترضنا أنهن عضوات في مختلف الأحزاب المسجلة، أقله لاستيفاء شروط التأسيس والتمويل ... ثمة عشرات الطرق للتحايل على القانون، والالتفاف حول شروط تأسيسه المعقدة، ولن يعدم المتحايلون وسيلة لفعل ذلك، حتى وإن اشترطنا أن يأتي الأعضاء من أكثر من نصف محافظات المملكة.

وإذا ما استمرت هذه القيود والاشتراطات على تشكيل الأحزاب، فلنا أن نتخيّل سيناريو يتعين فيه على "الجهة المرجعية للأحزاب"، وهي حتى الآن وزارة الشؤون السياسية والبرلمانية (نفضل أن تكون الهيئة المستقلة للانتخاب بعد تعديل قانونها وتفويضها)، أن تشتمل على "ضابطة عدلية"، تقوم بمهمة مراقبة "عداد العضوية" فإن نقص في أي لحظة عن سقف 1000 أو 1500 عضو كما يتردد، بات الحزب في حكم المنحل، أو مُنع مؤسسوه من مواصلة مهمتهم، تلكم عملية مرهقة وبيروقراطية مكلفة، للحزب والجهة المرجعية سواء بسواء، وهي فوق هذا وذاك، تفتح باباً لاستهداف الأحزاب "المشاغبة" وغير المرغوبة، وهذا حصل في مرات عدة، في تجربتنا القصيرة الفائتة على أي حال، إذ يكفي أن يُصار للضغط على حفنة من المؤسسين، حتى "تنخسف" كفة الحزب مسجلاً كان أم قيد التأسيس، فيعيد الكرة مرة أخرى، وغالباً من دون نجاح يذكر.

وتحضرني هنا تجربتنا في ميدان تشكيلات الحكومات المتعاقبة، منذ سنين وعقود، فرئيس الحكومة عادة لا يأتي متسلحاً ببرنامج وطني شامل، ومن باب أولى لا يتوفر على فريق يمكن أن يحمل سمات "حكومة الظل"، وهو غالباً لا يتوفر على حيثية تمثيلية، ولم يُختَبر في ميادين الانتخابات العامة، والأهم، أن بعضهم تولى المناصب، بعد أن أصيب بصعقة كهربائية، لهول مفاجأة التكليف، وهو الذي لم يكن ليخطر بباله أكثر من تقلد منصب وزاري، أو رئاسة مجلس إدارة أو مجلس أمناء، فلماذا أبدينا كل هذا التساهل مع هؤلاء، ولماذا نبدي كل هذا التشدد مع أولئك.

الحزب السياسي أيها السادة، لا يُبنى بقانونٍ للأحزاب، وقانون الأحزاب في العادة، ليس سوى "علم وخبر"، يشتمل المعلومات الأساسية عنه، والتزامه بسلمية وسائله ومشروعية أهدافه، ومشروعية الأهداف لا ينبغي أن تظل كلمة عامة فضفاضة، ويجب أن تتحدد بعناوين من نوع: ألا يكون حزباً فئوياً أو عنصرياً أو مهدداً للسلم الأهلي أو ضارباً للوحدة الوطنية، إلى غير ذلك من محددات يتعين توصيفها بدقة، حتى لا تصبح مدخلاً لاستهداف الحزب، سيما إن كان معارضاً.

الحزب السياسي أيها السادة، يُبنى بقانون الانتخاب، حين يُصار إلى وضع قانون للانتخابات، يجعل من الحزب أو الكيان السياسي، قناة التمثيل والمشاركة، وليس من الأطر العائلية والحمائلية والعشائرية والجهوية والمناطقية .... وفي قانون الانتخاب، ثمة أدوات يمكن اعتمادها لإرغام الأحزاب سياسياً على البحث عن اندماجات وائتلافات وتحالفات، وإلى صياغة البرامج والرؤى اللاصقة لمكوناته، وإلى استرضاء جموع الناخبين من شتى المنابت والجهات والخلفيات والأقوام والأعراق والأديان، فالحزب بحاجة لأن يضمن الفوز، ولا فوز من دون أن ينفتح وطنياً وعلى عامة الشعب، هنا نشير إلى "عتبة الحسم" وإلى "أنظمة احتساب القوائم الفائزة، والمزايا التفضيلية عند تشكيل القوائم الخاصة بالشباب والنساء وأي "فئات مهمشة" وغيرها.

والحزب السياسي الذي سيشارك في الانتخابات، ينبغي أن يُسجل ككيان سياسي في "الهيئة المستقلة للانتخاب"، ويتعين أن تكون شروط التسجيل متخففة من قيود القِدم والأقدمية، فكل مجموعة من الشخصيات العامة (يحدد عددها بالحد الأدنى للقائمة الوطنية)، بمقدورها أن تُسجل ككيان سياسي، وأن تخوض غمار الانتخابات، وربما تسجيل المفاجآت، كتلك التي سجلها إيمانويل ماكرون في فرنسا، أو أكثر من دزينة من الأحزاب الإسرائيلية، التي تشكلت عشية الانتخابات، وفازت بعدد وازن من مقاعد الكنسيت، وأحياناً غالبيتها، لتسهم في تشكيل الحكومة أو أن تقودها.

ونضيف إلى ما سبق، ملاحظتين استدعاهما الجدل الدائر حول قانون الأحزاب وسبل تمثيلها: 

الأولى؛ السجال الدائر حول تطبيق القانون بأثر رجعي أو "أثر تقدمي" إن جاز التعبير، أخشى ما أخشاه، أن تتواطأ أحزابٌ قائمة مع فكرة "الأثر التقدمي"، فتَصمُت أو تَضعف مقاومتها للمشروع الجديد، على قاعدة "من خلفي الطوفان"، طالما أن القانون لا يشملني، فالأصل في القانون، أي قانون، أن ينظم حياة الأردنيين، كل الأردنيين، الآن وطيلة فترة سريانه، لا أن يفصل على مقاس هذه الجهة أو تلك ... فِكرةُ الأثر الرجعي أو "التقدمي" في التشريع، فكرة شائكة، أرجو أن ينبري أهل الاختصاص للتصدي لها، خصوصاً في حالة قانون الأحزاب السياسية، فلست مؤهلاً لبحث أعمق في هذا المجال.

والثانية؛ فكرة اقتصار القوائم الوطنية على الأحزاب السياسية، هنا يمكن القبول بالفكرة، شريطة التساهل في "تعريف الحزب السياسي"، وفتح باب مشاركته في الانتخابات بقيود مخففة، أما إن ظل الحال على حاله، فإنني أقترح فتح القوائم لشخصيات وطنية، تسجل قائمة أو كيان سياسي في الهيئة المستقلة، ويمكن لضمان الجدوى والجدية، اشتراط حصول القائمة الوطنية (غير الحزبية) على تزكية عدد من المواطنين، يعادل أو يفوق الحد الأدنى للأعضاء المؤسسين للحزب، كما سيستقر عليه التشريع.

هنا أيضاً، أخشى من تواطؤ أحزاب سياسية قائمة مع فكرة اقتصار القائمة الوطنية على الأحزاب، وأحذر من أن ذلك سيفتح "بازاراً" عند تشكيل القوائم، وسيعرقل تشكيلها، وسيحول دون انخراط شخصيات لها من "الشعبية" أكثر مما لدى دزينة من الأمناء العامين ... هذا ليس خياراً، أو أقله هذا ليس خياراً انتقالياً، بانتظار أن نتوفر على نظام حزبي.

يَفترض البعض أن مشروعي قانون الانتخاب وقانون الأحزاب، سيخلقان ديناميكية جديدة في المجتمع الأردني، وأنهما سيفضيان إلى تشكيل أحزاب جديدة، هذا محتمل، بيد أنه ليس حتمياً على الإطلاق، وعملية تشكيل أحزاب جديدة ووازنة، ستستغرق بعض الوقت، وهي في مطلق الأحوال، لا ينبغي أن تحجب حق الشخصيات الوطنية والناشطين والحراكيين من الانتظام في كيانات سياسية – انتخابية، من خارج الأحزاب القائمة أو القادمة، سيما وأن "الحراك"، بات الشكل التنظيمي الأكثر جذباً وتأثيراً للشباب من الأحزاب التقليدية، في الأردن كما في العالم العربي، بل وفي العالم بأسره.

نختم بفكرة تلقى رواجاً عند قادة الأحزاب بخاصة، وهي "القائمة المغلقة"، لنضيف بضع كلمات: هي ضمانة "الأمين العام" للفوز اعتماداً على أصوات غيره في القائمة، وليس على أصوات حزبه أو الأصوات التي يحرزها شخصه بالضرورة، هنا نصادر حق الناخب في إعادة ترتيب القائمة، واختيار من يراه الأنسب، هنا نضع عقبة إضافية أمام بناء التحالفات والائتلافات الحزبية والوطنية... ربما تكون القائمة المغلقة مريحة في بعض جوانبها، بيد أنها في مجملها، "أقل ديمقراطية" وتنطوي على قدر من "الاعتساف"، ما لم تكن مرتبطة بمسعى جدي لـ"دمقرطة الحياة الحزبية الداخلية" وتكريس تقاليد "المؤتمرات التمهيدية – Primaries"، لضمان صحة التمثيل والاختيار الديمقراطي، على مختلف مراحله، والله أعلم.

أضف تعليقك