فوضى الإفتاء
حولنا الداعية السعودي محمد المنجد إلى "أضحوكة" في الشرق والغرب ، بعد الفتوى البائسة التي أصدرها بحق "ميكي ماوس" ، وأهدر فيها دمه باعتباره من "جنود إبليس" ، داعيا المسلمين إلى مطاردة الفئران لأنها مسيّرة من الشيطان...فتوى المنجد امتدت إلى "توم وجيري" العدوين اللدودين الذين ألهبا خيال الأطفال وأثارا حماس الكبار على حد سواء.
نقول بائسة من باب التأدب فقط ، ذلك أن غيرنا ذهب أبعد مما ذهبنا في وصفها
، فالدكتورة سعاد صالح مديرة كلية الدراسات الإسلامية للبنات في جامعة
الأزهر وصفتها بـ"السخيفة" ، وهي كذلك بالفعل خصوصا بعد أن تحوّلت إلى
مادة للسخرية والتندر من رجال الدين والمفتين - جمع مفتي - في بلادنا ،
وقد احتلت قصة إهدار دم ميكي ماوس - الأصح أن نقول إهدار قطن ، فالدمية
محشوة بالقطن على ما نعرف - إلى مادة تتصدر صفحات الجرائد ونشرات الأخبار
في صحف الغرب وتلفزيوناته ، هذا يضحك ساخرا ، وذاك يقرأ مستهزئا ومستنكرا
ومستخفا ، هذا يقارن بين فتوى الخميني الإطاحة بسلمان رشدي وفتوى المنجد
الإطاحة بميكي ماوس وجيري إلى غير ما هنالك.
قبل "فتوى المنجد" بأيام ، كان رئيس مجلس القضاء الأعلى في السعودية الشيخ
صالح بن محمد اللحيدان أصدر فتوى جديدة أجاز فيها قتل أصحاب القنوات
الفضائية المفسدة التي تدعو للفكاهة والضحك ، وذلك تعقيبا على الإقبال
المتزايد على مشاهد مسلسل "نور" التركي ، الشيخ السعودي دعا إلى استتابة
أصحاب الفضائيات العربية ، فإن لم يفعلوا ويتقوا الله ، أُحل دمهم.
حملة المنجد على ميكي ماوس تذكرنا بحرب إيران ضد "باربي" ، وهي حملة شديدة
اللهجة ، بدأت بمنع استيرادها صورا ومجسمات ، ومرت بمداهمة الأوكار التي
تبيعها وتروّج لها ، وانتهت إلى إنتاج "باربي محجبة" تنسجم مع "المواصفات
والمقاييس" الإيرانية ، والذريعة ، أو المبرر الإيديولوجي لتلك الحرب ،
كانت في حينه أن "باربي" تشتمل على الكثير من الفحش والإغراء ، وقد تشكل
خطرا على سلوك النشئ وأخلاقياته وثقافته ، وهي ذاتها الذريعة التي جعلت من
"الدمية" الأشهر في العالم قبل أن تطيح بعرشها أو تزلزله على الأقل ،
مجموعة "براتس" ، هدفا تلتقي من حوله كافة الأصوليات الإسلامية ، السلفية
منها والشيعية ، وبصرف النظر عن اختلافاتها العقيدية والاجتهادية.
فوضى الإفتاء ظاهرة عانت منها المجتمعات العربية والإسلامية ، وأدت إلى
إزهاق أرواح مئات وأولوف المواطنيين في حروب ومواجهات عبثية ، وأفضت إلى
خلخلة استقرار وزعزعة أمن وأمان العديد من الدول والمجتمعات ، وكرست شرخا
طائفيا ومذهبيا عميقا يصعب ردمه ، الأمر الذي استدعى تنبها - وإن متأخرا -
لهذه الظاهرة التي لم نشف منها بعد.
مشكلتنا اليوم ، إن فوضى الإفتاء فرّخت ظاهرة جديدة
هي "تهافت" الافتاء و"إسفافه" ، وهي ظاهرة لا تقل خطورة أيضا ، تستخف
بعقولنا وتجعل منّا أمة من الحمقى طالما أن هذا هو مستوى "علمائنا" وتلكم
هي سويتهم ، وأحسب أن التصدي لظاهرة الإسفاف في الافتاء لا يقل أهمية
وإلحاحية عن التصدي لفوضى الإفتاء والغلو فيه ، وأقل ما يمكن أن نفعله
ونبدأ به ، هو أن نعيد هؤلاء "العلماء" إلى زواياهم وتكاياهم المظلمة ،
وأن لا نمكنهم من فضائنا وأثيرنا وحبرنا وورقنا ، حتى لا يفسدوها ويفسدونا.











































