"فقه الفضلات"

"فقه الفضلات"
الرابط المختصر

لا ريب أن عالم الفيزياء والكيمياء الإيطالي "أليساندرو فولتا" مكتشف غاز الميثان في القرن الثامن عشر الميلادي، كان واثقاً من أن ثمة من سيأتي بعده ليستكمل مسيرة اكتشافه ويوظفه في خدمة البشرية جمعاء، وكدأب أمتنا وديدنها أبى باحثوها إلا أن يكون لهم بصمة في كل اكتشاف؛ فدرسوا غاز الميثان من زاوية لم ولن تخطر على بال أحد، فتقدم باحث عربي قبل بضع سنوات بأطروحة ماجيستير في جامعة الإمام محمد بن سعود بعنوان "أحكام الأصوات الصادرة عن الإنسان عدا الكلام"، فقسمّها إلى فصلين رئيسيين تناول الأول حكم الأصوات الخارجة من الفم عدا الكلام: "الأنين والتثاؤب والتأوه والشخير والصفير والبكاء والضحك والتبسم وتقليد أصوات الحيوانات والجمادات والأشخاص وصوت التنفس والسعال والكحة..."، أما الفصل الثاني من الرسالة فقد خُصِّصَ للأصوات الخارجة من غير الفم واحتلت الغازات – التي أعف عن ذكر اسمها الفعلي كما يورده البحث وفقهاء الفضلات- نصف هذا الفصل في مبحث تضمن 9 مطالب كاملة تشرح: "تعريف الغازات –باسمها الفقهي ضرا....- وتصنيفها وأنواعها وحكم كل نوع وأثره على الوضوء والصلاة وحكم حدوثها في المسجد وحكم صلاة من ائتم بشخص فشك كل منهما أن الآخر قد خرج منه صوت ريح...".

 

مؤخراً، تم تتويج هذا الفرع "العظيم" من المعرفة بمنح كلية الشريعة والقانون بجامعة الأزهر درجة الدكتوراة بتقدير ممتاز لرسالة موضوعها: "حكم الغازات الحميدة "، ومن أهم النتائج التي خلص إليها الباحث: "وجوب استخدام الكلمتين الأصليتين للريح والغازات كما وردتا في كتب الفقه (الضرا... والف...) وعدم الخجل من ذلك، وأن الغازات الملثمة برائحة البصل أو البيض أو البصترمة أو الكرنب؛ هي التي تبطل الوضوء، في حين أن ما عداها من غازات لا تحمل أياً من تلك الروائح، ليس لها ذات الأثر الشرعي إلا إذا استمرت لأكثر من 4 ثواني وكانت قوتها أكثر من 30 ديسبيل(DB)". أعتقد أنه ينبغي على "الدكتور" صاحب هذه الرسالة المبادرة فوراً إلى تسجيل براءة اختراع حتى يحمي حقوقه الخاصة بالملكية الفكرية في مواجهة الشركات الأجنبية "النجسة" التي قد تبادر إلى تطوير جهاز يتم تركيبه على مؤخرة الشخص ليقيس المدة الزمنية وقوة الموجات الصوتية للغازات المنبعثة.

 

هذه ليست نكتةً أو مقطع من فنتازيا تلفزيونية بل هي وقائع موثقة لها من يدافع عنها ويتفاخر بها، من غير المتوقع أن تجد من يجيبك بإقناع عن الأسئلة البديهية التي تثور في ذهن كل عاقل حينما يقرأ مثل هذه العناوين والمواضيع: أي خسارة كانت ستلحق بالبشرية لو لم يتم القيام بمثل هذه المباحث؟ وما هي الفائدة التي سوف تعود على الأمم وتسهم في تطورها من مثل هذه الأطروحات العبثية التي استهلكت من باحثيها وأساتذتهم وجامعاتهم وقتاً وطاقات وموارد كان يمكن تخصيصها لأمور أخرى ذات قيمة ولو ضئيلة.

 

إن التساؤل المحوري الذي يوصل إلى مكمن الداء هو: أي بيئة تعليمية وثقافية أوصلت شباب الباحثين إلى هذا الدرك من العبثية المعرفية التي تباركها جامعات رسمية وتمنح عليها شهادات تأهل حامليها لتدريس أجيال قادمة مُعوَّلٌ عليها لتغيير مسار الفكر في هذه الأمة؟ يكمن الجواب في كتب التراث عينها التي شكّلت وما تزال الخلفية المعرفية للطلبة بوجه عام وطلبة المدارس والكليات الدينية على وجه الخصوص، فما الذي يُتوقع من شباب أنفقوا أياماً وربما شهوراً يقرؤون أحكاماً فقهية وخلافات بين "الفقهاء" حول حكم "الإستجمار" بالأحجار أو المناديل الورقية أو الورق الأبيض... ما عساه أن يكون الأفق المعرفي لشخص أمضى أسابيع وهو يراجع ويرجح بين أقوال أئمة المذاهب وتلاميذهم في حكم من "بال واقفاً دون حاجة أو ضرورة"؟ وحكم "شرب أبوال الإبل ومدى طهارة أو نجاسة دم البراغيث"؟ أي إبداع يمكن أن تفرزه مباحث تتناول أحكام و"حكمة" التَبرُّك ب"النخامة والبصاق" وتدليك الوجه بها؟

 

إن تراثاً يعلم ورثته أن بول الولد ينضح بينما بول البنت يغسل، وأن اغتصاب الزوجة حق مباح، وأن نساء وأطفال "الأعداء"–الذين نبادرهم أصلاً بالغزو والاحتلال ونسميه فتحا- غنائم توزع وبضاعة تباع وتشترى، ناهيك عن تبرير وتجميل ضرب الأطفال كي يصلّوا إذا بلغوا العاشرة وضرب الزوجات وحبسهنّ في البيوت، هذا فضلاً عن إرضاع الكبير الذي فصلته كتب الحديث وبيّنت قيام السيدة عائشة باستخدامه من خلال جعل أخواتها وبناتهنّ يرضعن الرجال الذين كانوا يرغبون بالدخول عليها لتلقي "العلم" إن تراثاً يحمل هذه التعاليم والمضامين يقتضي صحيح الفطرة والتقرب إلى الله التبرؤ منه والبدء لتأسيس نهجاً إصلاحياً ينقذ ما تبقى ويبقي للقادم من الأجيال ما يستكملون به مسيرة طيّ عصور من التقهقر الإنساني والعلمي والمعرفي.

كل ما أخشاه أن يكون انصراف البعض لفقه "الفضلات" مرجعه صعوبة العثور على فضائل تشكّل فقها.

 

 * خبير دولي معتمد في التحليل القانوني وحقوق الإنسان