فرنسا وقناة الأقصى قضية إعلامية بامتياز
لقد أخطأت قناة الأقصى الفضائية في غزة حينما أعطت القرار الفرنسي بوقف بثها عبر القمر الصناعي "يوتلسات" بعدا سياسيا بحتا، باعتبار أن إسرائيل تقف وراء القرار بمساندة أمريكية، وان ما حدث قرصنة إسرائيلية في الفضاء بعد القرصنة في البحر التي طالت سفن الحرية في المياه الدولية.
بهذا النهج السياسي الذي اتبعته القناة في مواجهة المشكلة ونسيان البعد الإعلامي وخاصة حرية الإعلام أعفت المدافعين عن حريات الإعلام العرب والغربيين من دورهم الواجب أن يقوموا به من خلال اعتبار القرار الفرنسي ضربة قاتلة لحرية الإعلام وحرية التعبير في العالم. فلا يوجد قانون فرنسي يمكن الحكومة أو إدارة قمر صناعي من وقف بث أي قناة فضائية اعتمادا على ما ذكر من أسباب تتعلق بقيام القناة بالحض على الكراهية والعنف، ذلك أن فرنسا من الدول التي تتغنى بخلوها من القوانين التي تتدخل في مضمون المادة التي تبثها أي وسيلة إعلامية فرنسية كانت أم أجنبية، بل إن الفرنسيين استنكفوا عن استخدام عبارة القانون بكل ما يتعلق بالصحافة والإعلام وأعطوا الاهتمام لمواثيق الشرف الصحفي التي أطلقوا عليها مصطلح "قواعد السلوك المهني" التي تتميز بالطوعية وليس السلطوية في اتخاذ القرار.
إن البعد الإعلامي لقرار فرنسا اخطر بكثير من بعده السياسي ذلك أن فرنسا وان كانت منزعجة من رسالة قناة الأقصى الفضائية او تم الضغط عليها من أي جهة كانت فمن المفترض أن تتوجه إلى القضاء العادل والنزيه وتطلب حكمه في رسالة إعلامية ترى أنها عنصرية وتحض على الكراهية والعنف والتمييز العنصري، كونها لا تعترف بحماس وذراعها الإعلامي قناة الأقصى كحركة مقاومة ضد الاحتلال ورسالتها الإعلامية تصب في هذا الاتجاه.
لا يمكن تبرئة الإعلاميين العرب ولا اتحادات الصحفيين العرب ونقاباتهم مؤسساتهم المدافعة عن حرية التعبير وحرية الإعلام من التخاذل في اتخاذ موقف صريح وواضح ضد هذا القرار الذي يفرض سلطة من الدول الغربية على الإعلام العربي، بل إن الأمر يمتد إلى مطالبة المنظمات الدولية التي تعنى بالحريات الإعلامية أن ترفض الطريقة التي اتخذ فيها القرار على الأقل وذلك اضعف الإيمان، فليس من المعقول لهيئة تنفيذية أن تصدر قرارا بحجب وسيلة إعلام ونحن نعيش في عصر الثورة الرقمية التي فتحت الأبواب أمام الأصوات مهما كان ميولها.
إن مراجعة شاملة لمشهد الإعلام الدولي تكشف لنا أن النظام السائد للإعلام الدولي الآن يعطي هامشا من الحريات لوسائل الإعلام في العالم الثالث حتى تستطيع أن توائم أوضاعها مع التطورات التكنولوجية والرقمية التي تجتاح العالم، لكن نظام الإعلام الدولي الحالي لا يسمح إلا بقدر محدود ومدروس من الحرية الإعلامية في العالم الثالث، وهذا القدر فقط يسمح لوسائل الإعلام الغربية الدولية الضخمة القوية والمملوكة للشركات متعددة الجنسيات أن تتسلل إلى منظومة الإعلام العربي وتسيطر عليه من اجل بث رسالة إعلامية محددة للجمهور العربي توائم رؤية تلك الشركات لمستقبل المشاهد العربي في أن يصبح متلقيا فقط لرسالة إعلامية غربية الصنع تهدف تلك الشركات من خلالها إلى تحويل المواطن العربي إلى مستهلك فقط وعلى جميع الأصعدة الاقتصادية والثقافية والحياتية وصولا إلى العادات والتقاليد السائدة. ودليل ذلك دخول شبكة (News Corporation) المملوكة لليهودي الاسترالي الأصل "روبرت ميرودخ" إلى العالم العربي وسيطرته على شبكة قنوات، بالإضافة إلى دخول قنوات أخرى مملوكة لشركات كبرى كشركة (Via com) الأمريكية وشركة (Sony) اليابانية وشركة (Bertelsmann ) الألمانية وشركة (Vivendi Universal) الفرنسية وشركة (Walt Disney) وشركة ((AOL Time Warner)) الأمريكية وغيرها من الشركات إلى سوق الإعلام العربي والسيطرة عليه لتحويل المجتمع العربي إلى مستهلك لمنتجات تلك الشركات.
لقد فوجئت منظومة دول العالم الأول بنتائج لم تكن ترغب بها فيما يتعلق بأثر الثورة الرقمية على الإعلام الدولي في العالم الثالث من خلال ظهور محطات فضائية ناطقة باسم المقاومة الوطنية ضد الاحتلال في فلسطين ولبنان والعراق، إلى جانب بعض القنوات ذات البعد الإسلامي والعربي الوطني المتحرر من التبعية الغربية.
من الواضح ان أنظمة الدول العربية أسهمت بشكل كبير في تقوقع الإعلام العربي واتخاذه دور التابع في منظومة الإعلام الدولي، على اعتبار ان الحكومات العربية ترغب ان تبقى متصالحة مع الدول المسيطرة على العالم اقتصاديا وإعلاميا، فقبل ان تجمد الولايات المتحدة أرصدة قناة الأقصى وقبل القرار الفرنسي بوقف بث القناة ذاتها، فقد أوقفت تلك القناة وقناة الحوار وقناة الرحمة عن البث عبر القمر العربي نايل سات، كما اجتمع وزراء الخارجية العرب في شباط من عام 2008 وأصدروا وثيقة تنظيم بث واستقبال القنوات الفضائية في خطوة لقطع الطريق أمام إعلام بديل للإعلام الرسمي الذي يدعم سياسيات الحكومات، خاصة ان البداية الفتية لإعلام المقاومة البديل عن الإعلام الرسمي وجد الآذان الصاغية من المستمع العربي في كل الأقطار العربية لأنه قدم الصورة والمعلومة دون رقابة، وأكمل صورة المشهد الإعلامي في المنطقة الذي كان منقوصا حينما سيطر الإعلام الرسمي على المعلومة عشرات السنوات واستباح حق المواطن العربي في الحصول على المعلومة وألغاه دون أي اعتبار لحق الإنسان المقدس في المعرفة، والذي هو احد ركائز الحقوق الإنسانية التي يجب ان يتمتع بها كل فرد.
إننا أمام قضية إعلامية بامتياز ملخصها ان فرنسا أضرت بحرية التعبير وحرية الإعلام المكفولتين في القوانين والمواثيق الدولية، بل قوانين تلك الدول ذاتها كفلتها الى جانب الكثير من الدساتير التي شكلت حماية لتلك الحريات.
ان الإعلاميين في كل إنحاء العالم مطالبون بالوقوف موقفا موحدا إزاء القرار الفرنسي والتعبير عن الاستياء من إغلاق فضائية إعلامية في عصر الثورة الرقمية. وان النضال من اجل حرية الإعلام وحرية التعبير لا يجب ان يوضع موضع التعارض مع النضال من اجل الحرية والاستقلال وإنهاء الاحتلال وتحقيق التنمية.