غجر الأردن..يقطنون البرد ويصرخون بصمت
نجدهم يفترشون بقاع الأرض.. وبألوان مختلفة.. الأرض هي عنوانهم.. وهويتهم الخيمة البلاستيكية الممزقة البالية التي أكل الدهر عليها وشرب..
يجوبون الأرض من غير هوية ولا اعتراف بحالهم كأنهم يعيشون على هامش الحياة.
إنهم غجر الأردن أو ما يطلق عليهم "بالنّور".. لديهم لغة خاصة تميزهم.. لغة أشبة بالكردية، لغة غير مدرجة بكتب التاريخ كلغات العالم أجمع وهي ما يحلمون به على الأقل.
يقتربون منك لطلب المساعدة وأحيانا يلحون، مرددين شتى أنواع الأدعية الدينية والكلمات المؤثرة... يتشبثون بك كبارا أو صغارا طلبا للمساعدة، بملابسهم الفضفاضة، أما نساؤهم فيرتدين شالات على رؤوسهن بطريقة عشوائية وبألوان لا تختلف بعشوائيتها وبألوانها المتوهجة؛ شعر إحداهن أحمر من الحناء ووجه جميل محروق من شمس الصيف، وعيون كبيرة تسحر الناظر إليهن.
يجمعون ما يتيسر لهم من علب المشروبات الغازية الفارغة... والخبز اليابس فضلا عن النقود .. فيجدون عزاءهم بما يجمعون.
زمهرير البرد!
يغادرون المكان الذي يزورونه مع غروب الشمس.. وهنا تبدأ رحلة أخرى لهم.. رحلة استجماع الدفء في شتاء قاسي ..ينصهرون داخل خيمتهم يستمدون الدفء من التصاق أجسادهم بعضها ببعض وقد يكون داخل خيمتهم موقد حطب لاستجماع الدفء وعشاؤهم الخبز اليابس المغمس بالشاي.
مشهد عام!
يفترشون المساحات الشاسعة في أرض ما، من العاصمة عمان، وقد يرتحل البعض منهم إلى الأغوار وذلك هربا من برد عمان، قد يكونون عائلات منتشرة في عدة خيم أو كما يرون أنفسهم عشيرة كبيرة، وتفترش خيمهم أرجاء الأرض، وبداخل كل خيمة هناك ما يزيد عن سبعة أفراد وأكثر، أما عن مكونات الخيمة فهي باختصار: بطانيات وفرشات حصلوا عليها من زكاة الناس وغاز بعين واحدة ..
أما غسيلهم فتنشره النساء بالعراء في صورة عامة بألوان قوس قزح، أما الماء فيحصلون عليه من خلال الأبنية قيد الإنشاء.
روايات كثيرة تروى عنهم، فهم يحبون حياة الخيم والترحال حتى لو كان بعضهم من ميسوري الحال، ولا يستطيعون العيش داخل الجدران الإسمنتية، وما زاد من حجم هذه الصورة النمطية عنهم هو تغييب الكثير من تفاصيل حياتهم عن كتب التاريخ..
ومن خلال بحثي على محرك البحث على الانترنت وجدت أن الغجر من أكثر الشعوب مدعاة إلى الدهشة في تاريخ البشرية!! لأن حقيقتهم التاريخية ممزوجة بحكايات وأساطير لا يعرف مدى ارتباطها بالوقائع التاريخية وما حياتهم سوى ترحال وتنقل وأناس لا يزالون يعيشون على الهامش.
لماذا يعيشون هكذا؟
استوقفني الأمر قليلا... أليسوا من الفئات المستورة ماديا كما يعرف الأغلب منا؟.. لماذا يمارسون أسلوب "الشحده" ولماذا يعيشون هكذا؟!! . للإجابة على هذه الأسئلة قررت اللحاق بإحدى الفتيات التي طلبت مني بإلحاح أن أقدم المساعدة لها.. قدمت ما استطعت وبقيت أراقبها من بعد حتى جمعت غلتها وغادرت المكان صوب مكان إقامتها قرب مستشفى الأمير حمزة في الهاشمي الشمالي، شرق عمان.
هناك.. وعندما وصلت، وجدتها عائدة إلى خيمتها وسط العديد من الخيمات، وقد تمركزوا في أراض خالية وسط عمارات حديثة الإنشاء.. الطقس كان أكثر من بارد أو قارص كما تتحدث دائرة الأرصاد الجوية، والمطر حينها كان ينهمر بغزارة، والأرض طينية لزجة مما جعل أقدامي تنغمس بالطين.
وفي الأجواء المحيطة لكل خيمة، هناك أطنان من الخبز اليابس المكدس في العراء، وكلاب منتشرة في أرجاء المنطقة ولكنها مسالمة لا تقترب منك حتى أنها لا تنبح، وأكياس قش تحتوي على علب المشروبات الغازية وبقايا رماد الحطب.
جبت المكان من حولي وبيدي جهاز تسجيل وكاميرا، محاطة بأطفالهم الذين ساروا معي، كانوا يزيدون عن العشرة .. "ساعدينا!! ساعدينا"، ردد الأطفال بتكرار.
أيديهم وأرجلهم مغمسة بالطين الأحمر والبني..أحسست بمعاناة يتحدث عنها البرد القارص الذي نخر عظامي كما أجسادهم القاسية بقساوة حياتهم البرية!!
لا نريد إعلام!
لحظة وقوفي أمام مجموعة من الخيم، محتارة أي خيمة أبدأ بزيارتها، وإذ بصوت يقطع تأملي في المكان وما حولي... ويقول يا "يختي، نلتحف السماء ونفترش الأرض، المساعدة من الله، إذا كنت إعلام لا نريدكم لأنكم لا تساعدوننا"...
هذا الصوت كان لأبو علي الخمسيني الذي أجريت معه حديثا، عرفّني بنفسه وسرد معاناته كغجري يعتبر نفسه أردني النشأة والهوا والهوية.."أقسم بالله أن الماء يتسرب في الشتاء إلى خيمتنا التي يعيش فيها 17 فردا، وملابسنا تتبلل وكل محتويات الخيمة تغرق في الماء..ماذا سنفعل غير أن نسلم أمرنا إلى الله، لا نملك شيئا فنحن فقراء الحال، وإذا مرض أحد أفراد أسرتي لا أستطيع أن آخذه إلى المستشفى لتلقي العلاج".
من كثرة عدد أفراد عائلته القاطنين في الخيمة لا متسع له لينام بها .. فيضطر للنوم في الخلاء تحت المطر والبرد القاسي!.
"ماذا أفعل.. أين أذهب.. لا أستطيع أن أترك أولادي بحثا عن مكان آخر، فلنا أكثر من 7 سنوات في ذات الأرض والكل ينظر إلينا نظرة دونية تخلو من الاحترام"..
نحن أردنيون...
عائلة أبو علي تملك جوازات سفر أردنية وهويات أردنية... يقول عن نفسه إنه من نور الأردن ولكنه بالتحديد لا يعرف من أي منطقة هو وما هو أصله بالتحديد..
الغجر في الأردن اكتسبوا عادات وتقاليد البلد التي تمركزوا فيها حتى أسماؤهم مثل أسمائنا في معانيها فلا اختلاف مطلقا، وحتى أن البعض منهم عمل في مؤسسات حكومية، كأبو علي الذي يعمل سائقا في أمانة عمان وابنه الآخر عامل نظافة.
ومنذ ساعات الصباح الباكر وحتى المساء، وبعد ساعات العمل الطويلة في وظيفته، يبدأ أبو علي رحلة أخرى: رحلة تجميع علب المشروبات الغازية الفارغة والخبز اليابس الذي يبيعه بدوره إلى أصحاب الأغنام وهكذا يحصل على المال.
اضطهاد الأمانة!
في الشتاء والصيف تبقى عائلة أبو علي في ذات المكان رغم محاولة الأمانة ترحيلهم وتجريف خيامهم فرغم قساوة المعاملة لا ييأسون، فيعودون من جديد لنصب الخيام ويستمرون بحياة المعاناة، "حياتنا دائما طين ومزعزعة". وفقا لأبو علي.
سألت أبو علي: "يشاع أنكم أغنياء ولكن تفضلون حياتكم هذه؟".
أجابني:" يختي نعم ما جئتي به صحيح، ولكن إذا كان معنا نقود كما يشاع عنا فلماذا نعيش هكذا عيشة لا يعلم بها إلا الله فكله مجرد كلام لا أكثر".
الأطفال: نريد منزلا!
بماذا يحلم أطفال غجر الأردن؟ وماذا يريدون .. يحلمون ببيت يحتوي على غرفة واحدة تقيهم من حرقة أشعة الشمس وزمهرير البرد وزوابع الرياح وإن أمكن الدخول إلى المدارس والعيش كما الآخرين.
محمد، 7 سنوات، لا يذهب إلى المدرسة نظرا لكثرة ترحالهم فضلا عن عدم توفر النقود..محمد يملك وجه جميل أسمراني، وعيون واسعة تنظر إلي وتصرخ بصمت قاهر: "ساعدني".. شعر أسود ناعم..وأيد وأرجل مغمسة بالطين من دون حذاء.. وملابس رثة بالية تتكون من سترة خفيفة وبنطال لا يقيه من زمهرير البرد.
"حالتنا على الله ... فأنا أقوم بجمع علب البيبسي ويادوب أجنى دينارين تمكنني من مساعدة أبي في شراء الخبز، وأيضا أقوم بجمع بقايا الخشب من العمارات المجاورة لأجل التدفئة"..
أما عن أمنيته "نريد منزلا فحالتنا سيئة للغاية".
رشيد، 17 سنة، يتمنى أن يعيش حياة كريمة خالية من الأفاعي والعقارب التي أصبحت له كزائر ليلي دائم، "الأمانة تأتي إلينا تقريبا كل يوم وتحاول ترحيلنا، مستخدمين جرافاتهم ويبدؤون بتجريف الخيام.. ولكن عند مغادرتهم نعاود نصب الخيام من جديد".
معاق غجري!
عندما عرفوا أنني صحفية وسأكتب عن معاناتهم، نادتني غجرية اسمها وفاء وقالت لي: انظري لهذا الطفل محمد البالغ من العمر سبع سنوات، إنه معاق يعاني من شلل أطفال".
وبدأت بالكشف عن جسمه لتريني أثار العمليات على بطنه وظهره وقرب إذنه أيضا..فقاطعها محمد ذا الوجه الجميل وبأطرافه الرخوة والعيون الواسعة التي تحمل معاناة مستمرة، قاطعها بصوت خافت: "صورني"..صورته ثم سألني ما اسمك؟ أجبته: نور، وقال: أرجوك لا تمحي صورتي من كاميرتك"..فقلت له: "لا تخف ستبقى صورتك محفوظة ليس فقط في كاميرتي وإنما في ذاكرتي.
وبعدها ودعته وهو ينظر إلي حتى اختفيت عن أنظاره.
معاناة أخرى!
لننتقل سويا إلى معاناة غجري آخر...فعندما أنهيت حديثي مع أبو علي جبت المكان من حولي لأذهب إلى أرض مجاورة لأرض أبو علي، مشيا على الأقدام ..ففي نفس المنطقة يوجد ما يقارب العشرين خيمة منتشرة بطريقة عشوائية.
ناديت.. مرحبا هل من أحد هناك؟ .. وإذ بأحد يطل علي من باب خيمته هو مرتدي الحطة وبمعالم وجه ارتسمت عليها المعاناة ... ماذا تريدين؟.
أخبرته من أنا وما هي مهنتي وماذا أريد منه؟.
سالته ما اسمك؟
اجابني: أبو محمد..وعمري 50 سنة.
"لنا في هذه الأرض أكثر من 25 سنة عندما كان دونم هذه الارض في ذلك الزمان 5دنانير والآن تخيلي أصبح 200ألف دينار الدونم.. لدي خمسة أولاد بعضهم متزوجون ويسكنون في الخيم القريبة مني".
جرافات الاستعمار!
في الصيف الماضي وتحديدا في عام 2007 جاءت جرافات الأمانة وجرفت كافة الخيم المنتشرة في هذه المساحات الشاسعة، هذا ما يقوله أبو محمد وفي عينيه شريط ما يحصل.
قاطعه أحد الشباب قائلا: "يجرفون الخيم كما تجرف إسرائيل بيوت الفلسطينيين". وتابع: "كل ما نريده أن نسكن في دار وأتمنى على الحكومة أن ترأف بحالنا وتمن علينا بدار يقينا برد الشتاء فنحن لا نملك قرشا واحد يمكننا من استئجار منزل".
خبز قديم...
عزاؤهم يجدونه في الخبز المجفف وبخردوات يجمعونها من الحاويات ويبيعونها وما يجنوه يجلبون به الطعام...
ويسرد أبو محمد عن أصوله:" نحن نّور الأردن، وفي مصر يقال عنا أننا غجر وفي أمريكا غجر أيضا أما في سوريا كرباج، وفي منطقة الجنوب من العاصمة عمان يوجد غجر أكراد عراقيين.
"اكتسبنا عادات من البلد التي نعيش بها، وعاداتنا إسلامية فنصلي ونحمد الله ونشكره، أما تقاليد الزواج لدنيا فمهر وعقد زواج، لكن لدينا لغة خاصة بنا أشبه باللغة الكردية ولكنها غير مدرجة في الدراسات كاللغة الانجليزية والفرنسية".
ويقدر أبو محمد عدد النور في الأردن بـ 40 ألفا.
واستذكر حادثة حصلت معه: "في أحد المرات زارنا صحفي أجنبي وأقام معنا لبضع أيام، كان يريد الحديث عن حياتنا وأسلوب عيشنا، حاول تعلم لغتنا من خلال مفسر عربي كان معه ولكنه لم يستطع".
نداء أطلقه بعض الغجر الذين قابلتهم: "صرخة للمسوؤلين الأردنيين لينظروا إلى حالنا لإراحتنا من الترحال وعذابات الدهر المضنية بحقنا".
من هم الغجر...
أصل كلمة الغجر "هندية"، وهي لغة هندية قديمة تدعى بالغجراطية ذكرها أساتذة اللغات في بحوثهم عن اللغات.ويتفق معظم الباحثين أنهم الغجر ينحدرون من أصل هندي، وقد هاجروا على شكل موجات نحو الغرب والشمال مرورا بالشرق الأوسط.
هم الشعب الوحيد الذي قدمته الهند إلى أوربا في السنين الثلاثة آلاف الأخيرة. مقابل الشعوب التي أتت من أوربا إلى الهند،
ويعيش الكثير من الغجر في الهند إلى الآن كما يعيشون في كل بلد تقريبا.
ويرى أحد الباحثين الأجانب أن الغجر هم بدو حقيقيين، يتنقلون من مكان إلى آخر غير محتاجين للاستقرار ولا يريدون أن يلتحقوا بمجتمع مستقر ثابت. وهؤلاء لا يمتلكون عادات وتقاليد وهناك الكثير من الأفكار المستمدة من القوى فوق الطبيعية.
سماتهم المعيشية والثقافية تختلف كثيرا عن البدو، فالغجر من الشعوب القوقازية السمراء جاءوا أصلا من الهند ودخلوا أوربا في القرن الرابع عشر والخامس عشر والآن يوجدون بصورة رئيسية في تركيا، روسيا، إنكلترا والولايات المتحدة الأميركية.
والغجري (نسبة إلى مصر) هو الشخص الذي يدل على حياة التجوال، هائم متشرد، ونساؤهم مخادعة وهم واحد من الأقوام البدوية ذوي البشرة النحاسية والشعر الأسود، وهم من الجنس الهندي الأصل والآن معروفون عالميا ولغتهم الرومني.
وإن كلمة الغجر لفظة تركية أفاصل من (كوجر) بجيم مثلثة فارسية (Gocher) ومعناها الرحل لأننا سمعنا بعضهم يسمونهم إلى اليوم غوجر وذلك في شمال الموصل (العراق) ومنهم من يسمونهم القرج.
أبوعلي وابو محمد وفاء ورشيد ومحمد والعديد من أبناء الغجر يتمنون أن يعيشون الدفء وينظر إليهم العالم أنهم أناس كما كل الناس...