عُدتُ إلى فاطمة

الرابط المختصر

تركت آثار جدل  استمر لأيام على صفحات مواقع التواصل الإجتماعي في الأردن وخارجه، تجاوزت كل النقاش حول حملة إعلانية لشركة سيارات نصبت في شوارع العاصمة  أعتبرها غالبية المهتمين والمهتمات بحقوق الإنسان وبخاصة حقوق النساء مسيئة لهن، وتوجهت إلى محافظة جرش وتحديدا إلى قرية المشيرفة 69 كلم عن عمان.

في الطريق فكرت: صحيح أن الجدل حول تلك الصور شبه انتهى بعد أن اضطرت الشركة لسحبها من الشوارع نتيجة ضغط ناشطات وناشطين أدانوها، إلا أن الصورة الأكبر التي تعكس استمرار النساء في الأردن بسعيهن المضني لتحقيق العدالة والمساواة، بل والنجاة من العنف بكل اشكاله في الأردن ما زالت ماثلة أمامنا!.

وجهتي كانت  قرية المشيرفة، وقد عرفها الكثيرون  قبل أشهر وتحديدا تشرين الثاني /أكتوبر السنة الماضية، بعد حادثة ما عرف بجريمة جرش ، أو حيث تقيم السيدة التي فقأ  زوجها عينيها على مرأى من أولادها وتركها غارقة بدمائها لتنتهي عمياء تقيم مع أطفالها في كنف أسرتها.

أسئلة كثيرة كانت تدور برأسي في الطريق إلى هناك ، كان أكثرها إلحاحا هو ما دفعني إلى العودة لرؤية فاطمة بعد أشهر من الحادثة، وهو لماذا في  هذه القصة وغيرها من الأخبار والقصص يخبو الحديث الإعلامي حولها بعد مرور فترة من الوقت على حدوثها؟!

 وبخاصة تلك التي تتناول قضايا وحقوق النساء، وهي القضايا الذي ما زالت -برأي كثيرين- تعد ترفا فكريا أحيانا، بل وخروجا عن الأولويات المجتمعية والسياسية والإجتماعية أخرى كما يقول أصحاب حجة أن واقع النساء في الأردن جيد بعكس ما تدعي  "النسويات ومن لف لفيفهن" المنفصلين عن الواقع على حد تعبيرهم!.

هذه الحجج التي أخجل حتى عن ذكرها هنا وبخاصة لدى رؤيتي لفاطمة، التي احتضنتها أسرتها، وتعاونت على رعياتها مع أطفالها رغم الواقع الإقتصادي الصعب لهم، فكيف هو الحال بإنضمام اسرة جديدة لهم.

للحظات تنسيك جمال الطبيعة في القرية الهادئة، أن قصصا بالغة القسوة والدموية حدثت في بيوتها الصغيرة، كيف لهذا الجمال الأخضر الساحر والغابات الممتدة أن تسمح لهذا السلوك العنيف بالنمو ، وأن ينتهي بجريمة بتلك البشاعة؟!.

ألا يفتح هذا الإمتداد والفضاء القلوب والأنفس لتكون أكثر هدوء وأكثر تقبلا لكل ما يحيط بها، كيف  يستوي أن ينطلق هذا الوحش البشري من حبس هذه الوداعة في تلك التلال لينتهي إلى حيث يستحق خلف قضبان السجن، بانتظار الحكم النهائي في قضيته.

دخلت بيت أسرة فاطمة في بيت ريفي بسيط وسط أشجار حرجية على أطراف غابات جرش الممتدة على التلال الخضراء تنعشك رائحة التربة المخضبة ببواقي مطر، وتكاد لا تشعر بحجم الكآبة الجاثمة على نفوس سكانه لولا كثافتها المغلفة بالعجز، فالجميع لم يتعافى بعد من تلك الفاجعة.

الأب أبو أحمد الطيب ، كان مضيافا وبشوشا كأهل المنطقة جميعا يخفي ألمه وغضبه وراء ابتسامة الترحاب والكرم الفطري تلك، يحاول أن يمسك يد ابنته لتوجيهها بقلب الوالد الذي اتسع بيته لها ولأطفالها، وما زال صدره يضيق بالجريمة وتفاصيلها وآثارها التي يعيشها ويراها ماثلة أمامه يوميا.

لم يستطع ابو احمد تمالك نفسه عند رؤيته حفيدته الصغيرة"نور الهدى" ترتجف بشدة لرؤيتنا مع والدتها وتمتم بكلمات استغفار وحوقله ولاذ بالصمت ، فهي كانت كما نعلم لحظة الجريمة بحضنها .

تحدثت مع فاطمة بصوت خافت وينتابني خجل شديد أنني فعليا جزء من منظومة تراقب ما حدث وما يحدث لغيرها من النساء ولم نستطع  منع حدوثه، أو تغيير الكثير حتى اللحظة.

 تنساب الكلمات على لسانها بعد تخوف وتردد وتحدثني عن يومها مع أطفالها، بدء من ساعات الفجر الأولى التي تبدأها والدتها لتجهيز ولدي فاطمة للمدرسة، وتتدخل لتمارس ما تبقى دورها كأم تدور حولهم قدر الإمكان تتحسسهم لتتأكد أنهم ارتدوا  ما يكفي من الملابس الدافئة لتقيهم برودة الطقس هذه الأيام ، وهي تعلم في قرارة نفسها أن برودة الطقس أهون بكثير من تجمد المشاعر وموتها.

تتابع فاطمة أقضي باقي النهار وحيدة مع "نور الهدى" التي ما زالت تتحدث أحيانا بعبارات وجمل عن الحادثة، وتردد كلمات مثل دماء وضرب، وتمد يدها الصغيرة تتلمس عيون والدتها التي غادرها النور وتحاول أن تمسح  آثار دماء اختفت لكنها ماثلة أمامها و تراها في ذاكرتها المطبوعة .

صحيح أن ارتجاف وتشنج الصغيرة توقف بعد دقائق لكنني شخصيا أستطيع رؤية  الجرح الغائر بروحها بوضوح.

تتمنى فاطمة أن ترى ابنتها الصغيرة طبييه أو اي مهنة ناجحة وتستدرك بغرابة استخدامها لكلمة أرى "حرمت من رؤيتها تكبر لم أشبع منها وهي صغيرة ".

تتولى أخت فاطمة مساعدتها بتدريس أبنائها ، وتحاول هي  بإصرار ان تظل بالصورة تشجعهم على الدراسة و تقوم ما تسعفها حواسها المتبقية لها وتستذكر دروسهم التي يحفظونها غيبا.

  الأمر ليس سهلا ولا ينجح دائما تقول بإنكسار "كانت علاماتهم في الفصل الأول ضعيفه بسبب ما حدث وكثرة أيام غيابهم عن المدرسة..يا ريت يحبو المدرسة احسن لمستقبلهم أنا ما بقدر أأمن لهم شي".

تتقاضى فاطمة مبلغ من وزارة التنمية 120 دينار إضافة إلى 30 دينار نفقة لأن راتب زوجها السابق  الضئيل أصلا محجوز بشكل كامل تقريبا بسبب قروض وديون متراكمة، وهو مبلغ لا يكفي لشخص واحد فكيف بأسرة مكونة من أربع أشخاص.

 الوالد أبو أحمد هو الآخر لا يعمل، ويتحمل عناء نقلها كل بضعة اسابيع إلى المدينة الطبية لمتابعة العلاج، صحيح أن فاطمة حصلت على تأمين صحي ولكن مصاريف الوصول للمستشفى في العاصمة ليست بسيطة أو على الأقل بالنسبة لأسرة حالها كحال أسرتها .

رفضت والدة فاطمة الحديث في البداية ولكنها، تدخلت فجأة بالحديث "أكره المثل القائل هم البنات حتى الممات .. غلط ما بيصير وكمان حرام" لكن هو  حالنا اليوم للأسف ، ما ذنب البنت وصغارها، ما ذنبنا، على من يختار الزواج من امرأة أن يحسن معاملتها وإلا فيتركها بإحسان.

يوافقها زوجها بطيبة وحكمة فطرية ويقول "لا يوجد لا دين ولا قانون ولا عرف يجيز الضرب للنساء أو لأي شخص، ولا يحق لرجل زوجا كان أم اب أم أخ أن يتعامل مع النساء كأنه يملكهن".

لا تتمنى فاطمة غير القصاص العادل لمن تسبب بمأساتها، ليس انتقاما شخصيا لها فحسب ولكن لكي يكون عبرة لكل من يمارس العنف ضد النساء من أفراد عائلته، وتقول "..لسنا ضعيفات  ولكننا نضعف عندما يعاملنا من حولنا كأننا أشياء أو متاع"

تركت فاطمة وأسرتها وفي الطريق رأيت ولداها يعودان من المدرسة ..سيجدون والدتهم واسرتها بانتظارهم ..لكن كثير من الأطفال حرموا امهاتهم بسبب قتلهن أو منعهن من رؤيتهم..فاطمة دفعت عينيها ثمنا لبقاء أطفالها معها، وتحاول توظيف كل حواسها المتبقية لتبقى معهم ولهم ..وجدت فاطمة اسرة تسندها..لكن غيرها الكثيرات سجينات دوائر عنف لا ينتهي بسبب غياب السند  والدعم والجهل المجتمعي .