عندما يكون الصمت فضيلة

الرابط المختصر

لا تترك القاهرة فرصة تمر من دون أن تتوجه بأصابع الاتهام لإيران وحلفائها ، وتحميلهم المسؤولية عن "كارثة الرصاص المصهور" الذي ينهمر كالمطر على رؤوس أبناء القطاع وبناته ، وقد تطور الهجوم المصري على إيران من النقد إلى الدعوة لرفع يدها ويد "بعض حلفائها من العرب" عن القضية الفلسطينية ، ما يعني - إذا ما أخذنا على محمل الجد التصريحات التي ما فتئ يكررها أبو الغيط - ترك القضية الفلسطينية نهبا للسياسات المأزومة والطرق المسدودة التي سار ويسير عليها من تبقى من "معسكر المعتدلين العرب".

 

والحقيقة أننا كنا سنوافق أبو الغيط على كل ما نطق به ودعا إليه ، لو أن زعيم الدبلوماسية المصرية تكرم بإقناعنا بأن في جعبته خيارات وبدائل ومخارج ، غير الارتهان للسقف الأمريكي الخفيض والمسيّج سلفا بالشروط و"الفيتوات" الإسرائيلية ، ولكنه بدل ذلك ، لم يترك فرصا تمر من دون أن يعزز قناعاتنا من حيث يدري أو لا يدري ببؤس الخيارات والبدائل التي تتحرك في إطارها الدبلوماسية المصرية خصوصا والعربية على وجه العموم.

من الهجوم على حماس وتحميلها وزر انهيار جهود الحوار والمصالحة الفلسطينيين ، إلى الهجوم على حماس أيضا ، وتحميلها وزر انهيار التهدئة ونشوب العدوان ، مرورا بالهجوم على حماس وتحميلها وزر قيام "إمارة إسلامية" على حدود مصر ، وتحويلها غزة إلى "ولاية إيرانية" حدودية مع مصر ، إلى غير ما هنالك من محطات ومواقف مثيرة للسخط ، لعل أبرزها التصريح المشهور عن "تكسير أقدام" أي فلسطيني تسوّل له نفسه المريضة ، اجتياز المعبر أو السياج الحدودي ودخول سيناء أو العريش.

آخر ما أتحفنا به الوزير المصري ، هو دعوته لاتخاذ مواقف "متزنة ومتوازنة" في مجلس الأمن ، فالإدانة للجريمة يجب أن توزع بالتساوي بين المجرم والضحية ، والدعوة لوقف حمم الرصاص المصهور لن تمر من دون دعوة مماثلة لإطلاق الصواريخ ، إلى غير ما هناك من تفاصيل تضع أهل غزة على "قدم المساواة" في الإدانة والتجريم مع مجرمي الحرب الإسرائيليين.

الدعوة لذهاب الرئيس عباس على رأس وفد من الجامعة إلى نيويورك والاعتصام على باب مجلس الأمن حتى يصدر قرارا ملزما بوقف العدوان ، صدرت عن سلف أبو الغيط ، الأمين العام للجامعة عمرو موسى ، لكن هذا الأخير أبقى الباب مفتوحا لتحويل المجلس إلى ساحة اشتباك مع الموقف الأمريكي المنحاز بوقاحة مع إسرائيل ، أما الوزير أبو الغيط ، فهو وإن أيد الذهاب إلى نيويورك ، إلا أن أخشى ما يخشاه هو العودة منه بخفي حنين ، ما يفتح الباب للمطالبة مجددا بقمة عربية لا تريدها مصر ، ويعيد انتاج الوضع المحرج الذي يجد الوزير نفسه فيه.

لماذا يغضب أبو الغيط كل هذا الغضب على إيران وسوريا ، ويتهمهما بما فعلاه وما لم يفعلاه ، وهو الذي ترك ونظراءه العرب مسرح العمل القومي ، تاركين فراغا سيسعى كل من هب ودب لملئه؟.. ألم تسعَ تركيا في ملء هذا الفراغ وبدعوة رسمية من أبو الغيط نفسه؟ ولماذا لا "تنقح" علينا "عروبتنا" ونحن نستدعي تركيا للتدخل ، ونتحول إلى عرب أقحاح ومسلمين سنّة "سلفيين ووهابيين" حين يتعلق الأمر بإيران وتدخلاتها؟... هل ينتظر أبو الغيط أن يبقى العالم والإقليم جالسا على مقاعد النظّار والمشاهدين إلى أن تتخلص الدبلوماسية المصرية من قيودها وأغلالها ، وأن تتغلب على هواجس "الإخوان" وكوابيس الخلافة والوراثة؟

وفقا لما تقوله "الاندبندنت" البريطانية ، وليس "كيهان" الإيرانية ، فقد شاخت الدبلوماسية المصرية وترهلت وفقدت قدرتها على الحراك المؤثر والمقرر ، وها هي تخسر ساحات نفوذها ومجالها الحيوي الواحدة تلو الأخرى ، حتى أنها باتت بحاجة لجسر (كوبري) تركي للوصول إلى زواريب غزة وحاراتها ، وهي تقف اليوم في قلب دائرة النار ، تتلقى سهام النقد والإدانة من أطراف عدة ، أقلها أهمية سوريا وإيران ، وأكثرها أهمية ، الشعب المصري ذاته ، وهذا أمر يحزننا أشد الحزن ، لا سيما أننا نعرف أن "الترياق" لن يأتي من طهران ، وأن للأخيرة حساباتها واجنداتها التي لا تلتقي بالضرورة مع مصالحنا وحساباتنا ، ولكن قبل أن ننظر إلى عيب الاخر ، فلننظر إلى عيبونا ، وقبل أن ننتقد مسعى الآخرين للتمدد نحونا ، علينا أن ننتقد وبأقسى الكلمات عجزنا وبؤس خياراتنا ، قبل أن ننتقد اليد الإيرانية الطليقة في المنطقة ، علينا أن نطلق أيدينا ، لا ان نبقيها مكبلة بالخضوع والخنوع لواشنطن ومحافظيها الجدد والقدامى.

من يهن يسهل الهوان عليه ، ومن يرفض الحركة والتجديد والتغيير جدير بالتآكل والانقراض ، وعلى الذين قالت ليفني من باحة الإليزيه انها تشن الحرب على حماس وغزة نيابة عنهم ، أن يصمتوا ، فالصمت فضيلة ، خصوصا حين يكون النطق رجع صدى لشروط وإملاءات مذلة ، تصاغ في واشنطن وتل أبيب