عندما كسر المقدسيون هذا التابو
في حدث مثير وغير مسبوق، جرى، مساء الأربعاء، وفي آخر لحظة، دفع الرسوم وإيداع أسماء كتلة ستشارك في انتخابات بلدية القدس. ومع أهمية هذا الحدث، المسافة إلى غاية صدور نتائج الانتخابات مساء الاثنين 30 الشهر المقبل (أكتوبر/ تشرين الأول) طويلة ومليئة بالأشواك والتحدّيات.
قد يتم انسحاب وتغيير ترتيب صياغة البرنامج الانتخابي وإعادتها. ولكن يمكن القول إنه بعد 56 سنة من مقاطعة انتخابات بلدية القدس الموحّدة، انكسرت التابوهات، وسيكون الخلاف الداخلي حول ترتيب الأسماء والبرامج وغيرها من الأمور، أما مبدأ المشاركة الفلسطينية المقدسية فأصبح اليوم واقعاً.
لا تزال المسافة طويلة لوصول مقدسي إلى عضوية بلدية، تفوق ميزانيتها ميزانية كل السلطة الفلسطينية، إلا أنه يجب توضيح عدة أمور، فالمشاركة المقدسية الحالية تشمل أشخاصا من فئات اجتماعية وتوزيع جغرافي وجندري متنوّع، إلا أنها ليست قائمة وطنية أو إسلامية ولا تحظى بأي رعاية أو تأييد رسمي من رام الله أو غزة أو غيرهما، وقد يكون هذا جيدا، لأن القائمة والقائمين عليها يصرّون على أن هدفهم خدماتي وليس سياسيا، وأنهم مؤيدون للثوابت الفلسطينية، ويريدون القدس عاصمة لدولة فلسطين، وأن تشمل المقدسيين انتخاباتٌ عامة، حسب اتفاقيات أوسلو وغيرها من أمور متّفق عليها.
ميزة التطور أخيرا تأتي من أمرين بالأساس: غياب القدس وتجاهلها من الجميع رغم إعطاء المدينة الدعم اللفظي غير المنتهي. وفيما يتعلق بالأمور الجادّة، مثل الميزانيات وغيرها، فحدّث ولا حرج. ينطبق الأمر على الجميع فلسطينيًا وعربيًا ودوليًا، رغم وجود استثناءات تُرفع لها القبّعة، ولكنها في مجملها لا تصل إلى 1% من احتياجات المقدسيين الحقيقية. وقد بدا واضحا أن الحديث عن الصمود لن ينفع، من دون تمويل حقيقي للإسكان والتعليم والاقتصاد، والسياحة، والثقافة، وغيرها.
الأمر الآخر لكسر التابو حاليا هو نمو طبقة معيّنة من المهنيين من أبناء (وبنات) فلسطين التاريخية المسمّاة شعبيا عرب 48. وفي هذا المجال، ليس غريبا أن يرأس التحرّك الحالي محام من الناصرة، ويشمل عضوية القائمة طبيب، وهذه الوظائف المهنية يلعب أهلنا في فلسطين التاريخية دورا كبير في ملئها، بسبب معرفتهم اللغة العبرية، وتخرّجهم من الجامعات الإسرائيلية ومعرفتهم بمداخل الأمور في إسرائيل.
يتطلب كسر مقاطعة دامت 56 سنة فصلا حديديا بين السياسة والأمور الحياتية. قد يكون على قمتها الإسكان، والذي يعاني منذ عام 1967 من سياسة ممنهجة تمنع تطوير أي حيٍّ فلسطيني في حين تعمل ليل نهار على بناء مستوطناتٍ كبيرة للإسرائيليين. كما شكّل وصول متطرّفين يهود في البلدية وفي الحكومة إلى مواقع صنع القرار، وإصرارهم على الهدم الممنهج للمنازل المقدسيين، حالةً لم يستطيع أحد معالجتها. ولذلك أصبحت المشاركة في المجلس البلدي أكثر أهمية من أي أمر سلبي متعلق في موضوع شرعنة البلدية الموحدة من جانب واحد مناطق لا يزال العالم يعتبرها محتلة.
المسافة إلى قيام أي مقدسي بعمل مؤثر لصالح الصمود الفلسطيني في القدس طويلة، رغم كسر التابو الحالي، فالاختلاف الفكري الفلسطيني يعني أن المشاركة في الانتخابات لن تكون بالنسبة الكبيرة التي يستطيع من يجرى انتخابهم تشكيل كتلة معارضة أو حتى كتلة حاكمة. كما وقد شكلت المعارضة الفصائلية للمشاركة عزوف قادة عديدين لهم خبرة واسعة وحضور قوي ومتابعة كبيرة، ما ترك الباب مفتوحا لبروز شخصيات مهنية، أو ممثلي عشائر، أو عائلات، أو تجمعات اجتماعية بدلا من قيادات سياسية. وقد يكون غياب الشخصيات السياسية مفيدا لتكرار رفض الضم، ووصف المشاركين بالمهتمين فقط بالأمور الحياتية، الأمر الذي سيقلّل من الضرر السياسي لهذه المشاركة.
يحمل أكثر من 350 ألف مقدسي فلسطيني الهوية الزرقاء التي تعتبر إقامة دائمة في القدس، ويحقّ للجميع المشاركة في الانتخابات البلدية ترشيحا وتصويتا. وكون عدد سكان القدسيْن (الشرقية والغربية) لا يتجاوز مليون شخص، فإن المشاركة لو كانت واسعة لحظي المقدسيون بحوالي 35% إلى 40% من المقاعد، ما سيصعّب على أي قائمة أخرى تشكيل ائتلاف. والمسافة للوصول إلى ذلك الأمر أبعد بكثير من الوصول إلى عدة مقاعد في أول مشاركة تعدّدية للمقدسيين في انتخابات بلدية منذ أكثر من خمسة عقود.
من الصعب تجاهل قائمة تشمل محاميا وطبيبا، تربوية ومحاسبا، مقدسيين مسيحيين ومسلمين، وأشخاصا من مناطق مختلفة، منها البلدة القديمة وصور باهر وكفرعقب وبيت حنينا ومخيم شعفاط ومن أبناء مناطق 48. لم يكن ما حدث كسر تابو فقط، بل تعرية كل من زاود على المقدسيين، وباعهم أوهام التحرير والصمود، ولم يقم بشيء لصالحهم. على الرغم من ذلك، الباب مفتوح للمؤمنين بأهمية الصمود لأن يعملوا لصالح القدس من دون الالتفات إلى البلدية.
نأمل توزيع الأدوار، فعلى السياسي الاستمرار في المطالبة بإنهاء الاحتلال وتحرير القدس، وعلى المهتم بالأمور الحياتية العمل من أي موقع لضمان حياة كريمة تستحقّها هذه المدينة العظيمة، والتي أصبح سكانها أيتاما سياسيين، يصعب عليهم إيجاد منازل لأبنائهم الذين يرغبون بالزواج.
لا أحد يرعى المقدسيين، ويبدو أن القرار لذلك كان خوض معركة صعبة على أساس مبدأ "ما بحكّ جلدك إلا ظفرك".