"عرين الأسود" وقواعد اللعبة للحركة الوطنية الفلسطينية
شهد انتقال القيادة الفلسطينية من الرئيس ياسر عرفات إلى الرئيس محمود عبّاس فلسفة واضحة ومحصورة للحركة الوطنية الفلسطينية، تمثلت بالتزام فلسطيني حديدي بالعمل الدبلوماسي، والابتعاد عن أي مظاهر عنف في مقاومة الاحتلال. وللحقيقة، عمل الرئيس عبّاس والسفير رياض المالكي وآخرون في فلكهما كل ما في وسعهم لمحاولة إنجاح هذا المسار، ولكن الأطراف الأخرى لم تعطهم أي اهتمام حقيقي، بل وعوداً لفظية وإبر المورفين المالية، التي نجحت في وقف التصعيد الدبلوماسي هنا وهناك، إلى أن وصلنا إلى ما وصلنا إليه اليوم من فشلٍ على الأرض في تغييرٍ ولو بسيطاً لقواعد اللعبة. استمرّ الاستيطان والحصار على غزّة وهدم البيوت وقمع المقاومين، وذلك كله وأيدي القيادة مكبّلة بسبب التزام المسار الدبلوماسي، المبنيّ على تحليل صحيح لميزان القوة، الذي لا يملك الجانب الفلسطيني أي عناصر القوة في غياب الدعم العربي والتأييد اللفظي الغربي. وقد زاد الوضع سوءاً منذ أكثر من عقد، مع بروز الربيع العربي الذي جرى وأده، ثم الصراعات والحروب الداخلية المستمرّة في سورية واليمن وليبيا والعراق، وأخيرا الأزمة في أوكرانيا.
الاستثناء الوحيد لتلك الفلسفة المبنية على استجداء العالم من خلال الأطر الدبلوماسية، كان في الإجماع الوطني، والإسلامي، على ضرورة العمل على المقاومة الشعبية الجماهيرية. ولكن في التطبيق، بقي الشعب وحده، دون أي مشاركة للقيادة، ودون دعم حقيقي للعمل الشعبي، فقد كانت مشاركة القيادة في المقاومة الشعبية شكلية ليس أكثر، إذ شاهد المشاركون في تلك النشاطات، وفي أوقات قليلة، مسؤولين في القيادة الفلسطينية، وفي الحركة الوطنية بشكل عام، يأتون إلى موقع مظاهرة أو احتجاج شعبي بسياراتهم الفاخرة، ويشاركون المتظاهرين لحظات لتصويرهم وإطلاق تصريحات رنانة، ثم يعودون إلى مكاتبهم المكيفة وحياتهم المنفصلة عن الشعب.
لقد وصل الأمر إلى الحضيض، حيث لم يعد الاحتلال مهتماً حتى بمظاهر التفاوض لإيجاد حلّ، حتى أُغلق باب الأمل المتمثل بما سُمّي مسار السلام. ورغم التحذيرات المستمرّة من القيادة الفلسطينية من أن الأمور ستنفجر إذا غاب الأفق السياسي، إلا أن أحداً لم يهتم بالحركة الوطنية، وقيادة وضعت كل آمالها في سلة واحدة، وهي سلة دبلوماسية مليئة بالثغرات، وأصبح الاعتماد عليها دون أي فائدة، إلى أن جاءت "عرين الأسود" وما حولها من شبّان امتلكوا الشجاعة والقدرة والإمكانات البسيطة، مدعومين من شعبٍ متعطّش لأي تغيير يحرّك المياه الراكدة.
من الواضح لمن قرأ وصية الشهيد عدي التميمي، أن الشباب المسلح المقاوم يعرف جيداً أن حركته وحدها لن تحرّر فلسطين، ولكن هدفها تحريك الأمور وإيجاد طرق جديدة لتغيير المعادلة الفلسطينية الحالية، والخاسرة في تحقيق أي من أهداف التحرير.
مؤكّد أن الوضع الفلسطيني، داخلياً وخارجياً، معقّد للغاية، وأي تحليل صادق له يثبت أننا في وضعٍ لا يُحسد عليه من ناحية غياب عناصر القوى. ولكن من المؤكّد، كما تبين خلال فترة قصيرة، أن هناك تأييداً شعبياً واسعاً لأي تحرّك صادق يحاول أن يغير قواعد اللعبة.
لقد جاء الوقت لكي تتصالح القيادة الفلسطينية والحركة الوطنية مع نفسها أولاً، ومع الشعب ثانياً، وتفتح الباب للنقد البناء والتفكير خارج الصندوق، بأمانة وإخلاص ودون التسويف ووضع الحجج غير المنطقية، كما حدث، على سبيل المثال، عند تأجيل الانتخابات العامة بحجة عدم سماح إسرائيل بإجرائها في القدس، رغم أن الجميع يعرف أن السبب الحقيقي تخوّف أصحاب القرار والأطراف الدولية الداعمة من خسارة الانتخابات.
نحتاج إلى التوقف عن بيع الشعب آمالاً تحرّك المسار الدبلوماسي دون عناصر دفع حقيقية. المطلوب العودة الصادقة إلى الشعب والتنازل عن المميزات التي يوفرها اتفاق أوسلو للقيادة. القائد الحقيقي والحركة الوطنية الصادقة هي التي تطلب من الشعب، بصدق، أن يحدّد المسار الذي يريده، علماً أن مسار المقاومة المسلحة مكلف جداً. ومن الخطأ، وحتى الجريمة الوطنية، أن تُترك القيادة والشعب لهؤلاء الشباب الشجعان أن يواجهوا أقوى قوة عسكرية في المنطقة وحدهم. المطلوب إنهاء الانقسام كما فعلت مجاميع عرين الأسود ودفعوا بدمائهم ثمن الوحدة الوطنية، والعمل الجادّ على وضع استراتيجية صادقة للتحرّر، يُجمع عليها الشعب والحركات الوطنية والإسلامية، ويجري التطبيق الجاد لتلك الاستراتيجية، مهما كلف ذلك من ثمن ومن مواقع ومن مميزات.
*عرين الأسود