دخلت الحرب في قطاع غزة عامها الثاني، منذ أن نفذت حركة حماس هجماتها "غير المسبوقة" ضد المستوطنات والقواعد العسكرية في غُلاف غزة، تبعها سلسلة من الأحداث والتداعيات التي ترتب عنها أزمة إنسانية في قطاع غزة، واضطراباً إقليمياً واسعاً، بعد أن امتد تأثير الحرب من ميدانها الرئيس في غزة، إلى الميادين الأخرى على امتداد جغرافية الاشتباك بين إسرائيل وأطراف ما يُسمى "محور المُقاومة"، وانعكست تبعاته على الساحتين الإقليمية والدولية. وعليه؛ يطرح هذا الواقع ضرورة تقديم قراءة شاملة ومُتكاملة للهجمات من حيث الإطار النظري للمنظومة الفكرية والحسابات العسكرية وأولويات الهيكل القيادي الذي خطط لها وأطلقها، وتحليل ديناميكيات الحرب والاستراتيجيات الإسرائيلية التي شكلت مسارها، وصولاً إلى القراءة البحثية الأولى لواقع الهجمات وخلفيتها وتقييمها والوقوف على تبعاتها.
المشهد الفلسطيني قبل السابع من أكتوبر
جاءت هجمات أكتوبر في سياق من المواجهات السابقة المُستمرة بين الإسرائيليين والفلسطينيين منذ آخر اشتباك واسع بينهما عام 2021، وبما كان يُنذر ببلوغها "ذُروة التصعيد" مع وجود الحكومة الإسرائيلية التي وصفت بـ "الأكثر تطرفاً في تاريخها"، والتي ترافق تشكيلها في أواخر العام 2022، بإجراءات ضد الفلسطينيين مع توسع الاستيطان، وتزايد وتيرة عُنف المستوطنين، وتكرار الانتهاكات في المسجد الأقصى، والتضييق على الأسرى الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية، مع استمرار الحصار في قطاع غزة وتفاقم عواقبه على الأوضاع الإنسانية. إذ يعدّ قطاع غزّة من أكثر الأماكن كثافةً سكانية حيث وصل عدد السكان مع نهاية عام 2023 إلى حوالي 2.3 مليون فرد يعيشون على مساحة جغرافية لا تزيد عن 365 كم مربع. وحسب بيانات الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني وعدّة تقارير أممية؛ يعيش أكثر من 6 آلاف نسمة في كيلو متر مربع، أي ما يعادل 500 نسمة لكل 100 متر مربع. كما كشفت التقارير والإحصاءات لعام 2023، أنّ معدلات البطالة في القطاع بلغت أكثر من 46% في الربع الثالث لعام 2023، وبلغت معدلات الفقر حتى منتصفه حوالي 64%. في حين يعاني 65% من السكان من انعدام الأمن الغذائي. وعلى الرغم من عدم وجود بيانات رسمية، أشارت عدّة مصادر إعلامية إلى التنامي الكبير في معدلات الهجرة من القطاع، حيث تقدر أعداد المهاجرين من القطاع بلا عودة بقرابة 860 ألف فلسطيني خلال سنوات الحصار الستة عشر (2007-2023).
في المُقابل؛ اتسم المشهد الفلسطيني السياسي والإنساني في الضفة الغربية وقطاع غزة بالتعقيد مع عدم إحراز تقدم يُذكر على صعيد معاناتهم الاجتماعية والاقتصادية والحقوقية المُتعددة، خاصة بعدما أدت المتغيرات الإقليمية والدولية لتراجع القضية الفلسطينية من قائمة الأولويات، سواء في خطاب الإدارات الأمريكية ومحاولة الرئيس السابق دونالد ترامب "حسم الصراع" على حساب حقوقهم فيما يُعرف بصفقة القرن عام 2020، والميل العربي للتطبيع مع إسرائيل دون انعكاس إيجابي على واقعه.
ومع صعود يحيى السنوار قائداً لحركة حماس في قطاع غزة عام 2017، وصالح العاروري نائباً لرئيس المكتب السياسي للحركة وقائداً لها في الضفة الغربية في العام نفسه، بدأت جهود حركة حماس لتطوير البُنية التحتية العسكرية في قطاع غزة، وترسّخَت بوجودهما عُلاقات الحركة مع إيران ومختلف أطراف ما يسمى "محور المقاومة"، وقد كان من أبرز مظاهر قيادتهما؛ التركيز على قضايا فك الحصار والوجود في الضفة الغربية الذي عاد بعد سنوات من عملية "السور الواقي" 2002 التي هدفت إلى القضاء على البنية التحتية التسليحية للفصائل وتقويض عملياتهم في الضفة الغربية، فباتت الحركة مع مرور الوقت تعلن مسؤوليتها عن بعض العمليات المسلحّة ضد الأهداف الإسرائيلية، بالإضافة إلى التمسك بملف تحرير الأسرى، والتأكيد عليه في مختلف المُناسبات، وقد تزايدت الضغوط على الحركة في الضفة الغربية، مع تزايد ظاهرة العمليات العسكرية للمجموعات الميدانية المسلحة وتكثيفها خلال الفترة (2021-2023)، مع محاولات فصائل مُسلحة أخرى المُبادرة في إعادة المواجهات المُسلحة ضد إسرائيل مثل حركة الجهاد الإسلامي، وتصاعد أدوارها في قطاع غزة والضفة الغربية.
أما على المستوى الشعبي فقد شهدت الفترة بين أغسطس 2021 وسبتمبر 2023، عدّة مظاهرات يوميّة لأهالي قطاع غزة بالقرب من السياج الحدوديّ الفاصل بينهم وبين القوات الإسرائيلية المتمركزة؛ تنديداً بالاعتداءات المتكررة على المسجد الأقصى واقتحامات الضفة الغربية، وبالحصار المستمر على القطاع منذ عام 2007، والذي ساهم في إقدام العشرات من أهالي القطاع على الهجرة عبر البحر رغم المخاطر العالية المرتبطة به. فمثلًا؛ تشير البيانات إلى أنّ أكثر من 360 فلسطيني لقوا مصرعهم أو فقدوا في البحر خلال عام 2022 أثناء محاولتهم الهجرة غير الشرعية إلى أوروبا.
وفي الواقع؛ فإن العديد من تلك الملفات والقضايا كانت تقع ضمن مسؤوليات رئيس حماس في قطاع غزة -حينذاك- يحيى السنوار، وكانت تُشكل عاملاً ضاغطاً ليس في وجهة النظر الشعبية تجاه قيادته فحسب، بل أيضاً في أولويات واتجاهات حركة حماس بشكل عام، وقد يكون لذلك دور في تصعيد نوايا الحركة لتكثيف "العمل المسلح" وتحديداً تجاه ملف الأسرى، وقد كشفت التصريحات التي تبناها قادة حركة حماس وخاصة السنوار وقائد الحركة في الضفة الغربية صالح العاروري أثناء فعالية أقامتها الحركة في ديسمبر 2022، في الذكرى الخامسة والثلاثين لتأسيسها، الاهتمام المرتفع بقضية الأسرى، خاصة في ظل حالة الإحباط من إمكانية تحريرهم، سواء بين الأسرى ذاتهم أو داخل الشارع الفلسطيني، باستمرار بقاء ملف الأسرى معلقاً، إذ وضح كلاهما خيار الحركة الأول لتحريرهم بـ "صفقة تبادل" في تهديد ضمني لتنفيذ عمليات احتجاز جنود ومستوطنين إسرائيليين وذلك من أجل تسريع عملية تبادل الأسرى وتحسين شروط التفاوض حولها.
مسار الحركة ما قبل الهجمات
ما قبل هجمات أكتوبر، ساد اعتقاد لدى حركة حماس، أن توظيف عوائد القوة لا يجب أن يقتصر على الميدان العسكري ضد إسرائيل فحسب، بل أن ينعكس أيضاً في تعزيز مكانة الحركة وحضورها الدبلوماسي على الساحتين الدولية والإقليمية، وفي تعزيز حُكمها لقطاع غزة، وقد حددت تلك المنطلقات حدود اشتباك الحركة مع إسرائيل في نطاقين: الأول حرمان إسرائيل من تحقيق مكتسبات دون كُلف، والثاني عدم الانجرار إلى حرب تتعدى في حدتها جولات التصعيد المستمرة مع إسرائيل. وبناء على ذلك؛ وفي العام 2017، عكست الوثيقة السياسية لحماس توجهاتها الاستراتيجية مُقارنة مع ميثاقها عام 1988، حيث لم تشر إلى ارتباطها بجماعة الإخوان المسلمين، وبالرغم من حفاظ وثيقتها الثانية على "العمل المسلح" إلا أنها منحت الحركة مرونة في المجالات السياسية والدبلوماسية، وقبلت الحركة بموجبها دولة فلسطينية على حدود العام 1967، وأعادت تعريف الصراع باعتباره مع "الصهيونية الاستعمارية". تلا ذلك؛ نشاط كثيف للحركة في الميادين السياسية والدبلوماسية، إذ استأنفت علاقاتها مع دمشق في أكتوبر 2022، وزار قادتها السعودية لأداء مناسك العُمرة بدعوة رسمية في أبريل 2023، بالإضافة إلى زيارات أجراها القادة لدول عدة من العالم من بينها روسيا والصين ودول شرق آسيا.
وبذلك؛ ركزت حركة حماس على الجوانب السياسية والدبلوماسية، والتي جاءت بنتائج إيجابية وسريعة على الحركة لا سيما في قطاع غزة، إذ نجحت الوساطة المصرية والقطرية بالسماح للعُمال الغزيين بالعمل داخل إسرائيل، والذين وصلت أعدادهم نحو 18 ألف عامل يومياً. قبل أن تعكس هجمات أكتوبر هذا المسار، وتُحدث تحولاً مفاجئاً في رؤية الحركة الاستراتيجية، ما دفع العديد من المسؤولين والمُراقبين باعتبار ذلك المسار السياسي جزءاً من حملة تضليل واسعة انخرطت فيه الحركة للتغطية على هجمات أكتوبر المفاجئة. إلا أن دقة تلك التصورات مرهونة بدراسة دور هياكل الحركة في اتخاذ قرار شن تلك الهجمات، إذ يفترض بناءًا على النظام الداخلي للحركة اطّلاع مجلس الشورى، والمجلس التنفيذي الذي يضم المكتب السياسي للحركة، وكتائب القسام، على خطط الهجوم والموافقة على تنفيذه.
لكن؛ بالنظر إلى السرية الشديدة التي أحاطت بالهجوم، يُرجح أن تخطيطه وقرار تنفيذه، اقتصر على حلقة ضيقة من قادة حركة حماس المتواجدين في قطاع غزة، في مقدمتهم رئيسها حينذاك في غزة يحيى السنوار -أصبح في 6 أغسطس 2024 رئيساً للمكتب السياسي، واغتيل في 16 أكتوبر في اشتباك مسلح مع الجيش الإسرائيلي في رفح-، وقائد كتائب القسام محمد الضيف -أعلنت إسرائيل عن اغتياله مطلع أغسطس 2024-، ما يعني أن أعضاء مجلس الشورى والمكتب التنفيذي لم ينظروا في خطة الهجوم أو يساهموا في قرار التنفيذ، إذ ذكر رئيس المكتب السياسي لحماس في الخارج خالد مشعل؛ علمه عن الهجوم من وسائل الإعلام. مع ذلك لا يزال من غير الواضح من كان على اطلاع محدود بشأن الهجمات، ومن كان له حق الوصول غير المقيد لمعلومات تلك الهجمات لا سيما توقيتها وآليات تنفيذها، ومن لم يكن على اطلاع مطلق بشأنها.
وفي الواقع أظهرت هجمات أكتوبر التحولات في سلطة اتخاذ القرار داخل الحركة، فمنذ العام 2009، حُددت قيادة الحركة بنموذج هيكلي رباعي لتقاسم التمثيل وصناعة القرار (قطاع غزة والضفة الغربية والخارج والسجون) لتمثيل المناطق الثلاثة لتواجدها (قطاع غزة والضفة الغربية والخارج)، إلا أنّ أولويات هذه الساحات الثلاثة اختلفت حول قضايا رئيسة، من بينها طبيعة الحلفاء، واستراتيجية الحركة، ومع انتخاب يحيى السنوار قائداً للحركة عام 2017 في قطاع غزة، وبسبب قربه من كتائب القسام، وقادة السجون، تحول ميزان القوى في الحركة إلى قيادتها في غزة، وتوجهت أولويات الحركة نحو ملفات الأسرى وفك الحصار عن قطاع غزة، وتمحورت خياراتها بالعمل المسلح كما وضحنا سابقاً، وصولاً إلى هجمات أكتوبر، التي جاءت خارج إطار "التوازنات الدقيقة" بين مراكز صنع القرار الأربعة.
"الحسابات" العسكرية التي قادت لهجمات أكتوبر
يستند الإطار النظري للمنظومة الفكرية لدى حركة حماس والتي قادت لهجمات أكتوبر على مجموعة من الأسس السياسية والعسكرية التي تشكّل رؤية الحركة للصراع مع إسرائيل، وأدوات واستراتيجيات إدارته بالنظر إلى التجارب السابقة والمتغيرات الجديدة، وهو ما يمكن قراءته في تنفيذ هجمات أكتوبر من منطلقين اثنين هما:
الأول: أن الفصائل الفلسطينية تعاملت مع إسرائيل بالنظر إلى موازين الردع، وتحديداً في تقدير قُوتها أمام القوة الإسرائيلية، إذ لم تُقرأ القوة الإسرائيلية في حدودها القُصوى، وإنما في حدود المُستخدم منها ضدها منذ عام 2008. وقد وجدت حركة حماس أن مقومات الردع تسير بجانبها مع حيازتها للمحتجزين الإسرائيليين، بتكرار نموذج الاشتباك بمشاركة أطراف "وحدة الساحات".
الثاني: أن عناصر القوة غير النظامية تفوقت تاريخياً على القوة العسكرية التقليدية، وأن البنى التحتية لدى حركة حماس من أنفاق وتصنيع عسكري محلي، يُتيحان لها مواصلة القتال طويل المدى، وبما ينهك إسرائيل ويدفعها لخيار المفاوضات، الذي يميل لصالح حركة حماس وفق تصورها.
لقد حُددت تلك المنطلقات من التجارب السابقة من جولات التصعيد المختلفة مع إسرائيل، والتي توصلت منها حركة حماس إلى أن الهجمات التي تتضمن عمليات أسر غالباً ما تتطلب من إسرائيل العودة إلى مسار المفاوضات. وعوائد ذلك المسار مُرتفعة بالنسبة للمنظمات والفصائل المسلحة، وبشكل غير مُتكافئ مع ما تحصل عليه إسرائيل أو تسترجعه، فمثلاً أطلق سراح الجندي الإسرائيلي جلعاد شاليط، وفق مُعادلة (ألف مقابل واحد)، حيث أفرجت إسرائيل عن قرابة 1000 أسير فلسطيني مقابله، فيما حقق حزب الله أهدافه بالإفراج عن سمير القنطار عندما احتجز مجندين إسرائيليين عام 2006، إلى جانب الإفراج عن ثلاث أسرى آخرين ورفات 200 أسير لبناني وفلسطيني.
وفي الواقع صُممت هجمات أكتوبر بشكل رئيس لدفع إسرائيل للدخول في مفاوضات مع "حماس"، ولإطلاق سراح الأسرى الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية، مُقابل الإسرائيليين الذين توقعت الحركة احتجازهم، سواء كان ذلك الاحتجاز مقتصراً على جنود أو يشمل مستوطنين، وبالنظر إلى حجم الهجوم اعتقدت حماس أن أعداد المحتجزين الإسرائيليين كفيلة بـ "تبييض السجون،" وفق عمليات تبادل الأسرى غير المتكافئة، وبالاستناد على معادلتها المعلنة بعد الهجمات "الكل مُقابل الكل".
مع ذلك استعدت حركة حماس، لحقيقة أن هكذا هجوم، يرقى إلى درجة الحرب، وأنه سيقابل برد فعل من جانب إسرائيل، وذلك انعكس في كلمة القائد العام لكتائب القسام محمد الضيف، عند الإعلان عن الهجمات، حيث شكلت دعوة تعبوية شعبية وسياسية، للانضمام إلى المواجهة؛ فلسطينياً وخارجياً، لكن بقيت دعوته تلك دون إعلان صريح بالحرب.
لكن من المستبعد أن الحركة تصورت السلسلة اللاحقة من الأحداث، وأن رد الفعل ذلك سيكون غير مُتناسب ويُطلق حرب مرتفعة الكثافة في قطاع غزة، ستتوسع لاحقاً إلى لبنان، وقد تمتد إلى عموم أطراف "محور المقاومة". خاصة أن الحرب الحالية تعتبر استثناءً من تاريخ الصراعات بين الطرفين، من حيث:
1- على مدى الخمسة عشر عاماً الماضية بلغ إجمالي مدة الاشتباكات بين الطرفين نحو ثلاثة وتسعين يوماً فقط، بما في ذلك هجمات الأعوام (2008، 2012، 2014، 2021).
2- اقتصر استخدام النيران البرية على جولات التصعيد خلال الأعوام (2008، 2012، 2014) ـ وفي أشد حالاتها عام 2014، كان عمق التوغل محدوداً ومدته وجيزة، إذ بدأت العمليات البرية في 17 يوليو، بعد أن استدعى الجيش الإسرائيلي 40 ألفاً من قوات الاحتياط وتوقفت في 5 أغسطس، وأسفرت عن مقتل 64 جندياً إسرائيلياً، واقتصر توغل القوات على مناطق الشجاعية وخان يونس.
كما يبدو أن حركة حماس راهنت على مجموعة من العوامل للتخفيف من حدة الرد الإسرائيلي، أولها -كما اتضح في بيان الضيف، وثُم في خطاب الناطق باسم كتائب القسام في 12 أكتوبر - أنها رجحت تكرار قواعد الاشتباك أثناء تجربة "عملية سيف القدس" عام 2021، والتي شملت مختلف أطراف وحدة الساحات، بمشاركة من جبهات الداخل والضفة الغربية وقطاع غزة، وغيرها على امتداد الساحات في لبنان والعراق وسوريا واليمن، ونجحت حينذاك في ثني الحكومة الإسرائيلية عن محاولتها تهجير أهالي حي الشيخ جراح، ويُشير الاسم الذي أطلق على الهجمات "طوفان الأقصى"، إلى نوايا الحركة بوضع إسرائيل وسط معادلة متعددة الأطراف، قد تنعكس في تعقيد ردها على الهجوم.
وإلى جانب ورقة الأسرى، فقد كان الهدف الاستراتيجي للهجمات والمتمثل في مهاجمة معسكرات الجيش الإسرائيلي في محيط غلاف غزة، وتحديداً "فرقة غزة" المتمركزة في "قاعدة رعيم" التابعة للمنطقة العسكرية الجنوبية، والمسؤولة عن حراسة الحدود ما بين إسرائيل وقطاع غزة، والتخطيط لأسر أكبر عدد ممكن من الضباط والجنود واحتجازهم في القطاع، ضمانة في تصورات المخططين للهجوم بعدم قيام إسرائيل باجتياح بري للقطاع في المدى القريب.
وقائع تنفيذ الهجوم
يقتصر النقاش السابق على المُستوى الفكريّ لمخططي هجمات أكتوبر، ولا ينطبق بالضرورة على ما حدث في صبيحة السابع من أكتوبر وما تلاه من وقائع ميدانية، إذ يؤخذ بالحسبان الفارق بين الخطط الهجومية، والجوانب التنفيذية لها، والفجوة ما بينهما والتي شكّلت الفارق الرئيس في الهجمات وجعلته سابقة من تاريخ الصراع، إذ رافق تنفيذ الهجمات، عدد من التجاوزات في الميدان لعناصر النخبة الذين دخلوا مناطق غُلاف غزة، والتي اعترفت بها حركة حماس في بيان لاحق، وعَزتها إلى "الانهيار الكامل والسريع للمنظومة الأمنية والعسكرية الإسرائيلية". مع ذلك فإن تلك التجاوزات كشفت عن إشكاليات وفجوات أحاطت بالتخطيط وبآليات اتخاذ القرار وبالتدريب والتأهيل للمنفذين ومن ثم في عملية التنفيذ، ومن بينها:
أولاً: لا مركزية التنفيذ
اتخذت الوحدات المنفذة، رغم التخطيط المُفصل وتحديد مهام المقاتلين، قرارًا غير مركزيّ بتوسيع نطاق انتشارها بعد تجاوزها السياج الفاصل؛ استجابةً للمعطيات الميدانية التي واجهتها وكانت ماثلة أمامها. وقد أقرت وثيقة حركة حماس الصادرة في يناير 2024 بتلك الأخطاء؛ حيث أوضحت أن خطط الهجوم اقتصرت على القواعد العسكرية والثكنات العسكرية في المستوطنات المحيطة بالقطاع، تحديداُ فرقة غزة التي تتمركز على بعد (7) كم عن السياج، وهو ما يُوضح أن وصول عناصر الحركة حتى عُمق 20 كم، كان تجاوزًا للأماكن المخطط لاقتحامها، باستهدافهم المرافق المدنية في المستوطنات.
ثانياً: ضعف التسلسل الهيكلي القيادي
إن تجاوز المقاتلين لمهامهم يكشف عن خلل في التنسيق داخل الهيكل القيادي المركزي والميداني، خاصة من القادة الميدانيين وقادة الوحدات المسؤولين عن ضبط مقاتليهم في الميدان وضمان التزامهم بالمهام المفصلة في الخطط، والتي ساهمت إلى جانب طريقة التنفيذ "اللامركزية" في منح المُقاتلين في الميدان حُرية التصرف، وقد ترافق ذلك بسلوكيات عادت بنتائج سلبية على الحركة، لا سيما احتجاز إسرائيليين من النساء والأطفال من الأماكن غير العسكرية، وهي المعضلة التي حاولت الحركة لاحقاً تفاديها في بيانها السابق وإعلانها استعدادها لإطلاق سراح المدنيين غير المشروط.
ثالثاً: ضعف الضبط النفسي
إن الوحدات المُنفذة للهجوم لم تكن على علم مُسبق بمهامها إلا قبل تنفيذها بساعات قليلة، واعتمدت على تدريباتها السابقة، وتحديداً "مناورات "الركن الشديد"، التي أجريت أربع مرات، كانت (الأولى في ديسمبر 2020، والأخيرة في سبتمبر 2023)، وتضمنت مُحاكاة لمحاور هجمات أكتوبر، من بينها رفع كفاءة غرفة العمليات المشتركة بين الفصائل، وتدريب العناصر على نماذج وهمية تُشبه مستوطنات غُلاف غزة والقواعد العسكرية والدبابات، والتدرب على تكتيكات الاختطاف والاقتحام والاختراق وغيرها من وسائل القتال في البيئات المعقدة. وقد عكست تلك التدريبات كفاءة قتالية أثناء تنفيذ الهجوم، خاصة ضد المواقع العسكرية الإسرائيلية، إلا أنها أغفلت جوانب هامة لا تقل أهمية عن الإعداد البدني والقتالي، وهي الجوانب النفسية للمُقاتلين، خاصة لحظة تجاوز السياج الفاصل للمرة الأولى منذ عام 1948، وبعد عقود من الحصار والاغتيالات وجولات التصعيد، التي دمجت في تصوراتهم ما بين الجوانب المدنية والعسكرية الإسرائيلية.
رابعاً: عدم تأمين الحدود
إنّ السريّة التي أحاطت بالهجمات حدّت من قدرة الحركة على تحريك أعداد أكبر من المقاتلين للحراسة وتأمين السياج بما يمنع إحداث ثغرات أمنية تضرّ بفعالية سير مخطط التنفيذ، فعلى الرغم من أهمية السرية لدى الحركة لضمان منع تسريب المخطط لإسرائيل أو كشفها لتحركاتهم من مناطق المراقبة، إلّا أنّ غياب وجود مقاتلين في المناطق المحيطة بالسياج مكّن المواطنين الغزيين من العبور وحرية التحرك داخل مسرح العمليات.
في المٌقابل، ساهمت الاستجابة الإسرائيلية غير المدروسة والعشوائية في الساعات الأولى من الهجمات من تعميق الأزمة وتعقيد الموقف وزيادة الفوضى داخل غلاف غزة، وقد أشارت التحقيقات الصحفية والرسمية إلى أن عدداً من الإسرائيليين قتلهم الجيش الإسرائيلي، وفق تحقيق للشرطة الإسرائيلية، بشأن المسؤولية من قتل المشاركين في الحفل الموسيقي قرب مستوطنة ريعيم.
اليوم التالي لهجمات أكتوبر
شكل الهجوم صدمة واسعة في إسرائيل، وترافق تنفيذه بمفاجئات غير مُتوقعة للمخططين في حركة حماس، وبشكل غيّر من الحسابات الدقيقة لديهم، ومن تقديراتهم بشأن رد الفعل الإسرائيلي، إذ ردت إسرائيل في اليوم التالي من الهجمات وتحديداً في 8 أكتوبر، بأن أعلنت "حالة الحرب"، ووضعت كامل المُدن فيها تحت قانون الطوارئ، وأعلنت استدعاء 300 ألف من قوات الاحتياط، وفرضت في 9 أكتوبر حصاراً شاملاً منع دخول الوقود والمياه والغذاء والدواء إلى قطاع غزة، واستقبلت جسراً جوياً من الحلفاء المساندين والدعم العسكري من الولايات المتحدة وأوروبا، وأطلقت حملة قصف جوي وأحزمة نارية كثيفة وعنيفة تركزت على مختلف مناطق القطاع، أعقبها اجتياح بري عنيف، في رد وُصف على نطاق واسع، بأنه "غير متناسب". وفي الواقع فإنه يمكن فهم السبب وراء هذه الحملة الإسرائيلية سواء في قطاع غزة ولبنان، من حيث:
أولاً: شكلت هجمات أكتوبر حدثاً غير مسبوق في تاريخ الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وفي تاريخ الحروب بين حركة حماس وإسرائيل، وخالفت الاعتقاد الإسرائيلي السابق أن حركة حماس غير قادرة على شن هجمات بهذا الحجم والقوة، وبأنها تقع خارج سلوكها ونمطها التكتيكي التاريخي؛ الذي كان يقتصر على إطلاق الصواريخ، والدفاع، وتنفيذ التفجيرات والعمليات المسلحة ضد مواقف الحافلات والمقاهي والمجمعات.
ثانياً: أن ذلك التحول في تنفيذ هجومها الفعال والمنسق والمنظم، جاء نتيجة للتعبئة التنظيمية والهيكلية طويلة الأجل، بدءًا من إرسائها أوجه القيادة والأيديولوجية والموارد البشرية والإعلان والدعاية والتجنيد والعلاقات العامة منذ تأسيسها عام 1988، ووصولاً إلى حصولها على المساحات التشغيلية التي مكنتها من تدريب مقاتليها وإنشاء البنية التحتية للتصنيع العسكري، وكذلك على الملاذات الآمنة من حيث إحاطة الحركة بشرائح اجتماعية داعمة لها، بعد سيطرتها على قطاع غزة عام 2007، وتطويرها منظومة تسليحية وعسكرية واستخباراتية، قادت لتحول حماس من حركة إلى منظمة متكاملة تؤدي مهام الدولة بالنسبة إلى الفلسطينيين في غزة.
ثالثاً: كشفت الهجمات عن توظيف حركة حماس للأصول العسكرية والمادية والبشرية المتراكمة من طاقات وموارد للعمل بشكل متكامل ضد إسرائيل، وعبّرت عن ذروة قُوة كتائب القسام، والتوظيف الأقصى لما تمتلكه من أشخاص ومهارات وأموال ومعدات.
رابعاً: حجم الهجمات حيث أدخلت خلاله أكثر من ألفي مقاتل من أفضل عناصرها تدريباً وتأهيلاً، عبر البر والبحر والجو (بالطائرات الشراعية)، وأطلقت قرابة 3 آلاف صاروخ نحو إسرائيل، وهجمات المسيرات وجوانب من الحرب السيبرانية، واستطاعت إحداث 25 ثغرة لعبور المقاتلين عبر الجدار العازل الذي وصفه المسؤولون الإسرائيليون بأنه "المشروع الأكثر تعقيدًا"، بكلفة بلغت حوالي مليار دولار، بما يشمله من سياج يبلغ ارتفاعه 20 قدمًا، وعدد من أبراج المراقبة وأبراج رشاشات عن بعد والمنتشرة كل 500 قدم على طول الحدود البالغة 60 كيلو متر، ومن ثُم السيطرة على منطقة تبلغ مساحتها نحو 4-5 كيلومتر من غلاف غزة، والوصول إلى عُمق 25 كيلو متر داخل إسرائيل، وقتلت خلاله 1189 شخصا، بأكثر مما قتلت الحركة من الإسرائيليين منذ تأسيسها وحتى عام 2020، والبالغ 857 وفقاً لقواعد البيانات المتخصصة، وبما يفوق قتلى العمليات الفلسطينية ضد الأهداف الإسرائيلية منذ عام 1949، وأصبحت فترة الاحتجاز للإسرائيليين لدى الفصائل الفلسطينية، الثانية تاريخياً من حيث مدتها، بعد أن أمضى الرهائن الأمريكيون في إيران 444 يوم في الأسر عام 1979.
وعليه؛ لم تنظر إسرائيل إلى الهجوم باعتباره صادراً عن منظمة مُسلحة، بل من دولة تمتلك منظومة عسكرية واجتماعية متكاملة، يتطلب إضعافها ضرب مختلف هياكلها التنظيمية ومواردها التشغيلية والتسليحية، وسلبها ملاذها الآمن الذي أتاح لها مُراكمة قوتها، واستخدامها ضد إسرائيل، في مقدمتها البنى التحتية السياسية والعسكرية الخاصة بالحركة.
من هذا المُنطلق، كان إعلان الحرب من الموجبات بالنسبة لإسرائيل أمام الداخل والعالم، وأصبحت مُلاحقة التهديدات من الضرورات، وغيرت الهجمات بشكل جوهري من العقيدة الأمنية الإسرائيلية، باتجاه الاستعداد لتوسعة الحرب ضد كل من يمتلك القوة ولديه النية لاستخدامها ضدها، ولذلك أعلن المسؤولون الإسرائيليون بشكل مُتكرر أنهم في مواجهة "سبع جبهات".
حسابات حماس ما بعد الهجمات
وجدت حركة حماس ذاتها أمام مشهد إسرائيلي ودولي داعم للحرب، فمن جهة اعتبرت إسرائيل بمواطنيها ومؤسساتها الهجوم "خطراً وجودياً" عليها، وتزامن مع وجود الحكومة "الأكثر تطرفاً" في تاريخ إسرائيل كما وصفها الرئيس الأمريكي جو بايدن في يوليو 2022، والتي كشفت أطرافها منذ يومها الأول عن نيتهم حسم الصراع مع الفلسطينيين بدلاً من إدارته، وجاء في وقت كان يواجه فيه رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتنياهو مُحاكمة كادت أن تهدد مستقبله السياسي وحريته الشخصية، وقد تقاطعت الهجمات مع تصورات تلك المستويات الثلاثة في إسرائيل، إلى جانب الظرف الدولي والإقليمي، بوجود إدارة أمريكية ضعيفة، و"محور مُقاومة" تغيرت أولوياته من الخارج إلى الداخل. ويُعزى جانب رئيس من سوء تقدير مخططي الهجمات لتلك الحقائق، أنهم استبعدوا المكتب السياسي في الخارج من عملية اتخاذ القرار، ما غيب جزءاً هاماً من تقدير قادتهم المطلعين على الجوانب المتعلقة بالمجتمع الدولي والظرف الإقليمي والعلاقات الدبلوماسية للحركة، وتداعياتها المحتملة على دول الجوار، وعقدت كذلك من حسابات الحركة في الداخل والخارج، وأمام حلفائها.
وفي الواقع؛ تغيرت تقديرات وأهداف حماس من هجماتها منذ اليوم الأول لها، وأدركت أنها مُقبلة على هجوم إسرائيلي مُختلف عمّا سبقه من هجمات ومواجهات، وذلك دفع الناطق باسم كتائب القسام، في خطابه في 19 أكتوبر إلى القول "أن الحركة تستعد لحرب طويلة". وقد شكل اتفاق الهدنة بين إسرائيل وحركة حماس في 22 نوفمبر 2023 "لحظة فارقة" في النتائج المُتصورة عن هجمات أكتوبر بالنسبة لمخططيها، إذ دخل على سياق المفاوضات قضايا مُستجدة أكثر أولوية أنتجتها الحرب، من بينها ما يتعلق بالمساعدات الإنسانية، ووقف إطلاق النار وفتح الممرات الإنسانية، ومن المُفترض أن الحركة أدركت حينها ما عملت عليه إسرائيل لإضعاف ورقة المحتجزين لدى حماس، ودفعها لتغيير معادلة "الكل مُقابل الكل"، والموافقة على مُعادلة (3 مُقابل 1)، وأكدت على أولوية استمرار الحرب عند إسرائيل، وأن هذه الجولة من الاشتباك مُختلفة عما اعتادت عليه الحركة، وما توقعته من نهاية لتداعيات هجماتها أيا تكن بالعودة إلى المفاوضات.
وتعمق ذلك الإدراك مروراً بسياق الحرب، لتحتل قضايا أخرى الأولوية على ملف الأسرى، فخلال الفترة من نوفمبر 2023 وحتى مايو 2024، كان وقف الحرب الهدف الجوهري لحركة حماس، وذلك للحفاظ على مواقع سيطرتها في مدينة رفح، والتي يُمكنها منها العودة تدريجياً إلى إدارة قطاع غزة، خاصة أنها كانت تسيطر حينذاك على معبر رفح ومحور فيلادلفيا. ومن هذا المُنطلق وافقت الحركة على مُقترح بايدن في 31 مايو 2024.
إلا أن أولويات الحركة شهدت تحولاً جديداً منذ يونيو 2024، بعد التغيرات الجغرافية التي طالت قطاع غزة من توسيع المنطقة العازلة، ومحور نتساريم وسيطرة الجيش الإسرائيلي على معبر رفح وممر فيلادلفيا، إذ أصبح مطلب حماس بانسحاب الجيش الإسرائيلي من كامل قطاع غزة يحتل الأولوية عن غيره من المطالب، وبدا ذلك واضحا في تراجع الحركة عن هدف "تبيض السجون" مُقابل قبولها بالعدد المحدود من الأسرى وفق معادلةٍ ترتكز على الإفراج عن أكبر عدد ممكن من أولئك الأسرى مقابل المحتجزين الإسرائيليين الذين تُقدر أعدادهم الحالية بحوالي 97 محتجزاً، مع التركيز على فئات محورية لإتمام التبادل من النساء، والأطفال، والمرضى، وبعض من القيادات البارزة في السجون الإسرائيلية، وخاصة عبد الله البرغوثي من حركة حماس، ومروان البرغوثي من حركة فتح، وأحمد سعدات من الجبهة الشعبية. أضف إلى ذلك أن عدد الأسرى الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية قد ارتفع من 6 آلاف تقريباً قبل الهجمات إلى أكثر من 10 آلاف أسير في الضفة الغربية وحدها، وعدد غير معلوم من قطاع غزة.
مع ذلك؛ تُواجه مطالب حركة حماس بانسحاب الجيش الإسرائيلي من كامل القطاع، بمعارضة إسرائيلية، ولذلك أصبح الحديث عن هُدنة نهائية أو طويلة مسألة معقدة وشبه مستحيلة، وهو ما يتضح في مبادرة مصر لعقد صفقة محدودة ومؤقتة في أواخر أكتوبر 2024، تشمل على تبادل 4 من الأسرى والمحتجزين لدى الطرفين خلال يومين من وقف إطلاق النار، يعقبها 10 أيام يجري التفاوض خلالها على وقف دائم لإطلاق النار، بالتزامن مع جولة جديدة من المحادثات في العاصمة القطرية الدوحة، ويبدو أن المقترح المصري يعتبر بمثابة اختبار لجدية الحكومة الإسرائيلية في وقف إطلاق النار من جهة، ولقياس التغيرات في موقف حركة حماس بعد اغتيال السنوار من جهة أخرى.
حسابات العام الثاني من الحرب
بعد مرور عام على اندلاع الحرب، أعاد طرفاها الرئيسان تعريفها، فقد أعلنت إسرائيل في 12 أكتوبر، أن الحرب في قطاع غزة أصبحت "ساحة قتال ثانوية"، فيما تسعى حركة حماس لإعادة تنظيم صفوفها باتجاه "حرب استنزاف طويلة"، وهو ما أكد عليه الناطق الإعلامي باسم كتائب القسام في تسجيل مُصور له في الذكرى السنوية الأولى لهجمات أكتوبر، بالإشارة إلى أن استمرار إسرائيل بالحرب يُقابله "معركة طويلة ومؤلمة ومكلفة" عليها. وذلك يأتي بعد أن سيطر الجيش الإسرائيلي عملياتياً على حوالي 90% من جغرافيا القطاع، وفي ضوء استبعاد نجاح أي صفقة لوقف إطلاق النار، وتعثر مُحاولات الحركة في فتح جبهة ثانية مُوازية في الضفة الغربية وداخل إسرائيل.
مع ذلك؛ يُواجه كلا الطرفين تحدٍ استراتيجي في المُراحل المُقبلة من المواجهة، فمن جهة يُمكن لحماس أن تصمد عسكرياُ في حرب الاستنزاف، مدعومةً بقدرات محلية لإنتاج الأسلحة وإعادة استخدام ذخائر الحرب والتي تقدر بنحو 6-9 آلاف قطعة ذخيرة لم تنفجر، وكذلك العمل على تجنيد مُقاتلين جُدد. لكن نجاح ذلك مرهون بمدى قُدرة المجتمع الغزي على مُواكبة حرب قد تستمر لسنوات، إذ إن إعادة قطاع غزة قابلاً للحياة والسكن، يتطلب إصلاحاً شاملاً للبنية الأساسية المادية، ووفقاً لبيانات مركز الأمم المتحدة للأقمار الصناعية أوائل سبتمبر، بلغ إجمالي عدد المباني المتضررة حوالي 163 ألف مبنى، منها نحو 52 ألف مبنى دمر بالكامل، و18 ألف مبنى تضرر بشدة، و35 ألف مبنى ربما تضرر، و56 ألف مبنى تضرر بشكل متوسط، وهو ما يُمثل 66% من مجمل مباني القطاع. وتُشير ذات الوكالة في تقرير لها بمارس، أن أكثر من 76% من المدارس في القطاع تتطلب إعادة بناء بالكامل أو إعادة تأهيل رئيسة، وبحسب منظمة الصحة العالمية فإن 17 من مستشفيات غزة البالغ عددها 36 مستشفى تعمل جزئيًا، في حين أن 14 مستشفى تعاني من انعدام الأمن والأضرار في مداخلها المخصصة للمرضى وسيارات الإسعاف والدمار في الطرق المحيطة بها والمؤدية إليها. ووفقاً للأمم المتحدة فقد خلفت الغارات الجوية الإسرائيلية أكثر من 42 مليون طن من الأنقاض في مختلف أنحاء القطاع، والتي قد يستغرق إزالتها سنوات بكلفة قد تصل إلى نحو 700 مليون دولار. إضافة إلى التحديات التي تواجه هذه المهمة بسبب القنابل غير المنفجرة والمواد الملوثة الخطيرة والجثامين تحت الأنقاض.
ويزداد تعقيد هذا الواقع إذا ما استغلته إسرائيل بالضد من حماس، وأهمها ورقة المساعدات الإنسانية، والتي تمتد لتصبح القضية الأولى في محاور النقاش لليوم التالي من الحرب، خاصة إذا ما كانت عاملاً للحصول على تنازلات من حركة حماس، سواء في تسليم سلاحها أو قادتها المطلوبين، لا سيما في قضايا مثل إعادة الإعمار وعمليات التعافي المبكر للمجتمع، وتوزيع وتوسيع المساعدات الإنسانية، ويُمكن ملاحظة هذا النمط في تحكّم إسرائيل بعمليات التطعيم ضد فيروس شلل الأطفال، من حيث توفيرها للمطاعيم وتحديدها أماكن التطعيم وأوقاتها، وكذلك في دراسة إسرائيل لمُقترح عرض على يحيى السنوار -قبل اغتياله- في صفقة باسم: "الخروج الآمن" لإطلاق سراح المحتجزين الإسرائيليين مُقابل السماح له ومن معه من القادة بمُغادرة القطاع، والذي صيغ وفقاً لمسؤولين في سبتمبر 2024، وهو ما هدف إلى ربط مصير قادة حماس بمصير مجتمعهم والدفع لمسائلتهم. وهو العرض الذي أعاد نتنياهو في 17 أكتوبر بعد اغتيال السنوار، توجيهه للمطلعين على أماكن المحتجزين الاسرائيليين، بتسليمهم مُقابل الخروج الآمن من غزة.
أما من جهة إسرائيل؛ فإن الدخول في حالة استنزاف بانتظار النتائج السياسية لملفات ما بعد الحرب، قد يدفعها مرة أخرى إلى الانسحاب من القطاع دون تحقيق أهدافها، وبشكل مُشابه لحالة فك الارتباط عام 2005. إلى جانب تخوف المستوى الأمني والعسكري من أن يتوسع الاستنزاف إلى الجبهات الأخرى وتحديداً جبهة لبنان، بالرغم من القضاء على الهيكل القيادي، وتدمير عدد من مستودعات ومخزونات السلاح، إلا أن ذلك لن يكون مقياساً لنجاح مُوازٍ في الحملة البرية، إذ قُتل منذ انطلاقها في 30 سبتمبر 2024 وحتى 27 أكتوبر، حوالي 37 جندي إسرائيلي.
ولذلك؛ تتبع إسرائيل في مواجهتها مع مختلف الساحات، الاستراتيجية التالية:
أولاً: التصعيد غير المتناسب
وذلك بتوجيه ضربات ذات تأثير كبير، حتى لا تبقى عالقة في مُعادلة الردع، أو الحفاظ على تناسب الضربات فتدخل في حرب استنزاف معها جميعا، وقد بدا ذلك واضحاً في سلوكها على الجبهة اللبنانية، من حيث تسلسل الضربات لمراكز القيادة والسيطرة والقادة الميدانيين وقادة الوحدات ووسائل الاتصال والتواصل ومنشآت تخزين الأسلحة والعتاد وأماكن تخزين الأموال، بالرغم من تأكيد حزب الله على عدم رغبته بالدخول في حرب شاملة واقتصار دوره على الإسناد. وقد شمل هذا التصعيد إلى جانب حزب الله بقية أطراف ما يُسمى "محور المقاومة"، لا سيما إيران التي تقود المحور، إذ استهدفت إسرائيل مطلع أبريل، قنصليتها في دمشق، واغتالت القائد السياسي لحركة حماس، إسماعيل هنية على أراضيها في 31 يوليو، ووجهت في 28 سبتمبر تهديدًا للحوثيين باستهدافهم بعد حزب الله؛ مما يشير إلى أنها تسعى إلى وضع إيران وأطرافها في حرج الرد الموازي أو الضغط للرد بطريقة تنذر بجرّهم إلى حرب مباشرة.
ثانياً: تقويض "وحدة الساحات"
وذلك في محاولة قطع طرق الإمداد والدعم بين إيران ووكلائها، لا سيما حزب الله، عبر استهداف القادة العسكريين الإيرانيين المنخرطين في إدارة شبكة الوكلاء، وقد جاءت الضربة الإسرائيلية ضد إيران في 26 أكتوبر 2024، لتخدم ذلك الهدف، حيث لم تستهدف إيران كنظام سياسي، بل كمشروع توسعي، ولذلك تركزت على بعض منشآت تصنيع الصواريخ والطائرات المسيرة، ذات الصلة بعمليات إيران لإمداد أذرعها التابعة بتلك الأسلحة، وكل ذلك يهدف حُكماً لإضعاف مختلف الجبهات الأخرى، في لبنان واليمن والعراق، إلى جانب أن حسابات إيران بالرد أو الاستمرار في إطار التصعيد باتت محفوفة بمخاطر الحرب المُباشرة التي باتت تهدد أراضيها أكثر من أي وقت مضى. ومن ذات المنطلق بدأ الجيش الإسرائيلي في 9 أكتوبر بالتحرك العسكري في منطقة الجولان داخل الأراضي السورية لشق طريق عسكري بمحاذاة السياج الحدودي، وهو ما يأتي في سياق هدف إسرائيلي سابق لإنشاء حزام أمني حدودي أطلقت عليه اسم طريق "سوفا 53”، وذلك على ما يبدو مقدمة لتوسيع ضرباتها ضد الوجود الإيراني ووكلاء إيران في سوريا، خاصة مع تزايد الضربات الجوية الإسرائيلية لمناطق مختلفة وأهداف متعددة داخل سوريا، من بينها الاستهداف المتكرر لمطاري دمشق وحلب، إذ استهدفت في الفترة بين 14-22 أكتوبر مطاري حلب ودمشق ثلاث مرات.
ثالثاً: تعقيد حسابات أطراف المحور
يلاحظ أن الاستراتيجية الإسرائيلية لا تُركز فحسب على حسم الجبهة ضد أحد أطراف "وحدة الساحات" بقدر ما تسعى إلى تعقيد حسابات تلك الساحات، بدءًا من قطاع غزة إلى لبنان، وقد تمتد إلى مناطق أخرى، من خلال طرح إسرائيل شرط ربط وقف إطلاق النار في لبنان بإتمام صفقة تبادل أسرى في قطاع غزة، ومن شأن استمرار وتيرتها في الشدة والأسلوب ذاته، أن يُغير من موازين القوى التي رست منذ عام 2003، بأن منحت إيران موطئ قدم لها في العراق، ثُم تمددت نحو سوريا عام 2012، واليمن عام 2014، ورسخت بذلك خطوط إمدادها إلى حزب الله في لبنان ووصولاً إلى البحر الأبيض المتوسط. ما شكل طوقاً استراتيجياً يُحيط بإسرائيل برا وبحراً عبر النشاط الحوثي في البحر الأحمر. وما يُشير إلى أن التغير في ميزان تلك القوى هو تعثر ما يُعرف بـ"محور المقاومة" من تحقيق أهدافه، فمن جهة لم تستطع حركة حماس تغيير معادلة المواجهة مع إسرائيل لصالحها أو فرض حل للصراع الفلسطيني الإسرائيلي، كما تكبد حزب الله خسائر طالت هيكله القيادي ومواقع تخزين أسلحته، نتيجة مُشاركته في الحرب بالرغم من استمراره التأكيد على دوره كجبهة إسناد، وتكرار عدم رغبته الانجرار في حرب، وفشلت أطراف المحور في هدفها الرئيس من مشاركتها والمتمثل في وقف الحرب في قطاع غزة، فيما تجد إيران نفسها وسط مُعادلة معقدة قد تجرها إلى حرب مُباشرة، تُشارك فيها الولايات المُتحدة، فللمرة الأولى سوف يُشارك جنود أمريكيون في تشغيل أنظمة الدفاع الجوي داخل إسرائيل، وتقترب حاملة الطائرات "يو أس اس هاري ترومان" من الوصول إلى شرق البحر الأبيض المُتوسط، وفي ذلك مؤشرات تدفع للاعتقاد بفشل استراتيجية "الدفاع المُتقدم" التي صاغتها وتعمل عليها إيران منذ ثمانينات القرن الماضي، بهدف حماية أراضيها من الاستهداف المُباشر.
رابعاً: حسم الصراع بدلا من إدارته
كانت فكرة حسم الصراع، حاضرة لدى أطراف الحكومة الإسرائيلية اليمينية منذ تشكيلها، وقد وجدت في هجمات أكتوبر فرصة لها لعكس مخططاتها على أرض الواقع، سواء في قطاع غزة أو الضفة الغربية، وتوسعت في تعاملها مع الجبهة اللبنانية. قبل ذلك ظلت الولايات المتحدة تُدير الصراع الفلسطيني الإسرائيلي دون حله، وقد جاءت هجمات أكتوبر بهدف دفع الأطراف الدولية، ومن بينها واشنطن، لتحقيق حل الدولتين، وإعادة القضية الفلسطينية موضع اهتمام دولي، وبالرغم من تحقيق جزء من ذلك، إلى أنّ الإجراءات الإسرائيلية منذ بداية الحرب تعتمد على إضعاف المكونات الفلسطينية السياسية والعسكرية، وتتمسك في رفضها أي دور للسلطة الفلسطينية في قطاع غزّة بالتزامن مع محاولاتها تقويض السلطة في الضفة الغربية، وعرقلة محاولات إصلاحها لتمكينها من إدارة وحكم القطاع، والتضييق على سلطاتها في الضفة الغربية لا سيما باحتجاز إسرائيل قرابة ملياري دولار من أموال المقاصة، حسب بيانات وزارة المالية الفلسطينية في سبتمبر 2024، وتقويضها للمطالب الدولية والأممية في الدعوة لـ"حل الدولتين" من خلال موافقة الكنيست في فبراير 2024 على قرار الحكومة برفض الاعتراف الأُحادي بدولة فلسطينية، والتصويت في 18 يوليو 2024 على مشروع قرار يرفض إقامة دولة فلسطينية، بالإضافة إلى إجراءاتها أحادية الجانب في الضفة الغربية، من بينها مصادرة الأراضي وبناء وحدات استيطانية جديدة في مناطق استراتيجية في الضفة الغربية. بالإضافة إلى أنّ الإجراءات الإسرائيلية طالت وكالة تشغيل اللاجئين "الأونروا"؛ إذ صادق الكنيست في يوليو بالقراءة المبدئية على 3 مشاريع قوانين تقضي إلى منع عمل الأونروا وتصنيفها منظمة إرهابية، وفي 28 أكتوبر 2024 أقرّ الكنيست بشكل نهائي قانونًا يحظر أنشطة الأونروا في الأراضي الفلسطينية.
وأخيراً؛ جاءت هجمات أكتوبر بوصفها حدثاً استراتيجياً، أراد مخططوه تغيير طرق وحدود مواجهاتهم مع إسرائيل، إلا أن ثغرات عدة في الحسابات وأخطاء في التنفيذ، منحت إسرائيل فُرصة لتحقيق حسم الصراع، وغيرت من أهداف حركة حماس وأولوياتها في تنفيذ الهجمات، إذ وضعت حركة حماس وحزب الله ومختلف أطراف ما يُعرف "محور المقاومة" تحت تهديد وجودي بالقوة العسكرية والوسائل السياسية، وبات التهديد الإسرائيلي يطال مختلف أطراف المحور، حتى الدول نفسها مثل سوريا والعراق ولبنان وإيران، وهو ما يعني أن العام الثاني للحرب يحمل تداعيات لا تقل أهمية عن عامها الأول، وبما ينذر بمواجهات أكثر حدة واتساعًا، وتغيرات أكثر انعطافة ومفصلية للمنطقة وموازين القوى فيها.