شكراً إسرائيل
من قال إن حرب اسرائيل المفتوحة على غزة وأبنائها وأطفالها ومدارسها ومساجدها وأحلامها، ليس لها من الفوائد ما يجعلنا
ننظر بثقة شديدة للنصف المليء من الكأس، والغريب أن النصف الآخر أي "الفارغ" هو المليء فعلاً؛ المدجج بالدم والخراب وجثث الأطفال المعلقة لأيام على صدور أمهاتهم تحت الأنقاض.
أعود إلى نصف الكأس "المليان"، وأقول لإسرائيل ولعصابة الدم والدموع المتحدة: شكراً فقد حققتم لنا، نحن جيل آخر حرب وأول سلام، ما لم نستطع أن نزرعه في عقول أطفالنا وشبابنا تجاهكم.
شكراً إسرائيل لأنك عدتِ بنا وأعدتينا إلى المربع الأول في معرفتنا بك، وأعدتِ لنا، بغبائك المقصود، أو وهم أولوياتك الأمنية، صورتك الأولى الناصعة القبح.
شكراً إسرائيل لأنك أعدتِ لنا توازننا في فهم الأشياء وجلاء الصور، أيقظتِ بقذائفك العمياء وطائرات الأباتشي صوراً فينا وحقائق في وجداننا، ومبادئ تربينا عليها وتعلمناها بذورا زرعت فينا تجاهك، اعتقدنا أنها ماتت، بل الحق أننا كدنا ننسى، وبدأنا نعجز عن رؤية أو تلمس مشاعرنا الحقيقية الصادقة تجاهك، تحت جنح السلام ووهم التكيف مع الآخر.
هذه اسرائيل.. مرة أخرى، بركات أوهامها الأمنية، تعيد لنا الكرّة، وتُعدّل الميزان، بل لأول مرة منذ سنوات تمنحنا اسرائيل بعجز قوتها وفرط غبائها، القدرة على أن نفتح عيوننا بعيون أبنائنا، أن نخاطب عقولهم من جديد بصورة عدو الأمس، عدو اليوم، لا كما صورة ما أملته علينا اتفاقيات وتفاهمات.
أصبح بمقدورنا أن نخاطب جيلاً كاملاً من شبابنا الذين غبنا عنهم وغيّبنا أدمغتهم وسط انشغالاتنا ويومياتنا التي أصبح فيها التعايش مع أعداء الأمس أصدقاء اليوم.. أمراً طبيعياً، والسلام عليهم فرضاً، واحترامهم أو حتى تقبيلهم سُنةً حميدة.
حتى مناهجنا وكتب التربية الوطنية والاجتماعيات، تلك التي فرضنا عليها أيضاً أجندات حبنا الجديد، خوَت وخلت من مضمونها، غيرناها لصالح الصورة الجديدة لأبناء العم الذين ما فتئوا يخذلوننا نحن والصورة، وكتب الاجتماعيات كل يوم.
شكراً إسرائيل لأننا خجلنا من نظرات أطفالنا مراراً عندما كنا نُخفق في الإجابة على سؤال في كتاب التاريخ لا يتفق مع ما يشاهدونه في كتاب اليوميات وعلى شاشات الفضائيات، والحقيقة أننا نعترف لك أننا قطّعنا أوصال تاريخنا، فقطعنا معرفة جيل بكامله بتاريخه وحقائق أرضه، تماماً كما قطّعتِ أنتِ أوصال غزة، وصلات أسرها.
تقولين أولوياتك الأمنية، ونحن معك، نعم فقد حققت لنا أولوياتك الأمنية ما لم تحققه حروبنا معك على امتداد نصف قرن، ألم تُفقدك أولوياتك الوهمية تلك أربعة عقود من الجهد لكي تصبحي جزءا من المنطقة وتركيبتها الجغرافية والديمغرافية على إيقاع سلامكِ معنا، ألم تذهب خمس عشرة سنة منذ أوسلو أدراج القصف؟!
ألم تتابعي غضب العالم "الحقيقي" هذه المرة معنا، في طوكيو وبيونس ايريس، في كيب تاون وعند ساحة تيان مين العظيمة في بكين، في اليونان، السويد، ألمانيا، بريطانيا "صديقتك القديمة"، استراليا، فرنسا، البوسنة، النرويج، بلجيكا، كينيا، جزر الكوتوموتو..، في كل مكان، ألم يأتكِ الخبر بعد؟!
ثم ألم تعرفي أن شكري الموصول لك، يا اسرائيل التائهة اليوم في سراديب حمى التنافس الانتخابي بين الشقراء "سابقاً" والقصير "دائماً"، يتأتى أيضاً من أنك سهلتِ لنا مهمة قيادة فكر شبابي جديد لا همَّ وراءه إلا كرهك؟!
ألم تقرئي في كتاب أحد رعاياك روفائيل باتاي (العقل العربي) (The Arab Mind) الذي يؤكد لك أن الثأر جزء من موروثاتنا، وأن تقبُّل الآخر مرهون بتجاربه معنا.
تجاربكِ ليست بذات البريق الذي رسمتيه أنت ونحن معك، لصورتك في أدمغة جيل كامل من الشباب، قبلنا بها ليس لأننا ناكرو جميل لتاريخ التضحيات الطويل، بل لأننا محبو السلام فعلاً، وليس على ورق المعاهدات الذي اصفّر هو الآخر من مشهد الجريمة، وغبار القصف، جيل كامل سمعنا طويلاً ونحن نتغنى بفلسطين وبلاد العُرب أوطاني..، ثم انشغلنا وأشغلناه معنا في يوميات وضغوط الحياة.
أنسيناه في خضم برامج تلفزيون الواقع "الملهاة" أن اسرائيل هي الشر الأكبر والعدو الأوحد.
كانت المهمة صعبة، فأعدتِ لنا القدرة على أدائها بأفضل الصور. شكراً إسرائيل لأنك، وبجرة قلم، شطبتِ في وعينا، وفلكلورنا درس القومية العربية على أول تخوم معبر رفح.
ومشكورة أيضاً لأنك قدمتِ لنا نماذج حقيقية من الأصدقاء من أمثال الرجل الطيب أردوغان، والرجل..، الرجل شافيز.











































