سُعارُ الاستهلاك: كيف حولتنا الإعلاناتُ إلى كائناتٍ استهلاكية ’’2‘‘

السُّمنَة ومشكلة العصر: كيف ساعدت الإعلاناتُ في ذلك؟

 

تعتبرُ السُّمنَة واحدةً من أهمِّ مُشكلاتِ العصرِ الحديث ففي عام 2014م تجاوز عدد البالغين الزائدي الوزن في سن 18 عامًا فأكثر 1.9 مليار شخص وكان أكثر من 600 مليون شخص منهم مصابين بالسمنة، وقد كان تعداد السكان حولَ العالم 7.2 مليار في نفس الفترة، ويؤكِّدُ ذات التقريرِ للصِّحة العالميَّة بأن هنالك ثَمَّة صِلةٌ بينَ الوزنِ الزائد والسُّمنة وبين الوفَيَات في العالم أكبرُ من الصِّلة بين نقص الوزن والوفيات، وقد تضخَّمَت أعداد المصابين بالسُّمنة بشكلٍ كبير فقد زادَ معدَّل انتشارِ السُّمنة في العالم بأكثر من الضعف بين عامي 1980 و2014.

أما فيما يخصُّ تأثيرَ الإعلانات والتلفاز بشكلٍ أخص حولَ موضوع السُّمنة، فقد أكَّدت العديدُ من الدِّراساتِ بأنَّ مشاهدة التلفاز بكثرة تؤدّي إلى السُّمنة فأحد الدراسات أكدَّت بأن أولئك الذين شاهدوا التلفاز لمدة ساعتين أو أكثر يوميًا كان من المرجَّح أن يصابوا بزيادة الوزن خلال فترة الدراسة، وقد تمخَّضتْ دراستان طويلتان أخريتان عن نتائجٍ مماثلة، وهذا يدعمُ فكرة أنَّ المشاهدة المفرطة للتلفاز تساهمُ في زيادة الوزن، وفي دراسةٍ أخرى توصَّلت نتائجها إلى ارتباط مشاهدة التلفاز بالإفراط في تناول الطعام، وتحديداً الأطعمة الخفيفة ووُجد أنَّ عدد ساعات مشاهدة التلفاز للمراهقين مرتبطٌ بشكلٍ كبيرٍ بعدد الموادِّ الغذائيَّة غير الصحية المستهلكة يوميًا.

  وقد أُجريَت إحدى الدراسات على الأطفال لقياس احتمالية زيادة تناولهم للطعام بسبب مشاهدة التلفاز، وقد نتجَ عن الدراسة أنَّ التَّعرض للإعلانات الغذائية يروِّج للاستهلاك وأدى التعرُّض للإعلانات الغذائيَّة إلى زيادة محاولات الطفل للتأثير على مشتريات الوالدين، خاصةً فيما يتعلقُ باختيار المواد الغذائيّة التي تمَّ الإعلانُ عنها. 

ويكفي فقط أن ندرك بأن 37٪ من البرامج التلفزيونيَّة على قنوات التلفاز في الولايات المتَّحدة الأمريكية و49٪ على قنوات”UKTV“مخصصةٌ لمحتوى الطَّهي، حيث كانت غالبيةُ المنتجات المُعلن عنها هي أطعمةٌ خفيفة، تليها حبوبُ الإفطار ثم منافذ الوجبات السريعة، أي أنَّ نصف الإعلانات على التلفزيون البريطانيّ كانت مخصصةً للمواد الغذائية، ولا بُدَّ للانتشار الكبير لإعلانات المنتجات الغذائية أن يتبعهُ زيادةٌ في الاستهلاك كذلك.

تحوُّل الإنسان إلى كائنٍ استهلاكيّ

  هل تعرف شخصًا يستبدل هاتفهُ المحمول بآخر دونَ حاجةٍ لذلك؟ أو تعرف فتاة في محيطك تحاولُ تقليد الموضة أولاً بأول؟ هذا ما سنتحدَّثُ عنه هذه المرَّة ولإيصالِ الفكرة بشكلٍ أوضح دعنا نفترضُ بأنَّ امرأةً وبعدَ يومِ عملٍ شاق كانت عائدةً في طريقها إلى المنزل إلّا أنَّها لاحظتْ بأسىً أنَّ النساء في اللافتاتِ على الطريق أكثرُ سعادةً منها، وفجأةً عندَ نهايةِ الطريق انعطفت يسارًا، إنَّه ليس الطريق إلى بيتها بلْ إلى مركز التسوق، حيث السعادةُ المفقودةُ التي تنتظرها هناك، فاختيار اللافتاتِ والإعلانات ليس اعتباطيًا بل إنَّ انتقاءَ صورِ الإعلانات التجارية من منطلقِ ما ستُحدثه الصورة من تأثيرٍ في ذهنِ المتلقي بشكلٍ لا شعوري، ولأنَّ اللَّعب على المشاعر هو أسهلُ الوسائل وأكثرُها ضمانًا، تنجحُ الإعلاناتُ في بيع الشعور الذي تريده، وهو ما يسميه”بنكراد“بـ”برمجةُ الإنسان“.

  إنَّ الحملاتِ الإعلانية الحديثة بدأت بخلقِ مستوياتٍ مرتفعةٍ من الطَّلب على منتجاتٍ لم يكن المستهلك يعرف مطلقًا أنَّه يريدُها فضلًا عن حاجته إليها، ومن جانبٍ آخر يتحوَّل الاستهلاك الشَّرِه إلى جزءٍ من تكوينِ الفرد ويمارسه ليس فقط في الشراء، بل يمتدُّ للأكل والشرب ومشاهدة الأفلام وغيرها من سلوكياتٍ تُمارَس بجنونٍ وشراهة.

   غالبًا ما يهتَّم المسوقون بالإعلاناتِ التي تروّج للصور الإيجابيّة عن الاستهلاك؛ فلقدْ كان الاستهلاك للسِّلع في الماضي هو وسيلةٌ لغايةٍ ما، وهي تحقيقُ سعادةِ الإنسان أما اليوم فقد أصبح الاستهلاك غايةً في حدِّ ذاته فالإنسانُ اليوم مفتونٌ بإمكانية شراء الأشياء الجديدة والأفضل.

يقدِّم الإعلانُ وجهةَ نظرٍ عالمية تقدِّم الاستهلاك على أنَّه أمرٌ شائِع، ويبدو أنَّ الإقناعَ التِّجاري لا يؤثِّر فقط على سلوك التسوُّق واستخدام المنتجات لدينا، ولكن أيضًا على أكبرِ مجالٍ لأدوارِنا الاجتماعية، بما في ذلك استخدامُ اللُّغة والأهداف والقيم ومصادر المعنى في ثقافتنا.

   وفي دراسة أُجريَت في الريفِ الصينيّ أثبتت بأنَّ العائلات في المناطق النائية من الصين تعتبرُ الإعلان التلفزيونيّ كشكلٍ جديدٍ من أشكالِ السُّلطة الثقافيَّة في غرس فكرة أنَّ الاستهلاك يؤدّي إلى حياةٍ سعيدة، فيظلُّ المجتمعُ على الدوام منقاداً وراء هذا الوعد بُغيةَ تحقيقه في يومٍ من الأيام فالوعد بالسعادةِ حولَه في كلِّ مكانٍ على كلِّ لافتة، وفي كلِّ إعلانٍ تلفزيونيّ وعلى كلِّ موجةٍ إذاعيَّة ومرتبطٌ بكلِّ منتج (كوكا كولا السعادة، كادبوري الفرحة، الخ).

يرتبطُ الإعلانُ التجاريّ بطريقةٍ أو بأخرى بالاستهلاك، أو ما باتَ يُعرَف بمجتمع الاستهلاك والمستهلكين، حيث يوجِّه رسالةً مباشرة لهم يحفزّهم فيها على شراء المنتجات التي تتخذ من الإعلان مساقاً لها.

   عمومًا فإنَّ الظاهرةَ الاستهلاكيَّة لمْ تعدْ مجرَّد ظاهرةٍ عابرة، بل باتت جزءاً من عقليَّة الفرد في التعامل مع المفردات اليوميَّة التي يحتاجها والتي تقع خارج حاجاته ومتطلباته الأخلاقية والقيميَّة والاقتصاديَّة التي  تعملُ على تقديمِ نوعٍ من الإحساس بالتميُّز والتفوُّق للمستهلك فيصبحُ الهدفُ هو امتلاكُ السَّلعة بغضِ النَّظر عن الحاجة إليها، وتدريجيَّاً يتعوَّدُ المُستهلِكُ على متابعة حركة السوق والرغبة في الشراء، ويبحث عن أقصر الطُّرق للحصول على كلِّ ما هو جديد من سلعٍ معروضةٍ أو معلن عن طرحها في الأسواق فيهرولُ إليها مما يؤدّي إلى إصابته بحالةٍ تشبه الإدمان، فلقد صارت النَّزعة إلى الاستهلاك عنصراً ثقافيّاً مؤثّراً في اقتصاديات الدُّول، وذلك نتيجةً لما تمارسه من تأثيراتٍ قويَّة على سلوك الإنسان في اتجاه الميلِ إلى الاستهلاك، بل وجعل الاستهلاك هدفاً في حدِّ ذاته، وهنا يتحوَّل الاستهلاك من الإشباع الضروري للحاجات إلى المبالغة بشكلٍ متزايدٍ في الشراء واقتناء الأشياء، حتى يظهر الشَّخص بالشكل الذي يرغب أن يراه الناس عليه، إذاً هو يعبر عن دافعٍ نفسيٍّ أكثرَ مما قد يعبِّر عن الحاجاتِ الضروريّة المعتدلة للإنسان.

لذا يمكننا القولُ بأنَّه قد تحوَّلت العلاقة الإنسانيَّة إلى أشياء، فأصبح من الممكن عرض الأشياء كسلع وهذا ما أدّى بدوره إلى زيادة معدَّل الاستهلاك لا من أجلِ ما تحويه هذه السِّلع من المنافع، بل من أجل الاستعراضِ بُغيَة إثباتِ الوجود والحصول على الاهتمام المرجوِّ من المجتمع، أو بسبب دوافعَ اجتماعيَّة، مثل المسايرَةِ الاجتماعية، التي تعني مسايرة المجتمع في مظاهره الاستهلاكية، بغضِّ النَّظر عن الفروق المادية، فبعضُ الناسِ يريد أن يسكن في بيت مثل من هم حوله، أو أن يجدِّدَ الأثاث سنوياً، ويصبح التقليد ديدَنُه فيما يلبس الناس أو يقتنون، وفي كل المظاهر المعيشية.

  والأمرُ ينطبقُ كذلك على الموضة فتشيرُ الطبيعةُ الدَّوريَّة والمحدَّدة لملابس الموضة إلى أنَّ الناس غالبًا ما ينجذبونَ إلى”نمط“الموضة المُعاصر، وهناك من يركزون بشكلٍ كبيرٍ على ملابسهم، فأصبحَ مجرَّدُ عدم السير مع الموضة التي تُفرَض على المجتمع والتي يظنُّ أنَّه هو الذي فرضها جهلًا منه. إنَّ الوضعَ الذي ينتجُ عن الاستهلاك يدور حول الرَّغبات ويصبح تحقيقُها هو الهدف وهو في ذاتِه استعبادٌ غير محمود يبتعدُ كلَّ البعدِ عن مفاهيم الحرية التي نسعى لتحقيقها وهذا ما يجعلنا نصل إلى الفتشية السلعيّة التي يمكن تعريفها بما يلي: هي استبدال المنفعة التي تقدِّمها السِّلعة إلى مجرَّد امتلاك السِّلعة نفسها، حتّى تتحكم السِّلعة في الإنسان بدلًا من تحكُّمه فيها، وتصبحُ السِّلعة ذاتَ قيمةٍ محوريَّة في حياة الإنسان تتجاوز قيمتها الاقتصاديَّة وغرضَها الاستعمالي لكل هذا فتصبح السلعة مثل الوثن ، كلَّما زادت قيمة الأشياء التي يمتلكها الانسان زادت قيمته كذلك.

والأمر كذلك ينطبق على شركات الأدوية فاختيارك للدواء يتعلقُ بتأثير شركات الدواء العملاقةِ في قرارك.. فأيُّ دواء تتناول؟ فأكبرُ شركات الأدوية تحقِّق مبيعاتٍ ضخمة وتقوم بإعلاناتٍ بشكل ضخم كذلك، دعونا لا ننسى إعلانات الشامبو والبندول ومعجون الأسنان الذي شاهدناها عشرات أو ربَّما مئات المرّات والذي بالطَّبع يؤثِّر على اختيارنا عند الحاجة لشراء دواءٍ معيَّن أو نوعٍ من أنواع أدوات النظافة الشخصية.

عندما يتعلَّق الأمر بما نشاهده ونسمعه ونستجيبُ له بأموالنا فإن لقوة الدولار الهائلة يدٌ طُولى في سيطرة الإعلام على العقول، والشيء نفسه ينطبق على القوة الهائلة التي نضعها في أيدي عددٍ محدودٍ من الشركات المندمجة متعدِّدة الأنشطة التي تفرض علينا ما نطلق عليه اسم”البرامج الترفيهية“.

ولا بأس أن نشيرَ هنا بأنَّ الأبحاث تثبِت أنَّ الأطفال يتعلَّمون أنماط الاستهلاك من أربعة عوامل اجتماعية رئيسية: الأقران، الإعلام، والأسرة، والمدارس، ولا ننسى كذلك انتشار مواقع التواصل الاجتماعي وغيرِها التي تعدُّ من بين أهمِّ الوسائل الاتصاليَّة والتواصليَّة بين المُعلِن والمستهلك، وعنصراً فاعلاً في الترويج والتسويق بشكلٍ أكبرَ من البرامج التلفزيونية في بعض الأحيان.  

  إنَّ السُّعارَ البشريَّ الهائل حول الاستهلاك يجعلُنا نتساءل حول مدى عبوديَّة الإنسان للاستهلاك وحريَّته في اتخاذ قرارته لشراء ما يريد، فالحريَّة الإنسانيَّة لا تُقاس تَبَعاً للاختيار المُتاح للفرد، وإنّما ما يستطيع الفرد اختياره، فحرية اختيار الفرد لسادته لا تلغي لا السَّادة ولا العبيد، كذلك الاختيار بحريَّة بين تشكيلةٍ كبيرةٍ من البضائع والخدمات –التي أصبحت بفعل الدعاية حاجات– لا يعني أنَّ المرء الذي يختار هو كائنٌ حر.

   للأسف لنْ يستطيع الإنسان في مجتمع البعد الواحد من تحديدِ حاجاته الحقيقية ما داموا خاضعين للتكيُّف المجتمعي ومحرومين من الاستقلال الذاتيّ فمهما كان تحديدُهم للحاجات لن يكون نابعاً منهم. وهذا ما يجعلُنا نفكِّر مرتين حول حرية الإنسان!

* بالتعاون مع موقع عربي360

 

أضف تعليقك