سوزان سونتاغ عاشقة الحرية والملتفتة إلى آلام الآخرين

الرابط المختصر

تقول الكاتبة والمفكرة الأمريكية الراحلة سوزان سونتاغ في كتابها الصادر حديثا باللغة العربية "الالتفات إلى ألم الآخرين"، إن الإمساك بالموت وهو يحدث فعلا وتثبيته عبر الزمان أمر تستطيع أن تفعله آلات التصوير فقط، والصور التي يلتقطها المصورون في الميدان للحظة الموت أو اللحظة التي تسبقها مباشرة هي أكثر صور يحتفى بها ويعاد إنتاجها من بين صور الحرب"، تحدثت في الكتاب عن علاقتها بالكاميرا ومدى أهمية الصورة في توثيق الفظائع التي ترتكب في زمن الحروب. سوزان سونتاغ رحلت قبل عدة أسابيع إثر مرض عضال لازمها لسنوات، حيث بدأ معها في ثديها ومن ثم في باقي جسدها، حيث تعافت منه، لكنه عاد لها بعد سنوات في الدم، الأمر الذي أنهى حياة أكثر الكتاب إثارة للجدل في أمريكا، كونها عارضت حكومة بلادها في حربها على تدّعيه بالإرهاب وتدّخلها في شؤون دول العالم والحرب على العراق، ما دفع بالعديد من الأمريكيين بالامتعاض منها.



سوزان سونتاغ المولودة في عام 1935 في نيويورك لعائلة يهودية، توفي والدها وهي لم تتجاوز السادسة من عمرها، درست الفلسفة وعلوم الأدب في جامعة بيركلي وشيكاغو، ونالت الدكتوراه من جامعة هارفارد في العام 1955.



أصدرت مجموعة من الكتب، كان أغلبها مثار جدل واهتمام وانتقاد في مجتمعها الأمريكي؛ بسبب ما كنت تسوقه من أفكار مناهضة لسياسية الولايات المتحدة الأمريكية، وكونها من أوائل المثقفين الأمريكيين الذين دعوا إلى الانفتاح على الثقافة الأوروبية والعالمية، ومن إصداراتها: "ضد التأويل ومقالات أخرى"، "المرض كمجاز"، "الإيدز وتحولاته"، "عن التصوير الفوتوغرافي"، "صناعة الأدب"، "أنماط من الإرادة الراديكالية"، "قصة العين"، وفي مجال الروايات أصدرت: "الُمحسن"، "جُعبة الموت"، "عاشق البركان"، "في أمريكا"، وفي مجال القصص أصدرت: "أنا، وإلخ"، ومسرحيتين: "أليس في السرير"، و"سيدة من البحر".



حصدت سونتاغ عدة جوائز تقديرية، أمريكية وعالمية، منها جائزة السلام من قبل معرض فرانكفورت للكتاب عام 2003 ولدى تتويجها بالجائزة قالت " سأتصدى دفاعا عن الفكر الحر في عالم يزوّر الصور ويقدم الحقائق مجزأة ومقطعة".



كما منحتها مدينة سراييفو صفة مواطن شرف، وذلك بسبب مواقفها الرافضة لنزيف الصراع، إبان حرب البوسنة 1992 ـ 1955، حيث ذهبت إلى هناك وقامت بإعداد المسرحيات ومنها مسرحية بكيت ل"بانتظار غودو"، حيث عارضت سياسية الرئيس الحالي جورج دبليو بوش القائمة على أن "من ليس معنا فهو ضدنا" خصوصا بعد تنامي العداء للحكومة الأمريكية منذ الحادي عشر من أيلول عام 2001 من ضرب برجي التجارة العالميين.



تناولت في كتابيها "المرض كمجاز" 1977، و"الإيدز وتحولاته" 1989، تجربته المريرة مع المرض، ما دفع بالعديد من المفكرين إلى القول أن المرض دفع سونتاغ بعد ذلك إلى الشعور مع الآخر، انطلاقا مما كانت تعانيه.



تغوص سونتاغ في كتابها الصادر حديثا "الالتفات إلى ألم الآخرين" في معنى الموت في زمن الحروب، وتقول منذ اختراع الكاميرا في عام 1939، ظل التصوير مصاحبا للموت، لأن الصورة التي تنتجها تلك الآلة هي حرفيا أثر لشيء استحضر أمام العدسة، مستعرضة رؤياها لواقع المجتمعات التي عانت الحروب، وما لبلادها – الولايات المتحدة الأمريكية- السبب الرئيس في إشعالها.



وترى أن الشهية لرؤية الصور التي تُظهر الأجسام في حالة الألم تكاد تكون شبيهة في قوتها بالرغبة في رؤية الصور التي تظهر الأجسام وهي عارية (....)، أن صور المعاناة الآلام في الحرب تُنشر الآن على نطاق وساع جدا، بحيث أصبح من السهل نسيان متى أصبحت مثل هذه الصور شيئا متوقعا من فنانين مرموقين.



وتلفت أن الإعلام الأمريكي بقي على مدى سنوات طوال حين يعرض صور القتلى في الحروب فأنه يعرض صور الجثث التي شوهتها الحرب لكن حين يكون هناك ضحايا أمريكيين فإن الإعلام ينكفئ على نفسه ويبتعد عنها ويظهر صورا بعيدة، لكن الصورة تغيرت، إذ تقول "بحلول وقت الإنزال في فرنسا 6-يونيو 1944 ظهرت صور القتلى الأمريكيين غير المعروفين في عدد من المجلات الإخبارية، وجثثهم دائما منكفئة أو مغطاة أو أن وجوههم قد أديرت بعيدا وهذه كرامة لا يعتقد أنه من الضروري منحها للآخرين".



في ظل تصاعد الحروب وانتشارها في شتى بقاع العالم، تقول سونتاغ في كتابها "الإحساس الجمالي المعاصر هو الاعتياد بأن الحرب انحراف عن المألوف، وإن كانت حربا يتعذر وقفها. وأن السلام هو القاعدة. وإن كان يتعذر تحقيقه، وهذه بالطبع ليست الطريقة التي كان ينظر بها للحرب عبر التاريخ، فقد كانت الحرب هي القاعدة والسلام هو الاستثناء".



القضية الفلسطينية كان لها رأي حولها، فقد عارضت بشدة بناء إسرائيل الجدار الفاصل، وتعلق "الوظيفة التوضيحية للصور تهمل الآراء والتحاملات والخيالات وتضليل المعلومات دون مس، فالمعلومات القائلة بأن عدد الفلسطينيين الذين قتلوا في الهجوم على جنين كان أقل بكثير من العدد لذي أدعاه المسؤولون الفلسطينيون الرسميون كما قال الإسرائيليون طوال الوقت كان لها تأثير أقل بكثير من تأثير صور الدمار الذي لحق بوسط مخيم اللاجئين حيث تمت تسويته بالأرض. وبالطبع، فإن الأعمال الوحشية غير المثبتة في أذهاننا بواسطة الصور الفوتوغرافية أو ببساطة، لدينا صور قليلة جدا عنها تبدو أكثر بُعدا عنا، مثل الابادة الشاملة لجماعة الهيرورو في نامبيا بموجب مرسوم من الإدارة الألمانية الاستعمارية في عام 1904.



وخلاصة ما تقوله حول مراجعة الذات الأمريكية "من المحتمل، إذا كنا أمريكيين، أن نعتقد أنه من المزعج أن نبتعد عن دربنا لننظر إلى صور الضحايا المحروقين بالقنابل الذرية وإلى النسيج الجلدي المقصوف بالنابلم للضحايا المدنيين في الحرب الأمريكية على فيتنام ولكن علينا أن نعتقد أن علينا واجب النظر إلى صور الإعدام إذا كنا ننتمي إلى حزب ذوي التفكير السليم، الذي هم، بالنسبة لهذه القضية، كثيرون جدا الآن".



عاشت سوزان سونتاغ حياتها مدافعة عن آلام المقهورين والمعذبين في العالم، تحارب الظلم وتساند المقهورين، وطالبت مرارا عدم مساندة إسرائيل في بناءها لجدار الفصل العنصري والأسلوب القمعي الذي تعامل به الشعب الفلسطيني، رغم ذلك، أثار قبولها جائزة القدس العبرية انتقاد الكثيرين.



لدى صدور كتابها " الالتفات إلى ألم الآخرين" بالعربية، عن دار أزمنة للنشر والتوزيع، وقبل موتها بفترة وجيزة، كُتب على مقدمة الكتاب "كان من المفترض أن يصدر الكتاب قبل شهور من تاريخ طباعته – وهو آخر ما نشرته سونتاغ- وقد تصدرته كلمة خاصة بهذه الطبعة العربية المترجمة، إلا أن ظروف انتكاستها الصحية الأخيرة إثر إصابتها بسرطان الدم، ودوام مكوثها في المستشفى خاضعة للعلاج حتى الآن، حالت دون تلبية ذلك.



"ونحن في دار الأزمنة، نأمل أن يترافق خروج هذا الكتاب من المطبعة وقد استعادت سوزان سونتاغ عافيتها وتسلّمت نسخة منه تقديرا لها وامتنانا لمواقفها، وتهنئة بسلامتها في الوقت نفسه"، لكن لم يسعفها المرض كي طبعة كتابها باللغة العربية.



لياس فركوح، الروائي، صاحب دار أزمنة، يقول أن وفاة سوزان سونتاغ لم يكن لها الوقع الصادم أو المفاجئ، لأن ذلك متوقعا منذ أشهر طويلة، "لم يكن وقع الخبر صادم لي لأني كنت على توقع وانتظار لوفاتها وكون سوزان سونتاغ عانت في الفترة الأخيرة من حياتها بمرض سرطان الدم المعروف بـ"اللوكيميا"؛ وهي المرة الثالثة التي تصاب بالسرطان، فقد أصيبت قبل ذلك بسنوات في السبعينيات والثمانينيات بالسرطان في الثدي وفي أماكن في أخرى بجسدها، حيث استفادت من أصابتها بالمرض فألفت كتابين حول هذا الموضوع، مشخصة المرض من وجهة نظر مثقفة، وداعية أن المرض يجب أن لا نتعامل معه كمجاز".



تكمن أهمية سوزان سونتاغ في كونها من أهم المثقفين في الولايات المتحدة الأمريكية، هي التي كان لها الرأي الرافض لحروب الولايات المتحدة ضد الشعوب، وخاصة في مسألتي فيتنام في الستينيات، وحرب سراييفو في التسعينيات، يضيف فركوح "كانت من الجرأة بمكان؛ أن سافرت إلى هانوي وزارت المناطق المدمرة وكتبت كتابا باسم (رحلة إلى هانوي) وكان هذا بمثابة الإعلان الثقافي لمجموعة من المثقفين الأمريكيين المناهض لحرب فيتنام، وللمبررات التي ساقتها الإدارات الأمريكية المتعاقبة لاستمرار تلك الحرب".



إلى ذلك، كان لها موقف رافض للغزو الأمريكي الأخير للعراق، "كتبت أكثر من مادة ومن مقال في أشهر الصحف الأمريكية و"نيويورك تايمز" على وجه التحديد، تندد بهذه الحرب وتندد بأسبابها، رغم أنها لم تكن مع النظام العراقي، فقد كانت مع الشعب العراقي، كبقية الشعوب التي وقفت إلى جانبها، وكان آخر موقف لها في هذا الصدد، موقفها من حصار سراييفو وبقائها مع المحاصرين، ما يقارب الثلاث سنوات، حيث قدمت هناك عدة خدمات ثقافية، كان أبرزها أنها أعادت صياغة ومسرحة النص الشهير مسرحية صمويل بيكت "في انتظار غودو"، حيث قدمته على مسرح سراييفو أثناء المعارك والحصار وأثناء القتل اليومي، وكان من نتيجة ذلك أن نالت شرف منحها لقب مواطنة شرف لمدينة سراييفو من قبل سكانها".



على الصعيد السياسي في حياة سونتاغ، يقول الياس فركوح "لا أستطيع أن أجزم إن كان لسوزان سونتاغ التأثير المرجو على الواقع الاجتماعي الأمريكي، فالمجتمع الأمريكي مجتمع عريض وواسع وممتد وله مشارب شتى والجميع يعرف أن المواطن الأمريكي العادي بعيد كل البعد عن ما يجري خارج قارته، وبالتالي يتعامل مع دولته أمريكا على أنها مركز الكون، وثمة محيطات تعزله عن بقية العالم، لكن لا شك أن مواقف سونتاغ وطبيعة وتميز شخصيتها التأثير الكبير على جيل من الشباب".



وعلى الصعيد الثقافي، "يذكر لسوزان سونتاغ أنها كانت من أوائل المثقفين الأمريكيين الذين فتحوا أبواب ونوافذ الثقافة الأمريكية على رياح الثقافة الأوروبية؛ التي كانت مجهولة لدى المثقف الأمريكي والمواطن الأمريكي، ولكي لا أنسى، أذكر أن بموقف سونتاغ المتميز فيما يتعلق بسياسة إسرائيل التوسعية في الأراضي المحتلة عام 1967 ورفضها القاطع لإنشاء المستوطنات على تلك الأراضي، حيث رأت أن في ذلك عقبة كبيرة في أداء التسوية السياسية المستقبلية بين الشعب الفلسطيني والإسرائيلي، ومن جهة أخرى نددت بالجدار الفاصل الذي أقيم مؤخرا على أراضي الضفة الغربية، رغم أنها قبلت وذهبت واستلمت جائزة القدس".



وهذا ما أثار ردود فعل غاضبة في الأوساط الأدبية العالمية المناهضة للجرائم الإسرائيلية ضد الشعب الفلسطيني؟



"غاضبة ومستاءة حتى من جاليات كثيرة يهودية، وخاصة الجالية اليهودية في استراليا، حيث وجهت لها رسالة أبدت فيها امتعاضها من قبولها لهذه الجائزة".



وحول كتابها الذي صدر في طبعته العربية "الالتفات إلى ألم الآخرين" الصادر عن دار أزمنة؟



"كتابها صدر في طبعته الإنجليزية عام 2003، وكانت في حوار سابق عقب صدوره، أنه خلاصة مجموعة ملاحظات كانت قد دونتها عن الحروب بشكل عام والقتل وتجلى ذلك كله بالصورة إن كانت تلك الصورة ثابتة أو متحركة، بمعنى أنها هل هي بالصحافة والمجلات أو بالتلفزيون ووسائل الاتصال الأخرى مثل الإنترنت".



ويرد "هذا الكتاب، أهميته تكمن في أنها تناقش أن الآلام التي يعاني منها الآخر؛ الذي هو ليس أنا، باتت لا تعني شيئا لمن يراها ويشاهدها على التلفزيون أو بالصحيفة، كونه في مأمن من جحيم تلك الحروب، وبالتالي كانت تركز على أن ثمة صور متحركة أو غير متحركة، يجب أن يرافقها شرح واضح ووافي، بحيث أنها تضع المشاهد الرائي إلى هذه الصور في مناخ وجو الصورة، لكي تنقل على الأقل جزء ما ولو يسير من تلك المعاناة، وبدأت الكتاب بمناقشة مقولة فرجينيا وولف، في واحد من كتبها وهو "ثلاث جنيهات" التي تقول فيها بأن الحرب هي من صنع الرجال وأن النساء يتخندقن في الاتجاه الآخر، بينما كان أحد المحامين البريطانيين المشهورين قد وجه لها رسالة قال فيها نحن معا رجالا ونساء نقف ضد الحروب ونشجبها...وبالتالي بدأت تناقش الحروب كفكرة، وهل ثمة إمكانية إلغائها من التاريخ، لكنها وصلت إلى نتيجة ضمن المعطيات التاريخية، بأن القائم كما يبدو التاريخ هو الحرب والاستسلام هو السلام".



هل هناك نية لترجمة باقي كتبها؟



"بدأت الفكرة تختمر، إثر صدور الكتاب المنوه به "الالتفات إلى ألم الآخرين" وجملة التعليقات التي وصلتني – وهي قليلة حتى الآن- تؤكد وتجمع على أن هذا الكتاب بحد ذاته يحمل أهمية استثنائية، وأن هذه الكاتبة ضمن سيرتها الذاتية أيضا تحمل هذه القيمة، لذلك بدأت أفكر بالاتصال بالمعنيين وأولهم ابنها الصحفي المعروف دريف، للاتفاق على ترجمة بعض الأجزاء من كتابها "ضد التأويل" تحديدا، حيث برزت كمثقفة ريادية ناقشت طروحات أوروبية ثقافية متنوعة".





وينوه فركوح أنه كان من المفترض أن يصدر هذا الكتاب قبل شهور من تاريخ طباعته (وهو آخر ما نشرته سونتاغ) وقد تصدرته كلمة خاصة بهذه الطبعة العربية المترجمة، إلا أن ظروف انتكاستها الصحية الأخيرة أثر إصابتها بسرطان الدم، ودوام مكوثها في المستشفى خاضعة للعلاج حتى الآن، حالت دون تلبية ذلك، لكن القدر لم يجعلها ترى كتابها بالطبعة العربية.


أضف تعليقك