سرّ الرقم الأردنيّ

الرابط المختصر

يتذكّر أردنيون كثيرون التغريدة الجدلية لشاب أردني اسمه قتيبة، وهو طالب جامعي، خاطب رئيس الوزراء الأردني الجديد، حينها، عمر الرزّاز، متسائلاً، فيما إذا كانت الهجرة هي الحلم الوحيدة المتاح للشعب الأردني، وأنّها المفتاح الرئيس للخلاص، أم أنّ حكومة الرزّاز (وكانت حينها في ذروة الشعبية بعد استقالة حكومة سلفه على أثر احتجاجات شعبية كبيرة في صيف 2018)، ستعيد الأمل للشعب ولجيل الشباب بخاصة.

 

جاوب الرزّاز مباشرة قتيبة، طالباً منه العدول عن فكرة الهجرة، والبقاء في الأردن، والتفرّغ لمرحلة البناء وتحقيق الحلم في الداخل. وأصبح موضوع هجرة قتيبة بمثابة وسم (هاشتاغ) محبب لدى الأردنيين؛ لكن الأغلبية كانت تنصح الشاب الصغير بالهجرة، وكان واضحاً أنّ الحالة السلبية تطغى على المزاج الاجتماعي العام، وهي الحالة التي يكشف التقرير الصادر أخيراً لـ"الباروميتر العربي"، وهو شبكة بحثية مستقلة، (يوليو/ تموز 2022) أنّها في تدحرج مستمرّ وخطير نحو السلبية وفقدان اليقين والأمل أكثر وأكثر.

هل تتخيّلون أنّ أكثر من نصف الأردنيين يفكّرون في الهجرة؟ ليس السفر فترة مؤقتة أو العمل، بل هجرة كاملة، وبذلك تكون الأردن الدولة العربية الأولى من حيث الرغبة في الهجرة، مقارنةً بالدول العربية الأخرى (الاستطلاع شمل عشر دول عربية: مصر، المغرب، فلسطين، العراق، الأردن، لبنان، ليبيا، تونس، موريتانيا، السودان)، حتى الدول التي عانت من حروبٍ داخلية وأزمات إنسانية، كالتشريد والمجاعة والمفخّخات والانقسامات والاحتلال والطائفية!

 

لو قرأ شخصٌ غربيٌّ غير مطّلع الأرقام السابقة؛ ورأى الأردن على رأس القائمة، من المنطقي أن يكون الحدث في الأردن خلال الأعوام الماضية أكبر بكثير من المشكلات السابقة؛ فما هو هذا السرّ بهذا المزاج الأردني المتهافت على الهجرة؟ دعونا ندخل أكثر في أرقام الاستطلاع لنجد أنّ قرابة 93% من الأردنيين، الذين يفكّرون في الهجرة يرجعون ذلك إلى أسباب اقتصادية، وهو أمرٌ يمكن فهم أبعاده مع ارتفاع كبير في نسبة الشباب الأردني العاطل من العمل، حتى وصلت النسبة، في بعض القراءات، إلى 50%، ومع ارتفاع الأسعار وتكاليف الحياة بصورة ملموسة وملحوظة في عمّان، خصوصاً إذا نظرنا إلى أرقام أخرى في الاستطلاع، تقول لنا إنّ النسبة الكبرى من الأردنيين الذين يفكّرون في الهجرة هم من جيل الشباب (18 - 29 عاماً)، وتصل إلى الثلثين 63%، ويمكن أن يضاف إليها رقم لافتٌ آخر، أنّ 56% من هؤلاء هم من الشباب الحاصلين على التعليم الجامعي.

 

بالعودة إلى سرّ الرقم الأردني؛ وبالرغم من أن شبه الإجماع في الجواب عن سبب الهجرة كان "الاقتصاد"، إلّا أنّ المسألة تستدعي التفكير أكثر وبعمق؛ فبالرغم من الظروف الاقتصادية في الأردن، إلّا أنّ الحالة الاقتصادية لنسبة كبيرة من الناس أفضل من أغلبية الدول العربية التي جاءت بعد الأردن في الرغبة بالهجرة، سواء تحدّثنا على صعيد الخدمات الأساسية المقدّمة، أو على صعيد متوسط الدخل، أو حتى على صعيد التعليم والحياة الجيدة. ربما الحالة الأردنية متقدّمة كثيراً في الآونة الأخيرة في أزمة البطالة، لكن الاقتصاد الأردني لم يصل إلى ما وصل إليه الاقتصاد اللبناني مثلاً، ولا الطبقة الفقيرة أردنياً وصلت إلى الحالة المصرية، ولم تعانِ خدمات الكهرباء من انقطاعات متكرّرة هائلة في لهيب الصيف كما هي الحال في لبنان والعراق.

 

فوق ما سبق كلّه، الفترة التي أجري فيها الاستطلاع (أكتوبر/ تشرين الأول 2021 – يوليو/ تموز 2022) هي مرحلة اللجان الإصلاحية التي تشكّلت لتحديث المنظومة السياسية (ووضعت تعديلات جوهرية على قوانين الانتخاب والأحزاب، وأعلنت برنامجاً للتحوّل نحو الحكومات الحزبية) ولجنة الرؤية الاقتصادية المستقبلية. بالرغم من ذلك، لم تستطع هذه الإجراءات أن تحدّ من المزاج السلبي في الشارع الأردني، ولا التخفيف من فجوة الثقة المتنامية بين الحكومات والشارع!

 

لا تخرُج هذه الرغبة في الهجرة عن سياق ملحوظ في الأردن يهيمن على المزاج العام؛ يتمثل بالإحباط وخيبة الأمل والقلق لدى شريحة اجتماعية واسعة، فإذا كان الاقتصاد رأس جبل الجليد في هذه الحالة الذي يمكن أن نراه، فإنّ العلاقة بين الدولة والمجتمع بأبعادها المتعدّدة هي الجزء الغاطس من هذا الجبل.