ستراتيجيكس: رسالة نهاية العام 2024 وأولوية الاستشراف في عالم معقد ومشهد إقليمي متشابك

الرابط المختصر

شكل العام 2024؛ اختباراً لمعهد ستراتيجيكس من أجل تقييم دقة المنهجيات التي صاغها على مدار الأعوام الماضية، ومسرحاً عملياتياً لتوظيف الخبرات المُتراكمة لدى كوادره؛ خاصة في استنباط النتائج وتوقع الاتجاهات بخصوص كل حدث وقضية، وكانت النتائج المُتحصلة واعدة للغاية؛ سواء من حيث وتيرة الإنتاج البحثي أو من حيث دقة التوقعات.

شكل العام 2024 مثالاً مًتجدداً لواقع الشرق الأوسط المضطرب، والترابط الشديد بين قضاياه وملفاته، وما يترتب عنها من تداعيات وهزات ارتدادية تصل بصداها إلى مختلف دول المنطقة والعالم، إذ ترتب عن الحرب في قطاع غزة والتي اندلعت منذ 7 أكتوبر 2023 بعد هجمات حركة حماس على مستوطنات وقواعد غُلاف غزة، تداعيات إقليمية ودولية مُستمرة ومُمتدة للعام 2025 ورُبما ما بعده. خاصةً بعدما جسدت الحرب التطبيق الأول والأوسع لاستراتيجية "وحدة الساحات"، إذ انخرطت ساحات ثانوية في الحرب؛ من أطرافها حزب الله اللبناني والحوثيين في اليمن والفصائل المسلحة العراقية، وقد لفتت تلك المُشاركة أنظار العالم أجمع، لما أنطوى عنها من مخاطر اندلاع حرب إقليمية أوسع.

لقد جاءت أحداث العام الماضي استمراراً لهجمات أكتوبر ولتُحدد بشكل أكثر وضوحاً تطبيقات وحدة الساحات، وبينما شكلت تلك الأحداث وما تلاها عنصراً للمفاجأة لدى أغلب المتابعين والمختصين وحتى صُناع القرار، كان معهد ستراتيجيكس مُتابعاً بدقة لتداعياتها، فقد كان من أوائل من سلط الضوء على "وحدة الساحات"، سواء من قبيل الخطوات الإيرانية أو الإجراءات الإسرائيلية المضادة لها قبل الحرب، وما بعدها رافقت مخرجات المعهد تطور تلك الاستراتيجية، وصولاً إلى التنبؤ بانفصالها واستقلالها بالأهداف والمصير. وبعد قُرابة العام من ذلك التنبؤ؛ أخرجت الضربات الإسرائيلية حزب الله اللبناني من مُعادلة الساحات، تبعها التحرك الذي قادته "هيئة تحرير الشام" وأدى إلى تغيير النظام في سوريا وإخراجها من دائرة النفوذ الإيراني علماً بأهمية الجغرافيا السورية المحورية والأساسية في استراتيجية "وحدة الساحات"، وتلك التحولات التي جاءت ضمن ارتدادات الحرب في قطاع غزة، تُغير من توازن القوى في الشرق الأوسط الذي تأسس منذ عام 2003، وقد تفرض تحولات على ترتيبات الأحلاف والاصطفافات في دول المنطقة.

في الواقع؛ تُعد الحرب في قطاع غزة وارتداداتها مثالاً على التعقيدات التي تُحيط بمختلف قضايا وصراعات الشرق الأوسط، وأوضحت التحدي الرئيس الذي يواجه الساسة في تقديم التنبؤات وسط بيئة تتسم بسرعة التحول والتغيير، إذ يحتاج صُناع القرار لتنبؤات واقعية وعلمية مستنيرة؛ تُسهم في صياغة استجابة واضحة للتحديات والتأثيرات السلبية طويلة الأمد والتحولات الدراماتيكية الناتجة عن الحرب، وبشكل عام بدا واضحاً ما يرتبط بالحرب من مخاطر ناشئة تتطلب الاستجابة لها بشكل فعال. وفي هكذا ظروف؛ تبرز أهمية مراكز الفكر والأبحاث فيما يتصل بتقييم الأحداث الناشئة واستشرافها وتقديم السياسات المناسبة للاستجابة لها، حيث لا يُفترض بهذه المؤسسات أن تبقى مُنعزلة عن الأحداث الجارية والجديدة. وانطلاقاً من ذلك؛ عمل معهد ستراتيجيكس بنشاط من أجل تطوير منهجيات قادرة على تقييم العوامل وتحديد الاتجاهات والسيناريوهات والمسارات، فقد طورنا أوراق تقدير الموقف بشكل يُعزز من الجوانب الاستشرافية تجاه الأحداث المُتسارعة، وتمّ إدراج المسارات والاتجاهات إلى جانب النمط الكلاسيكي لتقديرات الموقف المُعتمد على السيناريوهات؛ مما أتاح ذلك تتبع مسارات الأحداث وفق سلسلة منضبطة من تطورات كل حدث وتداعياته.

عام من الإنجازات

شكل العام 2024؛ اختباراً لمعهد ستراتيجيكس من أجل تقييم دقة المنهجيات التي صاغها على مدار الأعوام الماضية، ومسرحاً عملياتياً لتوظيف الخبرات المُتراكمة لدى كوادره؛ خاصة في استنباط النتائج وتوقع الاتجاهات بخصوص كل حدث وقضية، وكانت النتائج المُتحصلة واعدة للغاية؛ سواء من حيث وتيرة الإنتاج البحثي أو من حيث دقة التوقعات.

فمن جهة غطى المعهد بشكل مكثف معظم مستجدات المنطقة والقضايا الدولية الرئيسة؛ بدءاً من تطورات الحرب في قطاع غزة، والحرب في لبنان، وسقوط النظام في سوريا، والتحولات في الداخل الإيراني بعد وفاة إبراهيم رئيسي، وصعود الإصلاحيين إلى الرئاسة، وانعكاس ذلك على إيران التي تواجه استحقاقاً داخلياً يتمثل بمسألة خلافة المُرشد التي كان "رئيسي" أحد أبرز الشخصيات المُرشحة لها، وتحولات خارجية تتمثل في تحجيم الدور الإيراني في دول مثل لبنان وسوريا، وبشكل غيّر من وزن طهران الإقليمي، بالإضافة إلى تغطية التحولات في الداخل الإسرائيلي؛ سواء من حيث العلاقات بين المستويين العسكري والسياسي، والعلاقات بين الأكثرية والمعارضة، والعلاقة ما بين الدولة والمجتمع، وكذلك العُلاقة ما بين إسرائيل والخارج؛ لا سيما أن الحرب في قطاع غزة جددت الجدل العالمي حول السياسات والإجراءات الإسرائيلية بحق الفلسطينيين في غزة والضفة الغربية، وبشكل دفع دول عدة من العالم مُراجعة علاقاتها مع إسرائيل وموقفها من القضية الفلسطينية، خاصة بعدما صدر عن المؤسسات القضائية الأممية من قرارات، ومن بين تلك الدول الولايات المتحدة التي مضت بموقف مُتغير تجاه الحرب أثناء إدارة الرئيس جو بايدن، ويُرجح أن يشهد تحولاً مع فوز دونالد ترامب في الانتخابات الرئاسية. بموازاة ذلك؛ واكب المعهد المناسبات الانتخابية الأبرز حول العالم؛ لا سيما الانتخابات النيابية الأردنية التي شهدت للمرة الأولى مُشاركة حزبية واسعة، وانتجت مشهداً نيابياً تُسيطر عليه الأحزاب، وتابع التحولات الدراماتيكية في كل من بريطانيا وفرنسا بعد فوز اليسار في الانتخابات البرلمانية بالدولتين ليُعود إلى الأكثرية بعد عقود من الغياب عن المشهد. وفي ضوء المشهد الأمني الدولي المعقد والمتشابك ظلّت المخاطر التي تمثلها الجماعات الإرهابية والفواعل ما دون الدولة  قائمة، بعد أن نفّذ تنظيم داعش هجمات دموية في قاعة كروكوس للحفلات الموسيقية في موسكو، تبعه هجوم على أحد مساجد منطقة الوادي الكبير بمدينة مسقط.

بالمجمل؛ نشر المعهد 65 منتجاً بحثياً، توزعت بين أوراق تقدير موقف وتحليلات سياسية ومقالات رأي ومواد بتصنيف "عدسة ستراتيجيكس" واستطلاع واحد لقادة الرأي في الأردن، تضمنت جميعها قراءات حول مستقبل الأحداث وشكل التفاعل الدولي والإقليمي والأممي معها، مع تصورات استشرافية للمسارات الميدانية وأخرى سياسية، إذ تضمنت أوراق تقدير الموقف الخاصة تغطية الحرب على 51 سيناريو ومسار، تحقق منها 17 على أرض الواقع، بالإضافة إلى 12 سيناريو كانت ضمن مستوى الأكثر ترجيحاً وأصابت بنسبة 100%؛ بالإضافة إلى تحقق 8 تنبؤات تضمنتها أوراق تحليل السياسات.

من بين العديد من القراءات المحققة؛ كان الإشارة إلى نوايا إسرائيل بفرض حصار شامل على قطاع غزة بعد هجمات أكتوبر، وتوقع توسع الحرب باتجاه ساحات جديدة خاصة في لبنان، وترجيح استئناف الحرب ما بعد الهدنة في نوفمبر 2023، والتوقع مُبكراُ بانفصال ساحات الحرب في أهدافها وسرديتها، وفي موضوع مُختلف قدر المعهد صعوبة الانسحاب السريع للقوات الأمريكية من العراق بخلاف ما كان مُتداولاً حينها.

وفيما يتعلق بالسيناريوهات الأكثر ترجيحاً؛ رجح المعهد أن يقتصر الرد الأمريكي على هجوم قاعدة البرج (22) بتنفيذ سلسلة ضربات ضد كتائب حزب الله العراقية، وأشار إلى التعقيد ساري المفعول الذي يُحيط بالتوصل إلى اتفاق يوقف الحرب في قطاع غزة، وتوقع تغير المعادلة القائمة في إيران بترجيح مُبكر بفوز المرشح الإصلاحي مسعود بزشكيان، ومنذ يونيو 2024؛ كان وارداً للمعهد توجه إسرائيل لشن مناورة عسكرية برية محدودة في جنوب لبنان، قدرنا انتهاءها بتدخل أمريكي ودولي يقود إسرائيل وحزب الله نحو مسار دبلوماسي، إذ تزايدت مؤشرات ذلك خلال شهر سبتمبر 2024، بذهاب إسرائيل لتنفيذ عملية برية تؤدي إلى إنشاء حزام آمن حتى نهر الليطاني، ورفع مستوى الضغوط على حزب الله وبما يحد من قدرته على التعافي وإعادة تنظيم صفوفه، وفي مرحلة لاحقة من انطلاق تلك العملية؛ أشار المعهد للمرة الأولى للمخططات إسرائيلية للحفاظ على حرية عملياتية عسكرية في جنوب لبنان مع ترجيح موافقة الطرفين على العمل بالقرار 1701 مع توقع بقاء بعثة اليونيفيل بعد إدخال تعديلات على آليات تنفيذها.

وعلى المنوال ذاته؛ طرح المعهد تنبؤات فاعلة ودقيقة، من بينها التنبؤ بعدم نجاح خطة بايدن لوقف إطلاق النار، وطرح احتمالات مغادرة مكتب حماس السياسي من الدوحة، وإبراز التحديات التي تُعرقل عودة العلاقات التركية مع النظام السوري السابق، والتنبؤ بعودة الاغتيالات لقادة حماس في الداخل والخارج، وتقدير ألا تؤدي سلسلة التصعيد اللاحقة لهجوم "مجدل شمس"، إلى حالة حرب أو اشتباك واسع بين حزب الله وإسرائيل في ذات فترة الهجمة، بالإضافة إلى توقع محاولات حركة "حماس" شن هجمات نوعية في الداخل الإسرائيلي بعد اختيار يحيى السنوار رئيساً سياسياً لها، والإشارة إلى ضعف احتمالات الدول الوسطاء الثلاث بوقف الحرب بعد بيانها المشترك في 8 أغسطس، وكذلك توقع أن تطلق إسرائيل هجومها الثاني على إيران من أراضيها مرورًا بأجواء سوريا والعراق، وتوقعه ارتكاز الضربة على مواقع الصناعات العسكرية والدفاعات الإيرانية.

وبالنظر إلى ما تحقق؛ وما أظهرته تلك النتائج من فعالية ومرونة في التكيف مع المشهد المتغير للشرق الأوسط، يدخل معهد ستراتيجيكس العام 2025، بتطلعات واعدة وطموحات كبيرة، إذ يُشرف المعهد على إحداث نقلة نوعية في هويته البصرية وبصمته التحريرية. فمن جهة الهوية يسعى المعهد لمواكبة التطورات التكنولوجية حول العالم، وتحقيق الاستفادة القصوى من استخدامات الذكاء الاصطناعي، ويدعم الموقع الإلكتروني الجديد المُخطط إطلاقه مطلع العام 2025، في صورته وافتتاحيته وأدواته التوظيف الأفضل للتكنولوجيا الحديثة، لا سيما في تطور طرق عرض الأوراق وتعدد وسائل استعراضها المرئية والمسموعة والمقروءة. ويسعى المعهد من خلال تطوير هويته الانخراط في مختلف وسائط الإعلام الجديد، في شمول الموقع الإلكتروني الجديد على مساحات خاصة في البودكاست والنقاشات المفتوحة ومساحة خاصة للخبراء، والذي سيشهد عند انطلاقه برامج مُتعددة تطرح أراء سياسية نوعية ونافذة لتسهيل وصول المعلومات إلى جمهورنا.

من جهة أخرى؛ يتطلع معهد ستراتيجيكس إلى تقديم منهجيات بحثية جديدة إلى جمهوره، إذ نضع ضمن أهدافنا تطوير أدواتنا البحثية والمنهجية، والتوسع في نطاقات العمل البحثي من الاستشراف إلى تطوير آليات دعم قُدرات صناع القرار في دول المنطقة لتحديد نتائج سياساتهم وبدائلها وتعزيز قدراتهم على الاستجابة للتغيرات في المشهد الإقليمي والدولي.

إن تقديم المقترحات قبل صياغة صناع القرار للسياسات، يعدّ دوراً محورياً وأساسياً لمراكز الأبحاث، ويُساعدنا في ذلك الهدف التقييم الواسع لنتائج أبحاثنا واستشرافنا لكثير من الأحداث والسيناريوهات النوعية. إن المقترحات التي نتطلع إلى تقديمها؛ تتعلق بالبدائل القابلة للتطبيق، أو تلك التي ينبغي تفاديها، أو بمجموعة البدائل المتوفرة وتحديد المسارات المرتبطة بكل بديل. إن هذا الاجتهاد من المُرجح أن ينعكس بشكل إيجابي في دعم مسارات الاستقرار الوطنية والإقليمية، مستندين على الدقة والاستقلالية التي يحظى بها المعهد، والتي ظهرت تبعاً لنتائج مخرجاته وموضوعية طروحاته، لذلك أصبحت تطلعاتنا أكثر واقعية وعملية.