ستراتيجكس: خريطة عسكرة البحر الأحمر ومعالم الصراعات القادمة
تحليل سياسات يتناول الحضور العسكري الأمريكي والغربي في البحر الأحمر لمواجهة الهجمات الحوثية هناك، ويجيب على عدد من الأسئلة حول دلالات ودوافع الحشد العسكري غير المسبوق في البحر الأحمر؟ وهل يتناسب ذلك مع حجم التهديدات الحوثية على التجارة الدولية؟
امتدت تداعيات الحرب في قطاع غزة لتطال البحر الأحمر ومضيق باب المندب، والذي يشهد حضوراً عسكرياً أمريكياً ودولياً مُكثفاً بدافع الاستجابة للهجمات الحوثية ضد السفن الإسرائيلية أو المرتبطة بها، وتوسيع الولايات المتحدة قائمة الفاعلين في البحر الأحمر بعد إعلانها عن تشكيل قوة بحرية دولية أطلقت عليها اسم "حارس الازدهار" في 19 ديسمبر 2023، بمشاركة أكثر من 20 دولة، وتنفيذها إلى جانب بريطانيا سلسلة من الضربات العسكرية ضد أهداف تابعة للحوثيين منذ 18 يناير 2024. وذلك ما يطرح تساؤلاً حول دلالات ودوافع الحشد العسكري غير المسبوق في البحر الأحمر؟ وهل يتناسب ذلك الحشد مع حجم التهديدات الحوثية على التجارة الدولية؟
التواجد العسكري الغربي في البحر الأحمر
إن الحضور العسكري الأمريكي والدولي في البحر الأحمر سابق بعقود للحرب في غزة، ففي العام 2001 أسست الولايات المتحدة القوة البحرية المشتركة (CMF) بمشاركة مجموعة من الدول المتحالفة، من ضمنها حلف شمال الأطلسي، وقد شكلت القوة البحرية المشتركة الأكبر في العالم، والتي يقودها قائد الأسطول الخامس ومسؤول القيادة المركزية للقوات البحرية الأميركية براد كوبر، وتضم تلك القوة البحرية المشتركة مجموعة من خمسة أساطيل وهي: "قوة المهام المشتركة 150" وهو تحالف من 25 دولة لمواجهة تهديدات الإرهاب الدولي ومقره في البحرين. و"قوة المهام المشتركة 151" التي تشكلت في يناير 2009، لمكافحة القرصنة، و"قوة المهام المشتركة 152" التي تعمل في مياه الخليج، و"قوة المهام المشتركة 153" التي تأسست في أبريل 2022 لحماية البحر الأحمر، و"قوة المهام المشتركة 154" التي تأسست في مايو 2022 لتعزيز الأمن البحري في الشرق الأوسط. وفي العام 2009 أطلق الاتحاد الأوروبي عملية "يوناففور أتلانتا" لمكافحة القرصنة في مياه الصومال، بمشاركة إسبانيا وألمانيا والسويد واليونان وبريطانيا وبلجيكا، وفرنسا، وهولندا، وتضمنت نشر ست سفن وثلاث طائرات استطلاع ونحو 1200 فرد.
وفي مرحلة سابقة للحرب في غزة، عززت الولايات المتحدة من حضورها العسكري البحري في المنطقة، ففي أغسطس 2023 انضم أكثر من 3 آلاف جندي مارينز، وسفينة الهجوم البرمائي باتان (USS Bataan)، التي تحمل على متنها أكثر من 24 طائرة، وسفينة الانزال البحري كارتر هول (USS Carter Hall)، إلى الأسطول الخامس الأمريكي، للرد على المضايقات الإيرانية حينذاك للسفن التجارية.
لكن بعد الحرب في غزة، حركت الولايات المتحدة عدد ضخم من قطعها البحرية تجاه شرق البحر الأبيض المتوسط والبحر الأحمر، ففي 10 أكتوبر انضمت الغواصة النووية من طراز "أوهايو" (USS Ohio) إلى منطقة مسؤولية القيادة المركزية الأمريكية، وفي 5 نوفمبر وصلت مجموعة القوة الضاربة بقيادة حاملة الطائرات أيزنهاور (USS Dwight D. Eisenhower) إلى الشرق الأوسط، إلى جانب طراد الصواريخ الموجهة فلبين سي (USS Philippine Sea)، ومدمرة الصواريخ الموجهة غرافلي (USS Gravely) والمدمرة ميسون (USS Mason) والجناح الجوي الناقل الثالث، مع تسعة أسراب من الطائرات. فيما تمركزت مجموعة القوة الضاربة لحاملة الطائرات جيرالد فورد (USS Gerald R. Ford) شرقي البحر الأبيض المتوسط قبل عودتها إلى قاعدتها في الولايات المتحدة مطلع يناير 2024.
ومع إطلاق العملية متعددة الجنسيات المعروفة باسم "حارس الازدهار" لمواجهة الهجمات الحوثية في البحر الأحمر، عززت الدول المشاركة من قطعها البحرية في البحر الأحمر، إذ أرسلت بريطانيا المدمرة ريتشموند (HMS Richmond) لتنضم إلى المدمرة دياموند (HMS Diamond) والفرقاطة لانكستر (HMS Lancaster) المتواجدتين ضمن مهام فرقة العمل المشتركة 150، إلى جانب ثلاث سفن لإزالة الألغام وسفينة دعم تتبع الأسطول الملكي البريطاني. ويوجد لفرنسا سفتين وهي الفرطاقة لانغودك (Languedoc) متعددة الأغراض، وسفينة الإمداد جاك شيفولييه (Jacques Chevalier)، وقد أعلنت هيئة الأركان الفرنسية في 25 يناير، عن إرسال سفينة ثالثة إلى المنطقة وهي الفرقاطة ألزاس (Alsace). ولدى إسبانيا وإيطاليا سفينة واحدة في المنطقة، وأعلنت سريلانكا عن نيتها إرسال سفينة بحرية، إضافة إلى ثلاث سفن تحمل أعلام الاتحاد الأوروبي لدعم التحالف. وتدرس دول الاتحاد الأوروبي مقترحا رسمياً تم نقاشه خلال اجتماعهم الشهري في بروكسل في 15 يناير، للتحرك من خلال قوة عسكرية في البحر الأحمر، تتضمن المدمرات والفرقاطات وطائرات الإنذار المبكر، ووفقاً لمنسق السياسة الخارجية بالاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل، "لم تعارض أي دولة الاقتراح".
المخاطر المرتبطة بالبحر الأحمر
في نوفمبر 2023، أشار التقرير السنوي لوزارة الخارجية الأمريكية عن الإرهاب، إلى التحول في السياسة الأمريكية من النهج العسكري المركزي، إلى الأولوية الدبلوماسية وبناء القدرات الوقائية للحلفاء. إلا أنه وبعد فترة وجيزة من إصدار ذلك التقرير، تعمل الولايات المتحدة على تعزيز حضورها العسكري في منطقة الشرق الأوسط، كاستجابة للتحديات المرافقة للحرب في قطاع غزة، وهي إشارة لها دلالاتها، التي لا تعني بالضرورة الاستعداد لعمل عسكري موسع، بقدر ما تعبر عن مستوى الاستجابة الأمريكية والغربية للتهديدات البحرية على اختلاف مستوياتها، لا سيما ما يتعلق منها بالقرصنة وأنشطة الجماعات المسلحة والإرهاب، ويأتي ذلك الحضور الكثيف تعبيراً عن أهمية المنطقة الجيوسياسية في الصراع ما بين الدول الكُبرى، وأهمية الممرات المائية في الشرق الأوسط للنظام الاقتصادي العالمي والتي من بينها مضيق باب المندب وقناة السويس ومضيق هرمز. وفي ضوء ذلك يمكن تركيز الأهداف الأمريكية من حضورها العسكري في المنطقة والبحر الأحمر في التالي:
أولاً: حددت استراتيجية البيت الأبيض للعام 2022 كل من الصين وروسيا، بوصفهما تحديات خطيرة على الأمن القومي الأمريكي والسياسة الأمريكية الخارجية، وذلك ينطبق على مناطق النفوذ الرئيسية حول العالم في أوروبا، وشرق وجنوب شرق آسيا، والشرق الأوسط وتحديداً إسرائيل ودول الخليج العربي، واذا كانت أوروبا ساحة مواجهة رئيسة مع روسيا، وشرق وجنوب شرق آسيا ساحة مواجهة مباشرة مع الصين، فإن الشرق الأوسط بات ساحة مواجهة مع كليهما، وهو الأمر الذي يستدعي تعزيز القوة العسكرية الأمريكية فيه، خاصة في المناطق الجيوسياسية المهمة كالبحر الأحمر، والغرض الأساسي منها هو أن السيطرة على المحيطات وأعالي البحار تعني إحكام السيطرة على النظام الدولي.
ثانياً: تعتبر إيران أحد التحديات أمام الولايات المتحدة، مع سعي طهران لتطوير قدراتها العسكرية والتقنية والنووية، وتوظيف شبكة الجماعات المسلحة المرتبطة بها في دول (العراق، وسوريا، ولبنان، واليمن) ضد المصالح الأمريكية والإسرائيلية، وقد استخدمت طهران الساحة اليمنية من أجل تخفيف ضغط الحضور العسكري الأمريكي في البحر الأبيض المتوسط على حزب الله اللبناني، وتشتيت القوة الأمريكية في صراع بعيد جغرافياً عن لبنان. وقد دفعت الولايات المتحدة بتعزيزات عسكرية بحرية وجوية وبرية منذ اليوم الأول للحرب بهدف ردع إيران وجماعاتها عن الانخراط في حرب غزة بكثافة، وإدخال الشرق الأوسط في خضم صراع معقد.
ثالثاً: أظهرت هجمات الفصائل الفلسطينية في غلاف غزة، التهديدات التي قد تشكلها الجماعات الفاعلة دون الدول، والتي تفوق قوتها وحجمها في أحيان كثيرة، وكان ذلك دافعاً لمحاولة ردع الحوثيين عن التأثير في حركة التجارة الدولية، واحتمالات الإقدام على عمليات قد تخلف آثاراً طويلة المدى لا سيما باستهداف ناقلات البتروكيماويات أو زرع ألغام بحرية تُهدد بتعطل حركة الشحن لسنوات.
رابعاً: أن الاقتصاد الأوروبي لا يزال في طور التعافي من الأزمة الأوكرانية التي اندلعت في ربيع 2022، خاصة في قطاعي الطاقة والغاز، بعد سعي أوروبا تخفيف اعتمادها على روسيا في إمدادات الطاقة، وبهجمات الحوثيين فإن الواردات الأوروبية من آسيا مهددة لا سيما النفط والغاز، وباختيار شركات الشحن طرق بديلة عبر رأس الرجاء الصالح في الجنوب الأفريقي، فإن ذلك يؤدي إلى إطالة المسار وارتفاع تكاليفها، وبذلك فإن التحركات الأوروبية تحديداً مدفوعة بإدارة الملاحة في ذلك الممر لما يترتب عن اضطراباته من تداعيات على اقتصاداتها.
تداعيات "عسكرة" البحر الأحمر
إن الحضور العسكري الغربي في البحر الأحمر، ونوايا تكثيفه مستقبلاً، قد يدفع نحو "عسكرة" البحر، وما يترتب عن ذلك من مجموعة مركبة من التداعيات على المستويات القريبة والمتوسطة والبعيدة، ليس على منطقة البحر الأحمر فحسب بل وعلى المنطقة والعالم كذلك، ومنها:
أولاً: ينعكس الحضور العسكري الغربي المكثف في البحر الأحمر على التنافس الصيني الأمريكي، حيث تنظر بكين إلى أن الصراعات تُعزز من نفوذ الولايات المتحدة على حساب التمدد الناعم للصين المعتمد على الاستقرار والجوانب الاقتصادية، إضافة إلى ذلك تنظر الصين بقلق لأنها تعتقد أن الولايات المتحدة تسعى لتأجيج التوترات في البحر الأحمر بهدف محاصرة مبادرتها المعروفة باسم "الحزام والطريق" والتي تتخذ من البحر الأحمر نقطة التقاء الممر البري بطريق الحرير البحري، والتضييق على قاعدتها العسكرية الوحيدة في الخارج في جيبوتي.
ثانياً: قد يؤدي الحضور العسكري المكثف في البحار والمضائق الإقليمية إلى عودتها كساحات تصادم ما بين الولايات المتحدة وإيران، إذ لاقت تلك التعزيزات والهجمات ضد الحوثيين انتقادات إيرانية، وفي وقت سابق لتشكيل تحالف الازدهار حذر وزير الدفاع الإيراني محمد رضا أشتياني من أن أي قوة دولية لحماية الملاحة في البحر الأحمر ستواجه مشاكل كبيرة، بالتزامن مع كشفها عن قوة الباسيج البحرية، وإلى جانب الانتشار الكبير للجماعات المدعومة إيرانياً فإن لديها القدرة على خلق مسرح عمليات عسكرية أكثر تعقيدا وخطورة على السلامة الإقليمية، وامتداد الاضطرابات إلى البحر الأبيض المتوسط وحتى بحر العرب.
ثالثاً: سيقود أي صراع في البحر الأحمر المنطقة نحو مرحلة جديدة، تحركها المنافسات الإقليمية والدولية، والتي سيكون تأثيرها حاضراً على الدول العربية فيما يتعلق بمصالحها السياسية والاقتصادية والأمنية، وتحديداً الدول التي تمتلك شواطئ على البحر الأحمر، فمن جهة؛ يعد الاستقرار في البحر الأحمر ركيزة للاستقرار الاقتصادي العربي، وتحديداً السعودية التي تسعى لتنويع اقتصادها بعيداً عن النفط عبر تنفيذ رؤية 2030، والتي تتضمن مشاريع استراتيجية مطلة على البحر الأحمر، من بينها مدينة نيوم، ومشاريع شركة "البحر الأحمر الدولية" المملوكة لصندوق الاستثمارات العامة، والمطورة للواجهات السياحية للبحر الأحمر. وبالنسبة إلى مصر حيث يعد مضيق باب المندب والبحر الأحمر ممراً لقناة السويس التي تشكل إيراداتها أحد الروافد الرئيسية للاقتصاد المصري وخاصة من العملة الصعبة، وتطال التداعيات المناطق العربية المطلة على مدينة إيلات الإسرائيلية، لا سيما مدينة العقبة الأردنية ومينائها والمدن المصرية، التي تعد واجهات حضارية وسياحية مهمة للدولتين.
رابعاً: إن الاستقرار الإقليمي والأمن البحري، عوامل رئيسية لإتمام الخطط المتعلقة بالممر الاقتصادي الذي تم إطلاقه والتوقيع عليه في سبتمبر 2023، ويربط الهند بأوروبا، مروراً بالشرق الأوسط، وبينما يتجه البحر الأحمر لصبح بيئة عسكرية تشهد توترات وتصادمات إقليمية ودولية، فذلك قد يترتب عليه تداعيات على مضيق هرمز وبحر العرب ما قد يجعل المشروع عرضة للخطر.
خامساً: إن البيئة المحيطة في البحر الأحمر تعاني من اضطرابات عدة، فإلى جانب التهديدات الصادرة عن مناطق سيطرة الحوثيين في اليمن، نجد أن منطقة القرن الأفريقي تواجه تحديات ونزاعات طويلة الأجل، وآخرها النزاع في السودان والذي وصل إلى مدينة بورتسودان المطلة على البحر الأحمر، والتي تحظى موانئها بميزة تنافسية إقليمياً ودولياً، لا سيما مع محاولات تركيا وروسيا تطويرها وتشييد قواعدها العسكرية البحرية فيها، ومع تعثر المحاولات السعودية-الأمريكية لحل الأزمة في السودان، فإن الشواطئ السودانية على البحر الأحمر ستظل خواصر ضعيفة تهدد أمن البحر الأحمر.
سادساً: إن تداعيات الاضطراب في البحر الأحمر تنعكس سلباً على مستقبل اليمن، وتحديداً على العملية السياسية الرامية لحل الأزمة اليمنية، حيث يسعى الحوثيون من خلال هجماتهم تحقيق شرعية وشعبية محلية تتيح لهم قوة تفاوضية أو تسهيل توسيع مناطق سيطرتهم عسكرياً، خاصة وأنهم يحاولون إثارة السخط الشعبي عن ضعف موقف الحكومة اليمنية المعترف بها دولياً تجاه الحرب في غزة. علاوة على ذلك فإن تصنيف واشنطن للحوثيين كجماعة إرهابية، يُعرقل جهود السعودية للحوار معهم والتوصل إلى تسوية تفضي لحل الأزمة اليمنية، حيث إن مسألة التفاوض مع جماعة مصنفة إرهابياً تعد شديدة الحساسية.
وأخيراً؛ فإن التهديدات الناتجة عن تكثيف عسكرة البحر الأحمر وتأجيج الصراعات داخله وفي محيطه تكاد لا تنحصر، وقد تتخطى آثارها الدول الإقليمية نحو التداعيات الدولية، خاصة على صعيد التدافع بين القوى الكبرى لبسط نفوذها، والتأثير على التجارة العالمية والمشاريع ذات الصلة بالبحر الأحمر.
لقراءة الورقة على موقع ستراتيجكس