"سباحة على الناشف"
"إنّ أهم شيء أن لا تتوقف عن التساؤل، فالفضول وُجِدَ لسبب"، هكذا يلخص العالم العظيم ألبرت أينشتاين منهجه في اكتشاف العالم والتوصل للحقيقة. السؤال مفتاح المعرفة وأداة سبر أغوارها.
في ثقافتنا، العقل "قاصر" و "محدود"، يقولون لك أنّ التدبّر والتأمّل والتفكّر أمور مطلوبة ومحضوض عليها، ثم يستدركون عليك إذا ما قارب تدبّرك أو تأمّلك أو تفكيرك أحد خطوطهم الحمراء التي من كثرتها لا تكاد ترى ما وراءها، بل إنّ حمرتها قد تزداد قرمزيةً بدمائك إذا ما بارح عقلك ثلاجة تأصيلاتهم وتأويلاتهم التي تجاوزت في تجمّدها الصفر المطلق؛ لينزلوا عليك حكمهم بالتكفير للتفكير. لا ريب في أنّ العديد من النصوص وما استُنبِط منها من قواعد تسعفهم بدءً من النهي عن السؤال عمّا إذا بدى لنا قد يسوءنا، مروراً بوجوب الاتعاظ ممن سبقونا من الأمم التي أكثرت السؤال فباءت بسوؤ العاقبة والمآل، مضيّاً مع السلوك الممنهج في تحقير العقل والحطّ من شأنه باتهامه دائماً ب"القصور" و "الهوا" و "عدم المقدرة على إدراك معظم الأشياء"، وأنه مهما اكتشف وأنجز وطور واخترع، فعليه أن لا ينسى حقيقة أنه لا يزال بعيداً عن منال تمام الحكمة وبلوغ كمال المعرفة، ولا تسأل ما هو تمام الحكمة وما عساه أن يكون كمال المعرفة لكي نحكم بأنفسنا أين نقف من هذا وذاك، فالجواب سيكون من نسج ذات المنوال: "هذا مما لا يدركه العقل"!
لن يجد أي رجل دين صعوبةً في أن يأتيك بجواب إذا ما سألته عمّا يبدو من تعارض بين الدعوة المزعومة للتدبر ثم النهي عنه والتحذير منه، فسوف يقول لك وهو يبتسم ويستغفر الله لذنب: "يا أخي هداك الله، الجهة مُنفَكّة"، وقبل أن تسأله "ما معنى..." سوف يستطرد وعيناه ترمقانك باستهانة: "طبعا لا تعرف معنى الجهة مُنفَكّة، طبعاً لا، هذا علم يا حبيبي، علم مش فت عدس"، ثم يرتشف من كوب شايه رشفةً يسمعها الثقلان ويلعق شفته السفلى بالعليا ويقول: "انفكاك الجهة هداك الله، هو أن التعارض ظاهر لأمثالك من الجاهلين ولكنّه منفك لمن منّ الله عليهم بالعلم منا، فالتفكير المأمور به هو التدبّر في ما يجوز التفكّر فيه، أما النهي عن السؤال، فهو الكفّ عن التفكير والتساؤل عن الأشياء التي يقصر عقلك عن إدراكها، إن شاء الله تكون فهمت؟"، وحذاري أن تسأله: "وما هي الأشياء التي لا يدركها العقل ومن يحددها وما هي أسس تحديدها؟"، لأنك إن فعلت، فقد ألقيت بنفسك في تهلكة جهاتها غير مُنفَكّة.
يزداد سِرْك الحديث عن حرية التفكير في سياقه الأصولي حينما تبدأ نبرة صوت أحد هؤلاء المتناقضين مع أنفسهم بالتصاعد تدريجياً من الهدوء المفتعل إلى الصراخ التلقائي وكأني به يقرأ من نوتة موسيقية كتب له فيها “Crescendo”، وهو يجزم بما ورثه من مطلقات الأحكام: "فكّر كما شئت... وتدبّر وتأمّل كما تريد... فسوف تصل إلى ذات الحقيقة التي لا مهرب منها، وإن لم يقودك تفكيرك إلى هذه الحقيقة، صاحي معاي أنتَ؟ أقول، إن لم يقودك تفكيرك إلى ما نعتقده جازمين، فإنت عدم المآخذة، إما غبي لا تعرف أن تفكر وإما منحرف التفكير"! في الواقع أنّ هذا دلال ما بعده دلال، فالقوم أراحونا من التفكير ابتداءً، فإنّ أبينا إلا أن نفكر، فقد كَفونا مأونة الاستنتاج حيث أنهم حددوا لنا سلفاً أين ينبغي أن يوصلنا تفكيرنا على طريقتهم.
المعرفة تُكتَسَب ولا تُلقَّن، فما بالك بالنتائج والحقائق المستنبطة منها، أنّى لأمة أن ترتقي وقدماها ضاربتان في أعماق أدبيات تحرّم الفلسفة وترى في الفلاسفة حفنة من "الكفرة" أو "الزنادقة" في أحسن الأحوال. من لا يسأل لا يعرف ومن يعرف يسأل ليعرف أكثر. ما يُدهِش هو تجرؤ بل وقاحة من يُنَصِّبون أنفسهم أوصياء على ضمير وعقائد أمة بأكملها بزعم أنّهم من أولي العلم وما لأحدٍ عليهم من سبيل، أتراهم بعقولهم ذات الوظيفة الحاضنة المستقبلة المجردة عن التحليل والتأمل، أتراهم أعلم من العظيم سقراط الذي قال: "إنني لا أستطيع تعليم أي أحد أي شيء، ولكنني بإمكاني أن أجعله يفكر". لا عجب في أن يكون مفهوم احترام العقل وحرية التفكير له خصوصيته في تراثنا، فهذا ليس استثناءً بل هو القاعدة، فكل شيء توافقت عليه ضمائر الأمم خالفناهم فيه لأننا "خير الأمم"! فحرية الاعتقاد والإبداع وحرية المرأة وحقوق الطفل والمساواة... كلها عندنا ولكن على طريقة: "ألقاه في اليمِّ وقال له، إياك إياك أن تبتل بالماءِ"، فليَسبَح عقلك كما يشاء في عباب محيط المعرفة، ولكن حذاري أن يبتل بها، فكل ما لك يا رفيق؛ سباحة على الناشف.
* خبير دولي معتمد في التحليل القانوني وحقوق الإنسان