سأحرس نومك
رحل أحمد العربي وكنا نعرف انه بابتعاده عنا سنجده فينا وهو الذي تلا وصيته وباح بوصاياه عندما ذكرنا بان الوطن ليس حقيبة وان حلق كالعصفور خفيفا وجميلا ، وهو المكرس للندى ، وطار نحو أبدية الأزرق. لم يكن محمود درويش ملكا لأحد منا ، ولعلنا في خضم التعبير عن حبنا له وشوقنا إليه فقدناه مبكرا ولم نر منه إلا ما راق لنا فلم نسمع نداء قلبه المضطرب ولم نعرف أن كل ما كان يبحث عنه هو البسيط: "أن يشارك صغار العصافير درب الرجوع،"لا لم يكن بطلا "فالبطولة أيضا تدعو إلى الضجر عندما يطول المشهد فتخف النشوة.
" لكنه كان فارسا في زمن يقطر بالسواد هجرت فيه الأحصنة وتركت لمصيرها. كان يبحث عن ما هو أغلى من الحرية ومن الحياة. كان يبحث عن البياض. وفي النهاية - البداية وجد درويش حدود قلبه، قليلون هم من عرفوا درويش الإنسان ، بعيدا عن الأضواء والمعجبين والمنافقين والحاسدين. في شعره الأخير كان درويش يستعيد حياة لم تسنح له أن يعشها بتفاصيلها الكاملة والمملة. كان يحتفي بمشاهد عادية مر بها ، كأن يجلس في مقهى ويرقب المارين ، أو أن يصف تحضيره لقهوة الصباح: القهوة أخت الوقت...صوت الرائحة. أو أن يحن إلى المطر لكنه ليس مطر باريس وغيرها من مدن المنفى. في ذاكرته كان يختزن صوت المطر الأول الذي كان يغسل أصابع الكرمل ويطلق عبير الياسمين في الأزقة القديمة. لم ينس درويش أن يظل طفلا ، تبهجه الأشياء البسيطة: صحبة صديق وجلسة تدور فيها أحاديث عادية قبل أن يدعى الحاضرون إلى الطعام. لكنه كان يسجل أدق التفاصيل التي لا نعيرها اهتماما: ظلال تتراقص على الجدران وصدى ضوضاء في أقصى الغرفة وانعكاس ضوء القمر على الآنية. كان الشاعر حاضرا في قلقه البهي ، وكنا في حضرته مذهولين بعفويته وسرعة بديهته. كان درويش يرتدي هالته كإنسان دون تكلف فنتذكر كم من الصعب أن نكون بشرا، لكنه في حزنه العادي وحيرته كان يبتغي أن يكون مثلنا ولو لوقت قصير ربما خوفا من الآتي: أن يعود إلى شقته وحيدا.بقدر ما تأثرت كغيري بشعره النضالي لكنني اعترف بأن نثره وقصيده الأخير تلبسني بشكل جنوني. هالني فيه تواضع اعترافه بعجزه الإنساني أمام الموت والحب والأسئلة الكبرى. لقد أطلق درويش الإنسان أكثر من مارد من قمقمه ووقف بهيبته الجميلة يتأمل هذه الفوضى التي صنعها. "لا يعرف البحر إلا من يغوص." ودرويش غاص في البحر وجازف. كم أرقت في الليل ليؤنسني نثره وشعره قبل أن يقلقني مرة أخرى. لم يكن جرحه قيثارة فقد شهد الرؤيا ولم يبخل بالنبوءة. كنت محظوظا أنني عرفته ، وتعيسا لأنني لم اعرفه أكثر. لكنني اليوم احتفل بولادته من جديد رغم أني سأفتقد الشعور بالأمان لغيابه عنا ، وسيذكرني دوما بنحلة الجرح القديم: سأفتقد براءته وطهارته فقد كان الرحيق والعبير. كنت في حضرة العبقري ، المحاصر ، الذي التجأ إلى رصيف الحلم والأشعار ، الذي فك حصاري ودلني إلى الضفة الأخرى دون أن يدري. يا ترى كم من المحاصرين فك أسرهم محمود درويش؟ نم أيها الفارس الجميل: نم. وسأحرس نومك. *الدستور











































