زراعة القوقعة في الأردن: منحة أمل مع وقف التنفيذ

الرابط المختصر

"رحلت من الطفيلة على محافظة مادبا لأجل أطفالي اللي زارعين قوقعة"، قالها شاهر الهلول وهو ينظر بحسرة صوب أبنائه الأربعة الخاضعين لعملية زراعة قوقعة بسبب الإصابة بالصمم.

لم يكن يعلم شاهر أن انتقاله إلى محافظة مأدبا القريبة من العاصمة، لن يغير من الواقع الذي يعيشه أبناؤه، إذ لم يتمكن من تأمين تكاليف خدمات التأهيل التي تساعدهم على النطق. "في مادبا لقيت المعاناة نفسها"..." بدي أسجلهم في مركز خاص، هذا بده فلوس." يقول شاهر.

 

غياب التأهيل

يجلس شاهر مع أبنائه في غرفة الجلوس، يردد أمامهم مقاطع صوتية وهو يحرك شفتيه بشكل متكرر، علّ ذلك يساعدهم على نطق بعض الكلمات ويحسن من قدرتهم على التواصل.

يقول شاهر إنّ حرمان الطفل زارع القوقعة من التأهيل يحول دون انخراطه في المجتمع ويشكل عائقًا أمام التحاقه بالمدرسة.

لشاهر ثلاثة من البنات وولد واحد، جميعهم من ذوي الإعاقة السمعية و خضعوا لعمليات زراعة قوقعة.

تدرس الابنة الكبرى آية (17 عامًا) في مدرسة للصم والبكم، فهي لم تتلق خدمات تأهيل ملائمة تمكنها من الاستفادة من القوقعة المزروعة. 

لم يكن الحرمان من الوصول إلى خدمات التأهيل الملائمة الهم الوحيد الذي يواجهه شاهر مع أسرته، إذ تُثقل تكاليف الصيانة واستبدال قطع الغيار  كاهل الأب الذي بات قلقًا من تراكم الالتزامات عليه."ما في غير البنوك ألجأ لها، زارع القوقعة بده حنفية مصاري"، يقول شاهر بمرارة.

يوضح شاهر أنه ينفق على شراء قطع الغيار للأجهزة الخاصة بأطفاله مبالغ كبيرة؛ فهناك الأسلاك وحافظات البطاريات والصيانة المتكررة، فضلًا عن عملية التحديث الضرورية كل بضع سنوات، والتي تكلف نحو خمسة آلاف دينار  في كل مرة، حسب ما أوضح.

يعرض شاهر عددًا من قطع الغيار التي قام باستبدالها بالفعل، منها خمسة أسلاك معطوبة تصل قيمتها إلى 250 دينار .

تتعرض حافظات البطاريات أيضًا للتلف بشكل متكرر، على نحو يستوجب استبدالها. يشير  شاهر إلى أربعة منها تتجاوز تكلفتها الألف دينار، بحسب قوله.

 

يعد مستشفى الأمير حمزة الحكومي الجهة الوحيدة المعتمدة منذ عام 2007 لزراعة القوقعة في الحالات التي تجريها وزارة الصحة. بلغ إجمالي العمليات التي أجراها المستشفى 520 عملية.، حسب ما أوضح مدير مستشفى كفاح أبو طربوش.

 تُغطى تكاليف العملية من صندوق التأمين الصحي المدني أو عبر  الإعفاءات ، في حين تقدم الأجهزة هبة من جهات داخل الدولة. أما في القطاع الخاص فتبلغ قيمة الجهاز نحو 10 آلاف دينار، في حين تصل تكلفة إجراء العملية إلى 13 ألف دينار ، وفق ما أوضح أبو طربوش.

كما تجرى عمليات زراعة القوقعة في مستشفيات تابعة للخدمات الطبية الملكية منذ العام 2003. تجاوز عدد عمليات زراعة القوقعة التي أجريت في تلك المستشفيات 800  حالة.

تُجرى أيضًا عمليات زراعة القوقعة في مستشفى الملك عبدالله المؤسس الجامعي في محافظة إربد. اعتمدت شركة أنظمة سمعية عالمية مركز ​​زراعة القوقعة ومعالجات السمع في المستشفى مركز  أبحاث في المنطقة العربية. 

كما يُجري عدد من مستشفيات القطاع الخاص في الأردن هذا النوع من العمليات الجراحية.

تقول أخصائية السمع والنطق في المستشفى ميسون الصمادي، إن عملية التأهيل بعد عملية زراعة القوقعة تعتمد على سن الطفل وحالته الصحية واكتسابه لغة في الماضي من عدمه.

مؤكدة أهمية دور الأهل في عملية التأهيل والمتابعة، إذ يجري توجيههم عبر تعليمات محددة للمساعدة في تطوير مهارات الطفل في النطق.

وحسب الصمادي تواجه عيادة النطق ضغطًا كبيرًا، فهي تتعامل مع نحو مائتي حالة منتظمة بالخدمات من مختلف المحافظات. تقول الصمادي:"أحيانا نكتفي بجلستين في الأسبوع للشخص، والأطفال بحاجة إلى تأهيل يومي."

 يقوم على تأهيل مراجعي العيادة أخصائيين، تستقبل كل منهما 5-6 أطفال يوميًا. كما يناط بهما أعباء أخرى في عيادة السمع، وفق ما أوضحت الصمادي.

يتكون جهاز القوقعة من جزأين الأول خارجي يُثبت خلف الأذن ليلتقط الأصوات بواسطة ميكروفون، ومن ثم معالجتها ونقلها إلى الجزء الداخلي المزروع تحت الجلد خلف الأذن.

يحمل الجزء الداخلي كابلًآ رفيعًا والإلكترودات صغيرة تتصل  بالقوقعة التي تشكل  جزءًا من الأذن الداخلية . يرسل الكابل إشارات إلى عصب القوقعة، في حين ترسل الأخيرة المعلومات الصوتية إلى الدماغ لاستثارة حاسة السمع.

كان أحمد علاء الدين( 16 عامًا) محظوظًا إذ تمكن من الحصول على قوقعة في سن السادسة.، ولم يضطر إلى تأخير إجراء العملية لحين حصوله على "دور" في قائمة الانتظار.  

أجريت لأحمد عملية زرع قوقعة في العام 2012 في دولة عربية بعد التواصل مع إحدى المؤسسات الطبية هناك،  إلا أن خيبة الأمل كانت في الانتظار.

واجهت الأسرة صعوبات في تأمين تكلفة جلسات تأهيل النطق واستدامة الصيانة بعد إجراء العملية والعودة إلى البلاد.

خضع أحمد لجلسات تأهيل النطق في مستشفى الأمير حمزة الحكومي مدة شهر واحد، لتلجأ الأسرة بعدها إلى مراكز القطاع الخاص.

يدرس أحمد الآن في الصف الثامن ويتلقى تعليمه في مدرسة خاصة بذوي الإعاقة السمعية. تقول أم أحمد إن النطق تراجع عند ولدها بسبب عدم الالتزام بجلسات تأهيل النطق، إذ كانت تتزايد تكلفتها بمرور الوقت.

خضع أحمد لجلسات التأهيل بشكل متقطع مدة خمسة أعوام، قبل أن ينقطع تمامًا عن حضورها. لم تتمكن الأسرة من الالتزام ببرنامج التأهيل بسبب ارتفاع أجور تلك الجلسات. تقول أم أحمد " ظروف الحياة صعبة ما قدرت أكمل له."

تنفق أسرة أحمد خمسين دينارًا شهريًا على شراء بطاريات للجزء الخارجي من القوقعة بولدها، فضلاً عن دفع تكاليف باهظة لصيانة الجهاز عند تعرضه للعطب، إذ يتوجب إرساله إلى خارج البلاد لإصلاحه.

حُرم أحمد من السمع مدة عام كامل بسبب تلف الجهاز الخارجي لقِدَمه وعدم قدرة الأهل على استبداله، إذ لا تقل قيمته عن 2700 دينار ،  حسب ما أوضحت والدته،

حصل أحمد لاحقًا على جهاز خارجي بديل ُصرف له بواسطة التأمين الصحي الحكومي بعد انتظار دام عامًا كاملًا، وفق ما أشارت والدته.

 

هموم ما بعد القوقعة

 

"إحنا ما كنا نعرف ما بعد القوقعة، والمعاناة اللي رح نعانيها، ما قدرنا نودي على مراكز نطق لأنه استنفذنا كل الفلوس واستدنا"  قالتها أم أحمد وشاح بسبب معاناة الأسرة في تأمين متطلبات الطفلين أحمد وأمير  بعد أن أصبحوا من زارعي القواقع.

بقي الابن الأكبر أحمد ثلاثة أعوام على قوائم الانتظار  أملًا في الحصول على قوقعة تمكنه من التغلب على الإعاقة السمعية التي يعاني منها، إلا أن تأخر دوره دفع الأسرة إلى الاقتراض لشراء الجهاز  البالغ قيمته 16 ألف دينار ، في حين حصلت الأسرة على إعفاء مكنها من إجراء العملية مجانًا، حسب ما أوضحت والدته.

أجريت زراعة القوقعة لأحمد وهو في سن الرابعة، إلا أن الأسرة واجهت صعوبات في الوصول إلى جلسات تأهيل النطق. 

يبلغ أحمد  من العمر  15 عامًا، وهو غير  قادر على الكلام ولا يذهب إلى المدرسة أسوة بأقرانه.

تعرض أحمد في السابق للتنمر من رفاقه في المدرسة الذين قاموا بسلب الجهاز والعبث به وتفكيكه، لتجد الأسرة نفسها مرة أخرى أمام تحد جديد وهو توفير تكاليف الصيانة.

أنفقت الأسرة 1500  دينار في صيانة الجهاز حتى لا يُحرم ولدها من السمع،  حسب والدته.

أما أمير  ذو السبعة أعوام فخضع لزراعة قوقعة في سن العامين، لكنه عانى بسبب تعطل الجهاز الداخلي بعد عام ونصف العام من إجراء العملية، قبل أن يتم استبداله عن طريق إجراء عملية جراحية أخرى.

تخصص الأم حصالة تضع فيها ما يتوفر لها من مبالغ مالية بسيطة علّها تجمع تكلفة جلسة قادمة لأمير. تبلغ تكلفة جلسة تأهيل النطق الواحدة 18 دينارًا، فضلاً عن أجور المواصلات غير القليلة.

كما تواجه الأسرة صعوبات مادية في توفير قطع الغيار من أسلاك وحافظات بطاريات، وتأمين تكلفة الصيانة، فربُ الأسرة كان يعمل سائقًا في السابق ولم يعد لديه دخل بعد فقدان بصره، حسب ما أوضحت أم أحمد.

"ندمنا إنه زرعنا قوقعة، وبنصح أي إنسان في الأردن غير مقتدر ماليًا ما يزرع قوقعة"، تقولها أم أحمد بحسرة.

أما إيلين غيث (3 أعوام) فلا زالت حديثة العهد بتجربة زرع القوقعة. أجريت لإيلين عملية زراعة قوقعة في مستشفى الأمير حمزة الحكومي قبل نحو عام. وهي تتابع جلسات تأهيل النطق بمعدل جلستين إلى ثلاث جلسات كل أسبوع في مركز التأهيل التابع للمستشفى.

لا تخفي والدة إيلين قلقها من المستقبل؛ فهي تأمل أن يحظى الأطفال زارعي القوقعة باهتمام في المدارس، خصوصًا التابعة لوزارة التربية والتعليم، إذ ليس للأسرة قدرة على دفع رسوم مدرسة خاصة.

تقول والدة الطفل إنها تراقب ابنتها حتى لا تتعرض للوقوع أو الارتطام بجسم ما على نحو قد يلحق الضرر بها، اتباعًا لتعليمات الطبيب. " الواحد صار يخاف على السماعة وبيخاف على الطفل نفسه، بدهم رعاية خاصة"، تقول أم إيلين.

يكشف استبيان أجرته معدة القصة على 193 شخصًا دون سن الثامنة عشرة من زارعي القواقع، عن أن الصيانة كانت تُلقى على عاتق الأهل.

 أظهرت النتائج أن 88 في المئة من الحالات اعتمدت على الأهل في تحمل تلك التكاليف.

كما يظهر تحليل نتائج أن 62 في المئة من إجمالي الأطفال في العينة احتاجوا إلى استبدال الجهاز الخارجي. وتمكن معظمهم من تأمين جهاز آخر، في حين بقي 18 في المئة منهم بأجهزتهم القديمة، بحسب آراء أهالي هؤلاء الأطفال.

كما تبين أن 39 في المئة من الأطفال الذين لم يمض على زراعة القوقعة لديهم خمس سنوات،  احتاجوا إلى استبدال الجهاز الخارجي.

 

إشكالات قانونية

 

تؤكد مساعدة الأمين العام للشؤون الفنية في المجلس الأعلى لحقوق ذوي الإعاقة غدير الحارس عدم توفر بيانات دقيقة حول عدد الأشخاص زارعي القوقعة ومن يتلقون منهم خدمات تأهيلية، مشيرةً إلى أن نقص البيانات حول الأشخاص ذوي الإعاقة يشكل أحد أكبر المعوقات التي يواجهها المجلس.

ولفتت الحارس إلى أن المجلس وقع أخيرًا مذكرة تفاهم مع دائرة الإحصاءات العامة لغايات تضمين أسئلة تتعلق بالإعاقة ضمن بعض المسوحات التي تجريها الدائرة.

وحسب الحارس فإن الأشخاص زارعي القوقعة يعدون من ذوي الإعاقة، وفق تعريف قانون حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة رقم 20 لسنة 2017.

يعرف قانون حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة بأنه " كل شخص لديه قصور طويل الأمد في الوظائف الجسدية أو الحسية أو الذهنية أو النفسية أو العصبية، يحول نتيجة تداخله مع العوائق المادية والحواجز السلوكية دون قيام الشخص بأحد نشاطات الحياة الرئيسية، أو ممارسة أحد الحقوق، أو إحدى الحريات الأساسية باستقلال"، حسب المادة (3) من القانون.

تقرمدير إدارة الحقوق المدنية والسياسية من المركز الوطني لحقوق الإنسان نهلا المومني أن الأشخاص زارعي القوقعة يواجهون إشكالية قانونية حول اعتبارهم من الأشخاص ذوي الإعاقة. مع أنهم يعانون من قصور طويل الأمد في الوظائف الجسدية

 

قانون حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة رقم 20 لسنة 2017.

 

 

أشارت المومني إلى أن ممثلين عن مجموعة من أهالي الأشخاص زارعي القوقعة تقدموا بشكوى إلى المركز للمطالبة بشمول أبنائهم في فئة الأشخاص ذوي الإعاقة وتمكينهم من الاستفادة من المزايا التي تحصل عليها تلك الفئة، مع توفير تغطية صحية ملائمة بموجب تأمين صحي يمنح لهم، و استدامة الصيانة للأجهزة الخاصة بهؤلاء الأشخاص.

كما تضمنت المطالبات فتح مراكز شاملة لإعادة تأهيل زارعي القوقعة في المحافظات. وتأهيل عدد من الكوادر التعليمية في وزارة التربية والتعليم للتعامل مع الطلبة من زارعي القوقعة.

يقول عضو اللجنة التأسيسية لملتقى أهالي الأطفال زارعي القواقع سلطان عماري، وهي مظلة تجمع عددًا من أهالي هؤلاء الأطفال، إنهم نظموا عدة وقفات للمطالبة بعدد من الإجراءات من أبرزها؛ اعتبار زارعي القوقعة من ذوي الإعاقة وتوفير قطع الغيار و استدامتها وشمول القوقعة ( الجهاز الداخلي والجهاز الخارجي)  بنظام تأمين شامل مجاني، وتوفير مراكز التأهيل السمعي والنطقي في كافة المحافظات وبشكل ميسر وسهل الوصول له  وغيرها من المطالب.

                 صورة من مطالبات تجمع لأهالي الأطفال زارعي القواقع

 

الهموم التي يعبر عنها أهالي الأطفال زارعي القوقعة تثير  القلق لدى والدة إيلين، تقول الأم " لما أسمع كثير عن القوقعة وأشوف آراء الناس وكيف بيعانوا، أحياناً بندم أنه ليه زرعت لبنتي" ، وتضيف "يمكن ما أقدر أكمل معها مشوارها".

أما أم أحمد وأمير فأحلامها أكثر تواضعًا "بدنا أولادنا يحكوا ليعبروا عن وجعهم، مو طالبين يصيروا مثل الأطفال الثانيين، أولادنا كثير  محطمين". قالتها والدة الطفلين بمرارة.

 

أنتجت هذه القصة بالتعاون مع أريج وبدعم من سفارة مملكة هولندا-مشروع 100 واط