داخل كل بيت أردني ميسور، أو متوسط الحال أو “مستور” تتردّد شكوى مريرة همساً وجهراً بأن الأردن ليس بخير.
رجع الصدى يرنّ في الجلسات العامة أو الخاصة على امتداد المدن الكبرى، والبوادي والأرياف المهمشّة والمخيّمات المكتظة وسط شعور بضياع البوصلة السياسية والاقتصادية وتناسل الفقر والبطالة (18%) وتعمّق الشعور بالظلم، وغياب العدالة الاجتماعية إلى جانب انهيار نوعية الخدمات العامة وتآكل البنى التحتية في بلاد تلقت مليارات الدولارات على شكل منح وقروض خلال العقود الماضية لكن مديونيتها الخارجية قفزت الى 40 مليار دولار.
هذه الحوارات تطرح سؤالاً مركزياً: “من المسؤول” عن انهيار منظومة إدارة دولة دخلت مئويتها الأولى على وقع تراجع مرعب للولاية العامة لصالح مرجعيات موازية، تداخل السلطات وتدهور ثقل مجلس الأمّة؟
فشل عارم في تغيير نهج الفساد والإفساد وسط تلكّؤ في محاسبة جيوش المقصرين من مسؤولين حاليين ورؤساء حكومات ووزراء سابقين ومتقاعدين عسكريين. هذه الفئات شكّلت طبقة سياسية مغلقة تتبادل المناصب والمكاسب مدعومة بنخب اقتصادية مستفيدة.
وينتهي السؤال بمن المستفيد من مشاهد الفوضى المقصودة أو غير المقصودة.
في خلفية المشهد المتأزم حكومة ترى أنها ضحية لجهات متنفذة ترغب في تعطيل مشروعها “النهضوي”، ربما في مسعى للهروب من انقسامها الداخلي وضعف خبرتها في فهم آلية إدارة شؤون الدولة. حكومة شبه مشلولة ورئيس متردّد ينخرط في حوارات بلا قرارات.
المزعج أن مسؤولين سابقين وحاليين ينكرون مسؤوليتهم عن الطريق المسدود الذي وصل إليه الأردن. لا يجيدون أكثر من لوم الشعب الذي “لا يعجبه العجب”، بسبب تركيبته الثقافية والاجتماعية التقليدية. أو تجدهم يتباكون ليل نهار على قدر الأردن الجيو-سياسي، وشح موارده الطبيعية وتآمر حلفائه التقليديين ممثّلين اليوم بما يسمّى -خلف الأبواب المغلقة- بـ”محور المؤامرات”، في إشارة إلى إسرائيل، وأمريكا والسعودية. والهدف تركيع المملكة مالياً واقتصادياً ثم تجويع الشعب وتخويفه من استمرار الفوضى وصولاً إلى تنفيذ مأرب “صفقة القرن” وتسوية القضية الفلسطينية على حساب دول الجوار.
منذ ثلاثة أشهر والأردن يعيش على صفيح ساخن. احتجاجات متنامية أركانها عشائر شرق أردنية؛ لطالما كانت العمود الفقري للنظام الهاشمي والقطاع العام.
تطالب الحراكات بإصلاحات دستورية وبعضها يشكّك بصدقية الخطاب الرسمي، وشكوى الملك المستمرة من تعطّل جهوده لعصرنة الأردن مع أنه هو من يعين رئيس الحكومة وكبار المسؤولين ويقيلهم، ويسيطر على المؤسسات السيادية الأمنية والعسكرية.
منذ نهاية تشرين الثاني/ نوفمبر، يتقاطر حراكيون مساء كل خميس من الأطراف والعاصمة إلى ساحة مقابلة لرئاسة الوزراء لرفع الصوت رغم البرد القارس. شعاراتهم تخرق سقوفاً حمراء. ذات الأجواء تجتاح الفضاء الإلكتروني، أبطالها نشطاء معارضون. قبل أسبوعين ظهر مسلسل الرسائل المكتوبة ونداءات صريحة وجريئة للملك من كبار المتقاعدين العسكريين والمدنيين تطالب بإصلاحات استراتيجية، وتعديلات دستورية وحكومات برلمانية. بعض المحتجين اختاروا (الفيسبوك) لإسماع صوتهم بينهم 300 شخصية مؤثرة في مقدمتهم أمجد المجالي؛ وهو وزير ونائب سابق ونجل رئيس وزراء سابق. يطالب مطلقو البيان الملك بتغيير نهج الحكم ويتوعدون بعقد مؤتمر تأسيسي لإنقاذ البلاد في حال إهمال طلباتهم.
بالتزامن، يرسل طاهر المصري وعبدالسلام المجالي – رئيسا حكومة سابقان – على رأس 98 شخصية خدمت سابقا في مواقع أمنية وسياسية، “نداء إصلاح” للملك عبر الديوان الملكي. يطالب الموقعون بتعديلات دستورية تسمح للأحزاب بالمشاركة فعليا في الانتخابات البرلمانية المقبلة أواخر 2020 وتشكيل حكومات مستقبلية.
قبل عشرة أيام بدأ عشرات الشباب العاطلين عن العمل طريقة احتجاج جديدة عبر السير من أقصى الجنوب والشمال إلى مقر الحكم لإسماع صوتهم مباشرة للملك بعد أن فقدوا الثقة بقدرة الحكومات على الوفاء بوعودها. يخرج للفوج الأول رئيس الديوان ويعدهم بوظائف في القطاع الأمني وربما في القطاع الخاص، ثم يؤمّن لهم حافلة لإعادتهم من حيث أتوا. ثم يبدأ اخرون بالتوافد من مدينة معان والبادية الجنوبية لبدء اعتصام في نفس المكان. حوالي 250 منهم ينامون منذ أسبوع في العراء، تحت جسر أو في حلقات حول حطب مشتعل داخل مبني مسقوف تابع لأمانة عمان “ليطالبوا بحقهم الدستوري بالتوظيف”. قالوا في مقابلات مع كاتبة المقال إنهم لن يعودوا أدراجهم إلا ومعهم وظيفة. غالبيتهم لم يقبل عرض رسمي بالتجنيد في الجيش ويصرّون على العمل في شركات الفوسفات والبوتاس القريبة من منطقتهم بحسب رسميين.
صدر بيانان باسم عشيرتين كبيرتين – بني حسن وبني عباد – يدعوان إلى حراك وطني ويمهلان القصر لإصلاح المشهد. لم يُعرف بعد وزن الشخصيات التي وقّعت على البيانين. لكن بحسب مصدر رسمي فإن عددهم بالعشرات وسط توقعات بصدور بيانات مضادة عن هذه القبائل. وقال “احرار بني حسن” أنهم سينظمون مسيرة مليونية للزحف للعاصمة يوم 2 مايو/ايار.
سبق ذلك تقرير “حال البلاد” الصادر عن المجلس الاقتصادي والاجتماعي، الذراع الاستشارية للحكومة برئاسة مصطفى حمارنه، ونائب سابق مقرب من دوائر صنع القرار.
في 1590 صفحة، يغطّي التقرير مرحلة الملك عبدالله الثاني مذ تسلّم سلطاته الدستورية، في تحليل جريء وصادم يلامس أفكار الأحزاب المعارضة. شخّص التقرير أداء السلطة التشريعية والقضائية، وحكم القانون، والعنف المجتمعي، والتنمية السياسية وخطابات العرش، وكتب التكليف الملكي للحكومات وغيرها، فضلا عن حقوق الإنسان. فكشف ضعفا في أداء مؤسسات السلطات وتراجع دورها في تقديم خدمات عامة تلبّي احتياجات مواطنيها دون تمييز أو محاباة. وخلص إلى أن مشكلة الحكومات المتعاقبة طوال 18 عاما، تكمن خصوصا في تكرار عجزها عن تحقيق أهدافها المعلنة، وبالتالي اتساع فجوة الثقة بينها وبين المواطن. فمعظم الاستراتيجيات والأهداف المعلنة لم تعزّز بخطط تنفيذية وجداول زمنية لتطبيقها أو مخصّصات مالية. النخب السياسية تصحرت. تعاقب 307 وزراء خلال 18 سنة، منهم 257 وزيرا جديدا. فأصبح “الموقع العام يحقق دخلا ووجاهة وغابت معايير الكفاءة، والرقابة والمساءلة. واستفادت فئات محدودة من ذلك. أما الذي دفع الثمن فهو البلد والسواد الأعظم من العباد”. ويتهم معدو التقرير الغالبية (رؤساء حكومات ووزراء ومسؤولين ومثقفين وقوى سياسية وبرلمانية) باقتراف المحاصصة وتقاسم “الكعكة” على أسس جهوية وفرعية.
اليوم، يختزل الكاتب موفق ملكاوي في صحيفة الغد الأردنية لسان حال معظم الناس: “لسنا مسؤولين عن التخبط الحكومي ولا سوء التخطيط. نحن لم ندخل البلد في أزمة إثر أزمة، ولا نحن من باع القطاع العام وترك الدولة بدون أصول، ولا من نهب الأموال العامة. لسنا مسؤولين عن ترهل القطاع العام الذى ذهبت فيه الوظائف رشاوى وترضيات لمحاسيب وذوات. يرفض المواطن أن يكون مسؤولا عن تصحيح مسار بلد بأكمله تم تهميشه بيد سماسرة وتجار فاسدين تركوا ليعيشوا حياتهم بحرية، بينما المواطن مجبور على تعويض الدولة عن سرقة أولئك”.
قد تشكّل تلك الارتدادات المتلاحقة أكبر ازمة إدارة دولة تواجه الملك عبدالله الثاني، الذي يلج عهده العشرية الثالثة. نضوب المساعدات الخليجية لم تعد تمكّن (السيستم) من كسب ولاء الطبقة التقليدية.
معظم الأردنيين يرزحون تحت ظروف معيشية غير معهودة بعد رفع الدعم عن الخبز وتعويضه ببدل نقدي لفئات محدودة، وفرض/ أو رفع ضريبة المبيعات على سلع أساسية ثم إقرار قانون ضريبة دخل يخفّض سقف الإعفاءات الممنوحة للفرد والعائلة مقابل محاولة وقف التهرب الضريبي، بخاصة في أوساط الأطباء والمحامين وكبار الشركات.
حتى اليوم، يصرّ معظم المسؤولين والساسة أن الحراك لا قادة له، وأنه ناشئ عن خلفية مطلبية معيشية دون قاعدة شعبية أو أجندة واضحة
إذاً، الأردن على مفترق طرق صعب.
فإما مواصلة سياسة اللف والدوران وجرّ البلاد صوب مصاف “الدول الفاشله”. أو الإقرار بالواقع الصعب وعنوانه الكبير “أزمة إدارة الدولة”. يستتبع ذلك إصلاحات شاملة وتدريجية لتقوية الجبهة الداخلية المنقسمة أفقيا وعاموديا.
النائب المعارض خالد رمضان يرى أن الأزمات السياسية المتكررة منذ شهور لم تتحوّل بعد إلى حال عامة قد تؤدّي إلى فلتان الشارع، كما حصل أخيراً في السودان والجزائر، حيث أجّجت الوضع المحتقن وفجرّته قرارات عمياء للمراجع العليا ضد إرادة الشعب.
لكنه يردف: “في مواجهة تبعات ثورة تعتمل لدى العامة قاعدتها الظلم وغياب العدالة الاجتماعية والفقر والبطالة والفساد، على رأس الدولة أن يبادر إلى ثورة سلمية في البناء الفوقي لامتصاص فوضى قادمة”.
الحراكات المتفرقة قد تغدو حال عامة في حال نجحت “جيوب” الاحتجاجات الحالية والمحسوبة على المحافظات في طرح شعار مشترك مثل “العدالة الإجتماعية ووقف الفساد”. فمن شأن ذلك تشجيع بقايا الطبقة الوسطى وسكان المدن الكبرى ذات التركيبة المختلطة – بمن فيهم أردنيون من أصول فلسطينية، على الانخراط في صفوف الحراك. وقتها ستتغير الديناميكيات.
وسط هذه المعمعة وعدم اكتراث السلطات، تستمر الجدالات منذ تبوأ الملك عبدالله الثاني العرش: إصلاح اقتصادي يضع المزيد من الطعام على موائد الأردنيين وبعد ذلك تهيئة الأرضية لإصلاحات سياسية أم الإثنين معا؟
بعد الانحناء أمام العاصفة، جاءت الردّة الأردنية على إصلاحات أعقبت موجات الربيع العربي عام 2011، قبل أن تكسر شوكة جماعة الإخوان المسلمين، واسعة. في السياق، تنجح السلطات في تحييد الحراك عبر سياسة العصا والجزرة وتخويف الناس من الفوضى، التي لحقت بسوريا، واليمن، وليبيا. والحال أن البلاد انكفأت منذ 2013 إلى أجواء شبيهة بحقبة الأحكام العرفية (1957-1989)، لكن دون فرضها رسميا: تكميم الأفواه، واعتقال نشطاء بتهم عديدة منها “إطالة اللسان” وشيطنة وتخوين نشطاء وحراكيين. كل ذلك يتم باسم ضرورات المحافظة على الأمن الوطني في زمن الحرب على الإرهاب والظروف الإقليمية الصعبة.
على أن السلطات لم تستطع كسر متغير وحيد فرض أجندته على أجواء الرأي العام المحبوس تحت سقف الإعلام المتهدم. إذ دخلت وسائل التواصل الاجتماعي بقوة على الخط عبر تنظيم حراكات وإطلاق (هاشتاغات) أو (صفحات). هذا الفضاء وفّر تغطية مباشرة لكشف المستور، وللإحتجاجات المناطقية، التي تعكس تراجع هيبة الدولة كقطع طريق رئيس في حال توقيف ابن عائلة كبيرة للتحقيق في قضية ما، أو الحراكات المغيبة عن وسائل الإعلام التقليدية العامة والخاصة. في المقابل حملت بعض المنصّات معها موبقات رقمية مثل نشر صناعة فبركة الأخبار، والتشويش أو اغتيال الشخصية.
مسؤول مقرّب من المطبخ السياسي رفض الكشف عن اسمه قال في حوار مع “درج” إن الاحتجاجات المستمرة متوقعّة ومفهومة بسبب الظروف المعيشية السيئة التي تمس الجميع، وبخاصة شباب عاطلون عن العمل ومتقاعدون عسكريون. فالعلاقة الزبائنية الريعية لم تقم فقط بين الحكم وطبقة مؤثرة من السكان وإنما بين (السيستم) ورجاله ونسائه. “فالثقافة التقليدية تمر بامتحان عسير هذه الأيام، يمس هوية الدولة وبرامجها الاقتصادية والاجتماعية”، حسبما يضيف، لافتاً إلى أن النتائج “تعتمد على طريقة حل ازمة إدارة الدولة. فالتحدّي الأكبر أمام الملك هو تفاعل كل هذه المكونات مع بعضها البعض لسبب غير مقصود أو نتيجة خطأ أو تعنّت حكومي ما قد يؤدي إلى إنفجار يدخل البلاد في دوامة جديدة”.
الملك عبدالله الثاني مر بظروف دولية وإقليمية صعبة، بدأت بالحرب على الإرهاب التي أطلقتها واشنطن عام 2001 ثم انهيار نظام صدام حسين؛ عمق الأردن الاستراتيجي. ثم أينع ما سمّي بـ”الربيع العربي” وما تلاه من لجوء مليون سوري إلى المملكة. داخليا، أبتلي الملك “بنخبة من حوله صنعت فجوة كبيرة بينه وبين الشعب”، حسبما يضيف. لكن ثمّة إمكانية للخروج من النفق المظلم من خلال محاربة الفساد وإحداث إصلاحات سياسية حقيقية تغيّر أدوات الحكم.
حتى اليوم، يصرّ معظم المسؤولين والساسة أن الحراك لا قادة له، وأنه ناشئ عن خلفية مطلبية معيشية دون قاعدة شعبية أو أجندة واضحة.
التقييم الرسمي يعتقد أن القواعد التقليدية والعشائرية للنظام — وهي القوى التي تتصدر المشهد الحالي لا يملكون مشروعا موحدا. منهم من يبحث عن الشعبية، ومنهم من ينشد الإصلاح لكن دون رؤية أو أدوات. بعضهم يريد دولة دينية، ومنهم من يطرح أفكارا غوغائية عدمية تؤججها الظروف الاجتماعية، مثل إسقاط النظام. المعارضة اليسارية والحراك الساعي إلى دولة مدنية، غير مؤثرين شعبيا بسبب تركيبة البلد والتشكيك المستمر في أجندتهما. الإسلاميون غير فاعلين في الحراك – أقلها على السطح- بحكم تكسير نفوذهم. والأردنيون من أصول فلسطينية عير معنيين بالصدام مع الحكم لأنهم يدركون المخاطر المتمثلة بتقويض النظام. كما أن معظمهم يعملون في القطاع الخاص. الدولة ما زالت الطرف الأقوى وتملك الأدوات.
وتعوّل عمان على مؤتمر لندن الأخير لدعم الاقتصاد والاستثمار في الاردن وعلى تسريع تغيير قواعد المنشأ لكي تدخل الصناعات الاردنية دول الاتحاد الاوروبي وعلى قرض جديد حصلت عليه من البنك الدولي وعلى عودة الصادرات الى الاسواق العراقية والسورية. في غالبية لقاءاته التشاورية مع النخب، يؤكد الملك تفهمه للضائقة المعيشية التي يمر بها المواطن. ويعبر أيضا عن استيائه من عدم قدرة الحكومات المتعاقبة على ترجمة أوراقه النقاشية، التي حدّد فيها أطر أردن المستقبل.
إذاً أين المشكلة؟ أوامر عليا ورؤى معظمها لا ينفّذ وحكومات مشلولة!