رسالة الشعب الأردني لم تصل

الرابط المختصر

انتفض الأردنيون من أهالي مدينة معان (جنوب) ضد زيادة الأسعار، في أبريل/ نيسان 1989، بعد أشهر من توقيع الحكومة أول اتفاقية مع صندوق النقد الدولي. وتبعهم أهالي الكرك، التي كانت في حينها عاصمة القوميين واليساريين الأردنيين، معلنين مطالب سياسية واقتصادية، في مقدمها إلغاء الأحكام العرفية، وعودة الحياة النيابية المعطّلة منذ عام 1967.

هبّة نيسان، أو هبّة الجنوب، كانت نقطة تحوّل أعلن على وقعها الملك الراحل حسين البدء بإصلاحات سياسية، توّجت بإلغاء العهد العرفي وإجراء انتخابات نيابية، قد تكون الأكثر حرية منذ انتخابات 1956. وبدا أن الأردن مشرفٌ على عقد اجتماعي جديد، ومرحلة جديدة بين الدولة وخصوم (أو معارضي) الأمس من أحزاب ونقابات، بل مرحلة تصالح بين النظام والأردنيين، الذين شعروا بغبن القمع ورزمة سياساتٍ اقتصاديةٍ تضرّ بأصحاب الدخل المحدود، وفي مقدّمهم موظفو القطاع العام، والشرائح الفقيرة.

ولكن، لم يكن الأمر ليستمر، إذ اقتضت محادثات مدريد مع إسرائيل، من وجهة نظر رسمية، تمرير قانون انتخاباتٍ يقلص تمثيل المعارضة، لتمهد لإبرام اتفاقية وادي عربة مع إسرائيل. وتعمّق الأردن في النيوليبرالية الاقتصادية؛ من تقليص الرعاية الحكومية ووظائف القطاع العام، والأهم: خصخصة المؤسسات والشركات الكبرى التي تستثمر موارد الأردن الطبيعية، ما زاد من التشوّه المجتمعي، وبالتالي اتساع الغضب سنة تلو سنة.

لذا، لم يكن غريباً أن تنفجر مدينة معان مجدّداً، فهي على خط المواصلات والشاحنات التجارية والصناعية، أي المورد الرئيس لأبناء المدينة، ولم تتحمّل الرفع المتكرّر لأسعار المشتقّات النفطية تحت شعار الإصلاح الاقتصادي المضلّل، وفي ظل تزايد معدلات التضخّم ودخول الاقتصاد في مرحلةٍ من الانكماش، لأسباب إقليمية وأخرى محلية، في مقدمها السياسات الاقتصادية الفاشلة للحكومات المتعاقبة، والحكومة الحالية بشكل فجّ.

الحكومة تجاهلت المطالب المُحِقة، ولجأت، كالعادة، إلى الحلول الأمنية

لكن الاحتجاجات كانت قد بدأت أصلاً في الشمال على الحدود، حيث يرتبط دخل السكان بالنقل التجاري بين الأردن وسورية ودول أخرى، وكذلك بين سائقي عمّان. غير أن الغضب في معان، التي تشعر بإهانة التهميش، كان أشدّ تفجّراً، لكن الحكومة تجاهلت المطالب المُحِقة، ولجأت، كالعادة، إلى الحلول الأمنية، إلى أن وقعت جريمة قتل نائب مدير شرطة معان، العقيد عبد الرزاق الدلابيح، في اشتباكٍ مع جهةٍ مجهولة، بعد إعلان معان العصيان المدني، فأصبح الحلّ الأمني ذريعة للحكومة في عدم التوقف عن السياسات الاقتصادية، الذي قد يهدئ الإضرابات إلى فترة، لكنه لن يهدئ النفوس.

لم يبدأ المشهد المستجد منذ أيام في الأردن بالإضرابات، بل هي سلسلة أحداث كان سببها الرئيس تجاهل الحكومات المتلاحقة، وصنّاع القرار، المظلومية الشعبية، أي إفلاس سياسي يرافقه استهتار بمعاناة الناس وتحذيرات ونصائح من عدة جهات، جرى التعامل معها وكأنها تهديد للوطن، فيما استمرّت اتفاقيات التطبيع مع العدو الصهيوني، وشاهد الأردني، بأمّ عينه، عملية ربط مصادر الطاقة بمن يهدد الشعب فلسطيني وأمن الأردن، من اتفاقية خط الغاز "الإسرائيلي"، المسروق من الفلسطينيين، إلى تبادل المياه المحلاة مع الطاقة المولّدة في صحراء وادي عربة، إلى إنشاء "بوابة الأردن" لتكون معبر التجارة والصناعة بين الكيان الصهيوني والعالم والعربي، من دون أن تأبه الحكومات باعتراض الأردنيين وتدهور وضعهم المعيشي والخوف من فقدان أمانهم.

وفوق ذلك، جعل توقيع الأردن اتفاقيةً مع الجيش الأميركي، تجعل من البلاد قاعدةً غير مرئية لعلميات "نوعية" في المنطقة، لا تدري عنها السلطات الأردنية شيئاً، وتتيح دخول أفراد وجنود وخبراء أميركيين وغير أميركيين وخروجهم من دون رقابة أو حتى معرفة السلطات الأردنية هوياتهم، وكأن الأردن لا سيادة له على أراضيه. في الوقت نفسه، ازداد التشديد على الأصوات المعارضة، أو المنتقدة حتى من داخل السلطة ومن رحمها، وازداد تقليص مجالات الحريات العامة وحرية التعبير، وتصاعدت وتيرة اعتقالات بين صفوف الناشطين، اعتقالات وإجراءات توقيف تعسّفية غير مفهومة ولا مبرّرة، فكيف يمكن استيعاب اعتقال الخبير البيئي وأحد أهم مرجعيات قضايا المياه، سفيان التل، ثم إخلاء سبيله بكفالة عقب ضجّة واسعة عن سجن رجل في السادسة والثمانين من عمره، أي أنّ محاكمة أو عقوبة تنتظره؟

معظم المسؤولين يتعاملون باستخفافٍ مع المظلومية الشعبية

توالت الأحداث وتتوالى، ولم يعد توجّه القرار الرسمي ومسبباته مفهوماً. نعي أن الأردن الرسمي يعتمد على تحالفه مع الولايات المتحدة وعلى دعم واشنطن، لكنه دعمٌ مسموم، فربط الأردن باتفاقيات تطبيع مع إسرائيل هو شلّ لقدرة الأردن على حماية نفسه. وغير مفهوم كيف يربط النظام نفسه باتفاقيات مع واشنطن وتل أبيب، فيما تصمت واشنطن على توحّش الحكومات المتطرفة الصهيونية التي تزداد عنصرية وقباحة، ولا تكترث بالأردن ولا حتى بالنظام نفسه، فإذا كانت المسألة أن النظام يريد حماية نفسه، فالرضوخ السياسي لواشنطن لن يحمي الأردن ولا حتى النظام نفسه من حكومة صهيونية لا ترى حدوداً لتوسّعها، ولا تأبه للحكومات العربية التي ترتبط باتفاقيات معها.

المشكلة أن صنّاع القرار في الأردن لا يبدو أن لديهم إدراكاً لمصدر الخطر، فالتهديد لا يأتي من مطالبات شعبية محقّة، وإنما من إهمال التهديد الاستراتيجي الماثل أمامهم وأمام العالم. صحيحٌ أن الثورات الاجتماعية تهدّد الأنظمة في العادة، ولكن التوجّه إلى محاولة سماع الناس وتقديم حلول، أو على الأقل إبداء الاهتمام بمشاعر المعاناة، يقوّي الداخل في مواجهة خطر صهيوني زاحف.

رسالة واضحة تزداد علوّاً في صوتها، لكنها لم تصل، والهوّة بين الدولة والشعب تزداد نتيجة فقدان الثقة

الغريب أن معظم المسؤولين يتعاملون باستخفافٍ مع المظلومية الشعبية، هناك انسلاخ مخيف عن الواقع، وهناك تخلٍّ عن المسؤوليات، فماذا يفعل رئيس الوزراء أو الوزراء إذا كان تبرير بعضهم أنه "ليس باليد حيلة"؟! هذا استهتار وعدم احترام للموقع وللذات. وماذا يفعل المستشارون في الديوان الملكي؟ وما فائدة لجان التحديث السياسي والاقتصادي، والإداري، وورشات العمل، وما قبلها وما بعدها؟ يبدو أن هناك قراراً بفرض إجراءات اقتصادية قاسية على الأردنيين حتى لا تواجه الحكومات المشكلات الجذرية، لأن النخبة، التي تتقلص في حجمها وتزداد في نفوذها، تُقدّم مصالحها على مصالح باقي الأردن.

حين بدأت التغييرات الاقتصادية في عام 1989، ولن أسمّيها "إصلاحات" وفقاً لتسمية صندوق النقد الدولي، كانت هناك فرصة للبدء في تحويل الأردن من الاقتصاد الريعي إلى الاقتصاد المُنِتج، فإذا كان تقليص جهاز الدولة هو في صلب النظام الريعي، الذي يوفر الوظائف مقابل الموالاة، فالبديل هو اقتصاد مُنتج يوفر فرص عمل في كل أطراف الأردن ووسطها، ويقوّي رعاية الدولة الصحة والتعليم، ولا يترك الناس فريسة لإثراء القطاع الخاص والفساد على حسابهم. لنأخذ بريطانيا نموذجاً لتأثير النيوليبرالية على ضمور نظاميها الصحي والتعليمي العامين، ولنأخذ العبرة. هذا نموذج فيه خراب الدول، فنحن نتحدّث عن الأردن الذي يواجه تهديداتٍ حقيقية تحتاج إلى تعاضد داخلي، وليس إلى تعميم الشعور بالغبن والاغتراب بين الأردنيين.

من الواضح أن هناك رسالة واضحة تزداد علوّاً في صوتها، لكنها لم تصل، والهوّة بين الدولة والشعب تزداد نتيجة فقدان الثقة. نعم؛ القبضة الأمنية ممكنة، لكنها ليست حلّاً، بل إشعال نار لم نرَ إلا شذراتٍ منها.