رجل تعيش المطربة فيروز داخل حنجرته وشخصه

الرابط المختصر

ماذا يعني أن يعشق إنسان إنسانا آخر، ويصل في أحيان كثيرة إلى حد التقمص الكامل لشخصه وصفاته وصوته وأسلوبه بالحياة؛ لعل الابتعاد عن الآخرين والانعزال، يدفعه إلى ذلك...، هي حكاية رجل لبناني يدعى أيلي حبسته أمه في البيت، لا زيارات إلا برفقتها ولا صخب الطفولة مع أولاد جيله، حجة تلك الأم هو الخوف عليه من الناس كونه وحيدها، لذلك انتهجت هذه السياسة حتى كبر وترعرع بعيدا عن أطفال بعمره يتوقون للعب والاحتفال بطفولتهم، متزامنا ذلك مع اصطحابه لزياراتها النسائية، ما أثر على شخصه في كبره.



كل تلك المؤشرات خلقت عنده الانعزال الإرادي وحب الغناء داخل غرفته، يبحث في أرشيف أغنيات سيدة أحبها وعشقها إلى حد الجنون، إنها السيدة فيروز، غنّاها متقمصا شخصها في المسرحيات الرحبانية، مطلقا عنان صوته داخل غرفته أو الـ "بلكونه"، مغنيا روائعها لكن، لا أحد يسمعه.



ذات يوم سمعته أمه، وهو يغني ويدندن وكان في أقصى حدود التقمص لشخص فيروز، بالغناء والنبرة وحتى بالطلة، لتقول له "مين هذا أبني، صوتك فيروزي، أنت أبني حقا!"، وهنا كانت الانطلاقة الأولى له لمن يسمعه ويجد بصوته صوت فيروز.



ففي إحدى ليالي فيروز في لبنان، وخلال بروفاتها قبل الحفل بيومين، اندفعت أم أيلي ومعها أبنها "الفيروزي"، إلى السيدة لتقول لها أن أبنها يغني لها جيدا، وطلبت فيروز منه الغناء وفعلا غنى وسط ذهول فيروز ومن معها، لكن قالت له معلقة "شو شو شو، آخذ من صوتي معقول، شو بدك بالشغلة هذه، ألتفت إلى دراستك أفضل لك"، لكنه مع مرور الأيام والسنين نمت لديه هواجس الغناء لفيروز وحدها وتعاظمت إلى أن استضافته إذاعة صوت لبنان، بعد سماعها عن شاب يقلد فيروز، وهنا دخل استوديوهات الإذاعة منشدا روائع فيروز، ومثيرا في الوقت نفسه عاصفة من الاهتمام حوله، مروجة بذلك أغنيات لفيروز من توقيعه، وفي هذه الفترة تغيرت حياة أيلي.



أنتقل أيلي أو أيلي فيروز كما يطلق عليه من يعرفه، من عالم الغرفة إلى عالم الإعلام والناس، وبدأ الاهتمام الإعلامي مسلطا على ذاك الشاب الضعيف المعزول والمبعد عن العالم، مع الإشارة إلى تركيز الأضواء على شخص فيروز فيه، وبعد هذه الزوبعة المثارة حوله، طلبه تلفزيون لبنان في برنامج غنائي يعتمد على تقليد الفنانين واشترك به، وفعلا حاز على الجوائز والاهتمام، وفي تفاصيل الإعداد لإحدى حلقات البرنامج تحدى اللجنة المشرفة حول أغنية وجدوها صعبة عليه وهي "خدني زرعني" وهم أرادوا أغنية "سوا ربينا"، لكنه غناها وفعلا فاز، لكن ماذا حصل بعد ذلك!



بدأت المجلات الفنية والصحف تتحدث عن شاب لبناني صغير يقلد فيروز ويشبه صوتها كثيرا: فكتبت مجلة الشبكة أنه "موهبة كبيرة، طفل يغني فيروز ويشبه صوتها كثيرا، صوته ثروة، علينا أن لا ننميها كي لا تنعكس سلبا على صاحبها"، هذه أول ضربة لأيلي الذي بدأ يعاني من تحرشات المعجبين واهتمامهم وإعجابهم على أساس أنه يتقمص صوت سيدة تعتبر رمزا في لبنان.



الضربة الثانية لأيلي، جاءت من أحد نقاد الموسيقى والغناء في لبنان ويدعى رفيق حبيقة، ذلك من خلال حديثه عن أيلي، والذي قال في برنامج بتلفزيون لبنان "هل يمكن لنا أن نحب ونعجب بصوت إمرأة تغني لوديع الصافي بالتأكيد لا، كذلك الأمر على رجل يغني للسيدة فيروز". هذا الرأي أثار أيلي وأقعده في البيت أياما وأسابيع حزينا، واجدا رأي الناقد بالكارثة والمصيبة وقعت عليه لا يعلم أحد كم صدمته.



بقي أيلي في البيت يستمع ويغني لفيروز، غير آبه من ما حوله من حياة تضج وأناس يمشون في هذه الدنيا، إلا أنه حاول مرارا أن يتصل بفيروز عبر الهاتف، يغني لها عند فتحها الخط تستمع لحظات ثم تغلق الهاتف وهكذا، مضت الأيام إلى أن توفيت أمه؛ تلك الحارس على مهد ابنها والسبب في أضعافه وإخافته من العالم والدنيا المحيطة به، توفيت وألقى حدث الوفاة على نفسه الحزينة الضعيفة المعاناة والألم.



استمرت الدنيا، وأيلي يغني لفيروز يقف على باب غرفته، ينظر إلى صور السيدة المنتشرة كثيرا على الجدران، يغنيها كأنها تسمعه تحسه تعيش معه، يتخيلها دوما يتحدث معها ويقول لها ما رأيك بصوتي لكنها لا تجيب ويتذكر ما قالته له قبل سنوات وسنوات "شو بدك بالشغلة كمل دراستك"، لكنه لا إراديا أصبح منقادا لصوتها وأغنياتها يقول "كم أعيش أسمو بداخلي حين أغني لها أغنية لبيروت أو زهرة المدائن".



أبتعد أيلي عن العالم مرغما في طفولته وابتعد عن فيروز مرغما في كبره، ولكنك ستجده في شوارع بيروت والروشة والحمرا والصنايع ووسط بيروت وفي ساحة الشهداء يمشي يدندن أغاني فيروز، ولا يطلق العنان لصوته إلا داخل جدران غرفته، يشدو روائعها، يتلمس أخبارها من بعيد ويكمل حياته كما هي رجل أحب فيروز وسمح لها أن تعيش في أحلامه وخياله وحتى في حنجرته وشخصه.

أضف تعليقك