ربيع ٢٠٢٠

إنه يوم الـ .... لم أعد أذكر إلا  أنه أحد أيام الملل في عام الجائحة،  يبدو أنه فصل الربيع لو أن "لسعة" من كآبة  المربعانية تنخر في العظم بين تسجيل حالة إصابة وموت، إلا أنه الربيع هذا الفصل  لطالما أثبت أن ما رُسم من صور ذهنية في مخيلتنا عنه كان مغلوطا، وصولا إلى هنا إلى الوباء والابتلاء. 

تسارعت- فجأة-  الأحداث قرار بتطبيق قانون الدفاع، ثم عزل  عمان عن المحافظات أو بصورة أكثر دقة عزل كل محافظة  عن الأخرى، قرارات بصرف الرواتب مبكرا للقطاع العام... طيب والخاص؟ سؤال  يقاطعه سؤال زميل "عندكم كمامات؟" ويقدم مساعدة أنه يعرف صيدلية فيها الكمامات  والقفازات بسعرهم الطبيعي. حسنا سأبدأ التسوق من هناك "ومش مشكلة" الراتب لدي بطاقة بنكية للطوارىء تكفي لأن أصرف بمقدار كافِ للخوف. تقول صديقتي  "لن تكون الفترة القادمة سهلة"، يعني يجب أن أشتري مسكنات وخافضات حرارة لا تتعارض مع مرضى الضغط، فأمي تعاني من ارتفاع في الضغط وفي وتيرة القلق أيضا. وكانت التنويهات على الراديو تحذر من التقارب الإجتماعي  ومن لمس الأسطح وتشيد بأهمية غسل اليدين لمدة 20 ثانية بالماء والصابون والمعقمات.

يوم طويل في الأسواق أخذت أكثر من حاجتي من القهوة وكان ذلك أكثر القرارات حكمة على عكس ما قمت  به من حرص شديد أن تكون جميع المواد التعقيمية هي من ماركة "ديتول" دون أن تغريني العروض والماركات المقلدة، لأقرأ مقالا بعدها يشير إلى  أن أفضل المواد التعقيمية الكحول والكلور بمقدار معين مع الماء، لم يؤثر ذلك المقال كثيرا، حيث أن هناك وباء في الخارج وكما نقول "زيادة الخير ... خير"، كما  أن رائحة الديتول "الأصلي" تشعرك بأن تعيش حجر منزلي صحي، ولا أعلم منذ ذلك اليوم لماذا استغنت أمي عن معطرات الجو والبخور، المهم أن الطبيب قال عن أهمية التباعد الإجتماعي لكسر سلسلة العدوى، وتحدث عن أهمية تغذية جهاز  المناعة بفيتامين "سي" فتذكرت أن نسيت 2 كيلو برتقال عند الخضرجي!

كان آخر يوم  قبل الحجر، أما بعده  صار الوقت مجموعة من الأحداث والمشاعر والقرارات، مثلا أذكر أني حصلت على تصريح لأن طبيعة عملي تطلب ذلك، حينها شعرت أنني أقل توترا وأكثر اطمئنانا لا أعرف لماذا مع أنني أصدق الأطباء وارفع شعار كسر سلسلة العدوى، وأردد  من بعدهم "التباعد الاجتماعي هو الطريق للانتصار على الفيروس"، المهم أنني حين خرجت أول مرة للعمل وفي طريق العودة مساء "انشلع قلبي" شعرت أن السماء قريبة جدا وأن المدى ضيق، وأنني وحيدة أسمع صوت الصمت يئن ، صراحة لم أحن إلى  الأزمة ومازلت ولا أعتقد أن شعورا بالحنين إلى الأزمة سيصيبني، وبصراحة أكثر أنا لم أحن لشيء ولم أحزن على شي، كل ما في الأمر أني كنت أشعر بالحنين والحزن ... الحنين والحزن كقيمة. صحيح هذه فلسفة لكنه شعور مهيب يحتاج إلى قليل من الفزلكة، تمنيت أن لا أعاود  الخروج حتى لا أبتذل الشعور وتتكرر تلك المشاعر ... أريدها كذلك لمرة واحدة.

وللجائحة ايجابيات كأن  تتحقق أمنيتي دون البوح أو الطلب، نعم  سيتحول العمل إلى المنزل سأحتفظ بمشاعري و أسترق  مشهد العودة كلما أردت ذلك -كأن أوظفه في نص كهذا-، لأن أمنيتي تحققت تحولت للمثالية تقمصت شخصية مدربي التنمية البشرية وبدأت أنظر  بفوائد الفيروس على البيئة والأرض، وأهمية استثمار الوقت بالقراءة والتعلم ومواجهة التحديات والانتصار عليها، حتى أنني أصبحت من مشجعي الطعام الصحي، وكيف  يمكن أن يكون الإنسان صالح وبطل وكررت من وراء الأطباء "كسر سلسلة العدوى ... التباعد الاجتماعي"، ومارست دور المثقف غير المشتبك مع الجماهير وانتقدت تدافع الناس وشربت  قهوتي وصنعت "كوكيز" مرتين الأولى لمحاولة فاشلة والثانية كي أجلس وأقول " عادي يخبزوا بالبيت .. أصلا الكربوهيدرات ليست أساسية في مائدتنا التقليدية .. لماذا كل هذه الفوضى".

لم تدم  تلك الشخصية حيث أني أنتمي لبرج هوائي، وحاولت كثيرا قبل الجائحة  أن أسيطر على مزاجي لكنه أكثر خبثا من الفايروس تمكن مني وأعلن انتصاره  دون رحمة، وها هو يتمكن مني مرة ثانية ويسخر من ايجابيتي، ويذكرني أن تأجيل الأقساط لن يشمل أيار وحزيران، وأن  الحياة لن تعد إلى طبيعتها قبل ذلك، وأني قد لا أحصل على عقد عمل في تلك الفترة، وأن القطاع الخاص قد بدأ فعلا  "يولول" وأن الأغلبية "قطعت ايدها وشحدت عليها"، الحلو في المزاجية أنها لا تتركك للقلق كثيرا حيث أن ضحكة صفراء ارتسمت على وجهي  وأنا أتذكر وهم الطموح وتكرار عبارة "الفشل أول طرق النجاح" وحمدت ربي كثيرا أني لم أصدق تلك الأوهام يوما وقد جاء الوقت الذي يثبت سطحيتها، إلا أنني أصدق   ما يقوله العلماء وأردد " كسر سلسلة العدوى، ثم التعقيم، والتباعد الاجتماعي حتى لو عادت الحياة إلى طبيعتها".

لا أعرف ما اليوم  لكن أشعر أنني بدأت أستفز من عبارة  "التباعد الاجتماعي" ولكني مازلت أصدق  العلماء، وأكررها كلما سمعتها من طبيب، وأقف لساعات كلما سمعتها في نشرة اخبارية وكلما كرروها على مسامعنا وكأنها زهرة الحياة التي وجدوها على سفح جبل في فصل ربيع  بارد وجاف كهذا.

 

أضف تعليقك