ربيع سوق المخيم في انتظار المسنات
لا توجد تسمية محددة لهن، ولا يأبهن بما يقولوه الناس حولهن، حيث يتخذن من الأرصفة مقرات لبيع منتجاتهن المنزلية، مصنوعة بأيدي مثقلة بالتعب.
أجبان، ألبان وحليب طازج وخضار..مركونة داخل أكياس قش أو بلاستيك أو في تنكات ألمنيوم، في انتظار من يريد الشراء.. سيدات مسنات يتخذن من الشارع الرئيس في مخيم الحسين مكانا لهن لأجل بيع منتجاتهن المنزلية.
ورغم خصوبة البيع والعمل في الربيع إلا أن بعضهن يعملن في الصيف أو في الشتاء، فلا فصل يعطل عملهن ولا عمر يقضي على حركتهن؛ لكنهن يفضلن الربيع كموسم بيع نشط..
رحلة الربيع
هن القادمات في الغالب من أماكن بعيدة..البقعة، جرش، الوحدات والسلط، والمحظوظة فيهن هي التي تغامر بدفع مبلغ من المال لسيارة أجرة أو باص ميكرو، لتصل إلى سوق مخيم الحسين وتحديدا شارع 12 الرئيس، أما الباقيات يعشن معاناة النقل العام..رافعات بضائعهن على رؤوسهن الملتحفة بالقماش الأبيض الشفاف أو بمعاونة أحفادهن.
لم أجد في جولتي الشتوية سوى مسنتان، وفي البداية لم تريدان التحدث لنا عن عملهن، مكتفيات بالصمت، وإن تفوهن بشيء يكون لأجل بيع ما صنعته أيديهن المحروقة من شمس الصيف والمتهالكة بفعل الزمن.. "الجبن نظيف طيب..جرب"، "الحليب طبيعي من ماعز لا يأكل إلا العشب النظيف"..قالت إحداهن بدون أي فعل.."لا زلنا بهمتنا" وهي الكلمة التي شاركت فيها أيضا أخرى..
أن تعيل مسنات عائلات
سيدة طلبت مني أن أقل لها "حجة".. مبادرة بالقول: "أنا رفضت أن تعمل زوجة أبني معي فهي تساعدني الله يرضى عليها في حمل الألبان من البقعة إلى الحسين..هي حامل الآن ولدى ابني ابنتان وصبيان والآن نريد أيضا صبي ولا تهون علّي مذلة العمل أن تطال يديها الناعمتين. حرام"..وأولاد الحجة أم أحمد، كما تعرفهم كالتالي: واحد يعمل في محجرة بالزرقاء وزوجته تقطن معي في الدار، والثاني عاطل عن العمل، والثالث مقعد لا يتحرك أبدا..أما البنات متزوجات وفي دورهن".
ظلمة العمر وسوء الحال لم يقعد الحاجة أم أحمد أو المسنة التي تجلس بمحاذاتها والتي شاطرتنا الحديث بالتأكيد مرة أو بالمداخلة أكثر من مرة ..فالعمل بالنسبة لهن ليس للقمة العيش فحسب إنما "اعتدنا العمل والحراثة، فالكثيرات منا تعمريات (نسبة إلى قرية تعمر في فلسطين) عشنا على حراثة الأرض وصناعة الألبان في فلسطين".
المسنة المحاذية لأم أحمد قالت بلهجة حادة.."نحن لا نشحذ..نحن نعمل" كررتها أكثر من مرة..أما أم أحمد فقالت: "العمل مش عيب علينا، من طول عمرنا شقيانات بالعمل والزراعة وصناعة الجبن".
الناس، وهم عامة الشعب يقفن أمام ما تعرضه المسنات، وقلة من يفاصلنهن لأن "الحال الأحوال يمّا" كما قالت أم أحمد..
نصّية جبنة بيضا..
وفي حواري مع أم أحمد..
حجة، كم سعر نصّية تنكة الجبن الأبيض؟
"يّما، لا يطلبون أن أخفض تنكة الجبن الأبيض..أطلب 14 دينار أو 15 حسب تعبي وحجم النصية..والناس كريمة تعطيني 15 دينار أو زيادة، الناس كريمة تشعر معنا ".
من يشتري منتجاتك؟
"كثر".
كم يكلفك إعداد الأجبان أو الألبان؟
"كثير من الوقت يّما".
مصدر الحاجة أم أحمد، الأغنام والماعز التي تربيها في حاكورة بيتها في البقعة، وعددها كما قالت وكي لا أذهب في مخليتي إلى أعداد كبيرة.. "سبعة أغنام وخمس ماعز شامي"..
المسنات مصدر استقطاب للزبائن
علاء 40 عاما، لديه محل في شارع المخيم، يبيع تنكة الجبن الأبيض بـ14 دينار، كان في السابق يتذمر من مضاربة السيدات له، فمنتجاتهن على حد قوله "تفتقر لشروط الصحة العامة" ورغم ذلك استطعن أن يؤسسن قاعدة من الزبائن "الدفيّعة" وتبيع السيدات أو كما يلقبن بالحجيات تنكة الجبن الأبيض بـ17 دينار و"الزبون كما رأيت مرة أنه دفع لها 30 دينار على النصّية وذهب".
ويقتنع علاء، أن تلك الحجيات أصبحن رافدا أساسيا للزبائن في سوق المخيم، ولا يمكن تجاوزنهن.."أعلم أن هناك أناس يبحثون عن الصنع اليدوي طالما وثقوا بنظافة السيدة التي تصنع الجبن، وخالي واحدا من هؤلاء فرغم بيعي المنتجات وبمواصفات صارمة ومن مصانع محترمة، إلا أنه يشتري من أم محمود نصّية جبّنة كل سنة..وأنا لا أمانع بالنهاية لأنه وجد جبنها أطيب".
ما معنى السوق بدونهن!
أبو أحمد عطية صاحب محل مجاور أيضا لمحل علاء، يعتبر أن نظافة المنتجات التي تبيعها السيدات متفاوتة من سيدة عن أخرى، "لكنهن موجودات ويستقطبن زبائن من الطبقة المترفة، ونتّسبب من ورائهن، إذ يشترينا مني الأكياس والقماش ومعدات كثيرة بالإضافة إلى الزبائن الذين يزورون محلي من ورائهن. بصراحة أعتبرهن جزءً أساسي من السوق وأتمنى أن تبسّط إحداهن أمام محلي فهن بركة".
السيدة بدرية، لا تشتري الجبن الأبيض إلا من الحاجة أم داوود، وهي واحدة من عدة سيدات قطعن شوطا في الاستمرارية في العمل بالسوق وأصبحت أسمائهن علما في بيع منتجات الألبان..تقول بدرية: "أم محمود، أم داود، أم أحمد..من أكثر السيدات المسنات اللواتي يعملن بجد، ويحافظن على ثقة زبائنهن لأنهن نظيفات في إعداد الجبن وتحديدا اللبن والحليب الذي يتطلب نظافة كبيرة".
عمر من العمل
وعمر أم محمود وأم داود المهني في سوق المخيم بلغ السابع عشر، استطاعتا أن لا تنافسان المحلات وإنما تكونا جزءً أساسيا من السوق ولا يمكن المرور عنه دون السؤال عن سوق الأجبان المصنوع بأيدي تلك المسنات.
وفي وصف حال أم أحمد..التي تحدثت معنا.."زوجة ابني تساعدني دائما، وبناتي إذا سمح لهن أزواجهن بزيارتي..فهن بعيدات عني، كل واحدة في مكان ما من الأردن"...أم أحمد تقول وهي التي استمرت في الشتاء تبيع بعض منتجاتها أما الباقيات يأخذن الراحة فيه..لأن فصل عملهن هو الربيع.."ألا نستحق فصلا للراحة" قالت المسنة المجاورة لأم أحمد.
صعوبة العمل تزداد وطأة في الرحلة من الدار إلى السوق..ولديها القناعة أم أحمد أن سوق مخيم الحسين هو المكان المناسب لبيعها.."الناس اعتادوا علّي لأبيع هنا، والزبائن اعتادوا أن يأتون إلينا هنا"..والحاجة المجاورة لها خرجت عن صمتها وموافقتها لكلام الحاجة أم أحمد المستمر بالقول: "كل العالم يأتون هنا لأجل الشراء منا..ناس أولاد أكابر وناس أولاد عاديين زينا".
وإذا ابتعدت أكثر عن المسنات (من باب توسيع زاوية العدسة) ستجد خلفهن محلات تجارية تبيع أيضا الألبان والأجبان، وبعد جولة فيها، فلن تجد فرقا في الأسعار، وقد تكون المسنات أقل سعرا إلى حد ما..ووفق عزام وزوجته اللذان يقطنان في بيت مطل على السوق.."الحجّيات يعملن بإخلاص في ما يصنعنه والكل اعتاد على ألبانهن الطيبة والدسمة..شخصيا لا أشتري منهن لأن أسعار منتجاتهن مرتفعة أو إذا كان مناسبا فنفسي لا تهون علّي إلا وإعطائها زيادة عن المطلوب وللأمانة وضعي المادي لا يسمح لي فاختصر ذلك بشراء من المحلات".
وأخيرا
الآن، وفي الشتاء غير الماطر، لن تجد المسنات، وإن كانت واحدة منهن في السوق ، ستكون من باب الصدفة، إذ يأخذن إجازتهن السنوية في الراحة والتحضير لموسم جديد في الربيع القادم ومعاودة الإنتاج وتحد أعمارهن بالعند ورفض أن يصبحن أسيرات في بيوت تنتظر رحمة الرحمن أو الوقوف على باب صندوق المعونة أملا في مال لا يكفي لشراء أعشاب للماعز الذي تعيش من ورائه تلك المسنات ومن ورائهن عائلات تأكل من عرقهن.
على هامش التقرير:
المسنات يحصدن شعبية كبيرة في سوق مخيم الحسين..لذلك أسأل عن أم محمود، أم داود وأم أحمد..سيقولون لك عن الحجيات وعن مسيرتهن المهنية وشخصياتهن الكفاحية في الصمود أمام فقر الحال..
رفضت المسنة أم أحمد والمسنة المجاورة لها ولغاية الآن أجهل لقبها..رفضتا التصوير..من باب أنهن غير مقتنعات بالتقرير الذي نشر..
أصحاب محلات الألبان يتمنون أن يحل الربيع سريعا كي تعاود المسنات ويعود الازدهار والزبائن..
أمانة عمان، كانت تضيق الخناق على المسنات، ولكنها سرعان ما أدركت حجم المسنات في السوق وحب الناس لهن لذلك لا تقترب منهن وإنما إلى أصحاب البسطات المجاورة لهن..
إستمع الآن











































