دريدا بعد الحادي عشر من سبتمبر: باراديم المناعة الذاتية وتفكيك السلطة

دريدا بعد الحادي عشر من سبتمبر: باراديم المناعة الذاتية وتفكيك السلطة
الرابط المختصر

 

في نصوصه بعد الحادي عشر من سبتمبر: المقابلة مع جيوفانا بورادوري بعنوان (المناعة الذاتية: انتحارات حقيقية ورمزية،2003)، و(المارقونRogues، 2005) ، و (الوحش والسيادة،2008) يكثف دريدا توظيفه لباراديم المناعة الذاتية ـــ حيث تنقلب الدفاعات على ذاتهاــــ لتكون بمثابة نقد للحادي عشر من سبتمبر وللسياسات الديمقراطية. وفي حين أن المقابلة مع بورادوري تتناول سياسات مرحلة ما بعد الحادي عشر من سبتمبر مباشرة، يوسع دريدا في (المارقون) تحليله من أجل النظر في منطق المناعة الذاتية للسياسات الديمقراطية.

 

في (المناعة الذاتية: الانتحار الحقيقي والرمزي) تشكل الهجمات على مركز التجارة العالمي الجزء الأكبر من حديث دريدا، كما أننا نرى هنا التحول الأكثر دراماتيكية في تفكيره حول مفهوم المناعة الذاتية. بينما يمكن القول إن غرض دريدا الأساسي في المقابلة هو تعقيد فكرة الحادي عشر من سبتمبر كحدث غير مسبوق، إلا أن الأكثر إثارة للاهتمام هو الطريقة التي غير فيها الحادي عشر من سبتمبر مفاهيم دريدا عن السياسات الديموقراطية من خلال وضع قضية الحياة في المركز.

 

في(المارقون) يطور دريدا نقدا مناعيا ذاتيا للديموقراطية من خلال وضعها ضمن التنظيم السياسي ذاته. في (المناعة الذاتية) يطبق دريدا خلاصات تنظيره عن المناعة الذاتية في (أشباح ماركس،1994)، حيث مفاهيم الحياة والموتوفي (الإيمان والمعرفة،2002) حيث مفاهيم الحياة البيولوجية والحياة المتعالية على أحداث الحادي عشر من سبتمبر. يحلل دريدا ثلاثة أعراض للمناعة الذاتية الإنتحارية في الحادي عشر من سبتمبر. يحدد العَرض الأولمن المناعة الذاتية الهجمات الإرهابية في الحادي عشر من سبتمبر بوصفها أثرا بعيدا للحرب الباردة، ما تبقي من"الحرب الباردة في الرأس". يميز دريدا نقده بمصطلحات الحرب الباردة لأنه يضع إرهاب الحادي عشر من سبتمبر وما نجم عنه من الحرب على الإرهاب ضمن السياسات الأميركية. ولأن الولايات المتحدة تحتفظ بموقفها السياسي حتى بعد انتهاء الحرب الباردة، فهي وحدها التي "تمثل القوة المفترضة النهائية للقانون". التركيز على الوحدة أو العزلة المفترضة للولايات المتحدة الأمريكية ذو مغزي بالنسبة لدريدا، لأن الاستثنائية الامريكية هي المبدأ التنظيمي الإبتدائي الذي يميز فترة ما بعد الحرب الباردة: "قوة القانون"و" [أمريكا] هي هدف العدوان (الهدف المعرض، تماما، للعنف، ولكن المكشوف أيضا" بشكل متكرر "لكاميراته الخاصة وضمن مصالحه الخاصة) الذي يبدو كما لو أنه يصدر من الداخل". وهكذا وبدلاً من تصور الإرهاب بوصفه غزوا أجنبيا، يستخدم دريدا باراديم المناعة الذاتية للتركيز على آلية دفاعا لوهم السياسي الأمريكي ذاته. لقد تحول الخوف من سياسات الحرب الباردة إلى سياسات الحماية الذاتية الإنتحارية بعد سقوط الاتحاد السوفياتي. وفي حين أنه قبل الإنهيار استخدمت أمريكا شبكة واسعة من الدفاعات المناعية،إلا أنه بعد الحرب الباردة كانت بالضبط هذه الحمايات هي التي تحتاج أمريكا إلى حماية نفسها منها.

 

وبناء على شرحه للمناعة ذاتية في "الإيمان والمعرفة، "يعرف دريدا المناعة الذاتية مثل"السلوك الغريب للكائن الحي، الذي يعمل بنفسه على تدمير أجهزة حمايته الخاصة، بطريقة تشبه الانتحار،" ويحصن نفسه من مناعته الخاصة". هنا أيضا، ومرة أخرى، ما هو على المحك في توصيف دريدا هو المفهوم السياسي القانوني للمناعة الذي بموجبه يتم إعفاء شخص أو مؤسسة من الرسوم ومن " التعويض "عن استحقاقات وواجبات الجسم". وعلاوة على ذلك، أسس دريدا نقده للحادي عشر من سبتمبر ليس في جسد كائن (غير محدد)، ولكن في واحدة من المقصورات البيولوجية الدقيقة الأساسية من أجل توجيه قضية الدولة القومية ضمن قضايا الحياة والمعيشة. ضمن السياسات الحيوية.

 

والسؤال الذي يطرح نفسه عند هذه النقطة هو: لماذا كان الحادي عشر من سبتمبر في غاية الأهمية للفكر السياسي عند دريدا؟ كان هناك الكثير من التكهنات حول سبب أن للحدث كل هذا التأثير على النظرية السياسية. وفي حين أن مفكرا بارزا مثل جان بودريار يقول ليس أن "مسرحية التاريخ والسلطة كلها قد تعطلت بسبب الحدث [ الحادي عشر من سبتمبر]، ولكن أيضا، شروط التحليل"، نجد أن دريدا بالمقابل كان أكثر حذرا في تحليله. لا يختلف دريدا مع عبارة بودريار، لأنه لا يمكن إنكار أن هناك شيئا ما قد تعطل بسبب الحادي عشر من سبتمبر، ولكن عبارات بمثل هذه الخطورة تخفي المشاكل المنهجية في السياسة الأميركية. يؤكد دريدا في(المارقون)"إن [سياسات المناعة الذاتية الانتحارية] قد حدثت منذ زمن أبعد مما يعتقد الكثيرون"، ولكن بعد الحادي عشر من سبتمبر بدأت "بطريقة جديدة وبوتيرة مختلفة". يشير دريدا إلى أنه خلال الجزء الأخير من الحرب الباردة، زرعت السياسات الدفاعية الخارجية الأمريكية الأصولية الإسلامية لمحاربة التقدم السوفيتي في الشرق الأوسط وأنه من خلال هذه البرامج أصبحت جماعات مثل تنظيم القاعدة قادرة على بلوغ التدريب اللازم لهجمات الحادي عشر من سبتمبر. وعلاوة على ذلك، بعد سقوط الإتحاد السوفييتي حُرمت هذه الجماعات من الدعم وأُصيبت بخيبة أمل من الجيش الأمريكي. النقطة هنا هي أن دريدا يرى في سقوط الإتحاد السوفيتي محفزا لأزمة المناعة الذاتية التي عجلت بالحادي عشر من سبتمبر. وتبعا لذلك يمكن القول إن تاريخ أحداث الحادي عشر من سبتمبر أبعد ما يكون عن الفعل الفوري للهجمات. وبالمثل، فإن الخوف من الحادي عشر من سبتمبر لا يُختزل في الهجمات وحدها.هناك بالفعل ثقافة رعب خلفتها الحرب الباردة التي مُنحت حياة جديدة بعدالحادي عشر من سبتمبر.

 

العَرض الثاني من أعراض المناعة الذاتية الإنتحارية التي حددها دريدا في المقابلة ينطوي على صدمة الأحداث، ذلك أن كل من الإرهاب الفوري على البرجين، فضلا عن الهجوم المستقبلي "لا تنشأ الزمانية فيه لا من الآن الحاضر ولا من الحاضر الماضي ولكن مما سيأتي لما لا يمكن عرضه ". هذا "الذي سيأتي" ينتج الرعب الأسوأ المقبل لأن التهديد غير معروف ومضغضع مقارنة بالفهم التقليدي للاعتداءات. ينتج خوف الولايات المتحدة الأمريكية من الهجمات ليس بسبب فهمها المحدود للهجمات داخل الإطار العسكري فحسب، ولكن أيضا بسبب أنها "[مثل] العديد من حركات المناعة الذاتية تنتج وتبتكر وتغذي المسخ الذي تزعم أنها تريد التغلب عليه". وعلى الرغم من أن الخوف المتبقي من الحرب الباردة قد وفر الظروف لهجمات الحادي عشر من سبتمبر، فإن الإرهاب الذي نتج عنها يفوق ذلك بكثير.

 

يحدد دريدا العَرض الثالث من أعراض المناعة الذاتية الإنتحارية وربما كان أهمها على الرغم من أنه يؤكد على أن الثلاثة لا يمكن تمييزها عن بعضها البعض؛ "حلقة الكبت المفرغة " التي هي نتيجة لسياسة المناعة الذاتية التي بدأت مع المفاهيم التنظيمية الأساسية للسياسة الغربية. يتوقف نقد دريدا على إعادة صياغة مفاهيم مثل "الحرب" و"الإرهاب" ضمن الوضع السياسي الحالي لأن الاستخدامات الحالية لهذين المفهومين تشير إلى أن التهديد يأتي حصرا من الخارج. يتساءل دريدا: هل من الممكن أن نكون قد تجاوزنا التعريف الكلاسيكي للحرب التي يمكن تمييزها عن غيرها، الحرب "الأهلية" و "حرب المناصرينpartisan" ؟ وبالاعتماد على تعاريف كارل شميت للحرب التي تحدث حصرا بين الدول القومية، فإن العنف "الذي مورس" معالحادي عشر من سبتمبر "ليس نتيجة حرب". يشير دريدا لكارل شميت لأنه يرى أن المحادثات المحيطة بالحادي عشر من سبتمبر تخضع لمنطق شميت عن الدولة القومية والعدو. يقول دريدا علينا الآن أن نوفق بين فكرة أن أحداث الحادي عشر من سبتمبر تعطل أي تمييز بين "الحرب" و "الإرهاب"، والدولة واللادولة.

 

هل أن أعمال العنف في الحادي عشر من سبتمبر مختلفة تماما عن عنف الحرب أو العنف الذي يسن لصالح الدولة القومية؟ ما هو الفرق بين القلق أو الخوف والرعب؟ من المستحيل الإجابة على هذه الأسئلة بيقين مطلق، ولكن هذه بالذات هي نقطة دريدا: مفهوم الإرهاب لا يمكن أن يبقى شفافا، يقول دريدا، بدلاً من ذلك يجب علينا أن ننظر داخل التقاليد الخاصة بنا للعثور على أماكن أخرى يتجلى فيها الإرهاب.

 

هنا يكمن منطق المناعة الذاتية للحرب على الارهاب، لأن دريدا يتساءل " بماذا يختلف الإرهاب المنظم والمثار والمجهز بأدوات عن الخوف الذي يعرفه تقليد فلسفي كامل من هوبز إلى سميث وحتى بنيامين، بوصفه الشرط الخاص لسلطة القانون و الممارسة السيادية للسلطة، الشرط السياسي الخاص، بل وشرط الدولة ؟ والدولة؟.

 

تعني المناعة الذاتية للإرهاب ثيمة مهمة هنا لأنها تؤدي مباشرة إلى مناقشة كيف خرج كتاب (المارقون) من رحم هذه الاستجابة الأولية للحادي عشر من سبتمبر.النقطة الأولى هي أن تعريف الإرهاب لا يمكن أن يستبعد أعمال عنف الدولة القومية. والثانية هو أن الإرهاب لا يشير فقط إلى الشعور الجسدي أو خبرة الألم. يلاحظ دريدا أولا، إن المفهوم الحديث لكلمة الإرهاب يعود في جزء كبير منه إلى عهد الإرهاب أثناء الثورة الفرنسية، وفي الواقع فإن جينيالوجيا المفهوم تشير إلى العنف التي كان "ينفذ[عادة] باسم الدولة وهذا في الواقع يفترض احتكار العنف قانونيا". وحتى في التعريفات الحالية، غالبا ما يتم تعريف الإرهاب بالإشارة إلى "جريمة ضد الحياة البشرية في انتهاك للقوانين الوطنية أو الدولية التي [تستلزم] التمييز بين المدنيين والعسكريين (يُفترض أن ضحايا الإرهاب من المدنيين)، وغاية سياسية (للتأثير أو تغيير السياسة في البلاد من خلال ترويع سكانها المدنيين). يلاحظ دريدا، أنه من المستحيل أن يُستبعد إرهاب الدولة على أساس هذا التعريف للإرهاب، وخاصة عندما نأخذ في الاعتبار حقيقة أن غالبية الأهداف الأمريكية مدنية، وأن الغالبية العظمى من قتلى الحرب هم أيضا من المدنيين. في نهاية هذه المناقشة، تسأل بورادوري دريدا من هو"الأكثر إرهابا" في عالم اليوم. كانت إجابة دريدا على هذا السؤال ذات شقين: أغلب ما يطلق عليه إرهابا اليوم يُقدم نفسه بوصفه (ردا) وإذا كان لنا أن نحدد "الأكثر إرهابا" سيكون الشخص الذي يجرد الآخر من أي "وسائل أخرى للرد قبل تقديم نفسه، المعتدي الأول، باعتباره ضحية ".

 

يشير دريدا إلى أن الولايات المتحدة هي الدولة التي غالبا ما يتم اتهامها بالإرهاب لأنها ترفض الاعتراف بأفعالها، كما أنها أيضا ترفض منح الدول الأخرى فرصة الرد. عدم السماح للآخر بالرد هو تجاهل احتمال أن يكون مضيافا، أو التوصل إلى اتفاق. إنه ينطوي على قرار سيادي وسلطة مفروضة على ما هو حق أو عدل. واليوم أكثر من أي وقت مضى، وبسبب الوضع الذي تجد الولايات المتحدة نفسها تحت تهديد قوتها الذاتية المناعة، يمكننا أن نرى الخطر في هذه السلطة (أو الموقف الذي تتأكد فيه السلطة على الحق).

 

من الواضح هنا أن دريدا يعتبر الهجمات الإرهابية في الحادي عشر من سبتمبر تهديدا داخليا لأنه يوفر الربط المنطقي الوحيد والأكثر أهمية بين المقابلة مع بورادوري وكتاب (المارقون). تعني المناعة الذاتية في هذا السياق، بالضبط، كيف أن أحداث الحادي عشر من سبتمبر كانت من أعراض النيوليبرالية الأمريكية بعد الحرب الباردة. ليس ذلك فحسب، بل أنها تشير أيضا إلى تفكيك طويل للأجهزة الدفاعية للدولة القومية التقليدية. فضلا عن ذلك، فإن دريدا يلمح إلى نوع من العمل يمكن للمناعة الذاتية القيام به لتفكيك الدولة القومية من خلال كشف العلاقات المناعية الذاتية الأكثر جوهرية بين الذاتية و الروح الحربية حيث لا صوت إلا للأقوياء.

 

تؤطر إجابة دريداعلى مفهوم "الأكثر إرهابا "تفسيرة الأكثر جوهرية لباراديم المناعة الذاتية: السلطة المفترضة والسيادية للولايات المتحدة. لذلك فمن المهم التحقيق بعمق أكثر في الآثار المترتبة على هذه السلطة المفترضة لأن دريدا يحلل هنا المناعة الذاتية والديمقراطية.

 

في مقدمة "المارقون" يُصدر دريدا مناقشاته بسطرين من حكاية لافونتين الكلاسيكية "الذئب والحمل": منطق الأقوى دائما هو الأفضل، وسنوضح ذلك حالا. تأسر العبارتان دريدا لأنهما تلخصان "خطابا أخلاقيا أسطوريا "مفحماً في قلب كل الأسئلة المتعلقة بالقانون، والعدالة، وبالطبع السيادة.

 

"هل أن هذه أخلاق تعلمنا أن القوة تنتصر على القانون؟ أو شيئا آخر مختلف تماما، إن مفهوم القانون، إن المنطق الاعتباري نفسه، يشمل بداهة اللجوء الممكن للقيد أو الإكراه، ولحد معين العنف "؟تشير هذه الأسئلة إلى أن دريدا قد بدأ يهتم بعد الحادي عشر من سبتمبر أكثر وأكثر بدور العقلreason  في الخطابات السياسية ــ ــليس بالضرورة العقل نفسه، ولكن بقضية من صاحب المنطق الأعلى صوتا.

 

ما هي السيادة من وجهة نظر دريدا، إذا ؟ متصلة بتقليد طويل يصورها بأنها لاهوتية و ومتمركزة حون الأنية ipsocentric [مصطلح الأنية المشتق من "أنا" Ipséité وIpseity]،  ولكن ليس دائما عن وعي ذاتي، فإن السيادة بالنسبة له هي سلطة تقرير المصير الذي يفرض نفسه بالقوة الحيوانية، من خلال فهم معين للعقل والحدود الدلالية والقانونية والسياسية. ولأنها متموضعة فوق القانون، فإن هذه السلطة لا تصنع وتعلق القانون فحسب، ولكنها تحتفظ أيضا باختصاص حصري للبت في مسائل الحياة والموت، في ما هي الحياة وما هو مناسب للإنسان. هذه هي وجهة نظر دريداعندما يتحدث عن السيادة بشكل عام، بما في ذلك السيادة الديمقراطية أيضا. إذ من أجل أن تكون الديمقراطية فعالة وتسود على الأنظمة الأخرى، فإن السلطة السيادية لوكيل واحد، الشعب تحديدا، تتطلب "قوة أقوى من كل القوى الأخرى في العالم". وتشير هذه السلطة لـ"المنطق الأقوى" الذي يحدد مع قوة لاهوتية وحيوانية البناء المفاهيمي والحدود السياسية التي تؤسس الإطار –العسكري و السياسي واللغوي والاقتصادي والفلسفي- الذي تمارس فيه الحياة الديمقراطية. وكما يوضح دريدا في"إعلان الاستقلال "و" قوة القانون"، فغالبا ما يتكون هذا الإطار على أساس الإقصاء العنيف أو حتى إبادة البدائل البشرية والفلسفية والسياسية. هذه الإقصاءات أمر أساسي من أجل وضع الترتيبات السياسية وعلاقات القوة التي تحدد هوية سياسية موحدة من خلال تأمين وتقنين وشرعنة الخطاب التبريري ما بعد الانقلاب حول معايير العضوية. وبينما يفترض أن القوة السيادية تشكل الديمقراطية لحماية الديمقراطية نفسها وطموحاتها العالمية، الا أنها تهدد الديمقراطية من الداخل، لأن القوة تكمن في قلبها. ولأن سيادة الديمقراطية تناشد "المنطق الأقوى" حتى تفرض نفسها، فإنها لا تزال تعمل بوساطة النموذج اللاهوتي الذي ورثته، وهو النموذج الذي يجعل الديمقراطية "غير ديمقراطية" (ضد قابلية المشاركة والتقاسم) إلى حد أن سيادتها لا يمكن أن تستمر إلا من خلال استغلال السلطة في الداخل، وفي حالة الدول المارقة، في الخارج أيضا. ومع ذلك، ولأن الديمقراطية تشير أيضا إلى التقاسم والتعددية وعدم التجانس، وكل من هذه الصفات تقف مقابل أنيةipseity  السيادة، فإنه يمكن إعتبارها قاطع الاطراد هذا النموذج ذاته.

 

في نقاشه عن الديمقراطية بوصفها' الديمقراطية القادمة "في (المارقون)، يدفع دريدا تأملاته في السيادة القابلة للتقاسم بعيدا. فهو يدعو إلى التفكير في الديمقراطية أبعد منسيادة الدولة القومية وإلى نظام دولي يسعى لإضفاء الطابع الديمقراطي على السيادة بدلا من الركون إلى مزاعمها المتأصلة والمقدسة بأنها غير قابلة للتجزئة أو التشارك.

 

الدعوة لتوزيع السيادة ليست مجرد محاولة للحد من السيادة على غرار أدوات المحكمة الجنائية الدولية، والتي تستخدم حقوق الإنسان للحد من سيادة الدولة القومية. علما بأنه يقر أن حقوق الأنسان أيضا تساهم في منطق أن السيادة يجب أن تقسم لأنها تفترض مسبقا إنسانا سياديا (متمركزا حول الأنية، باسم تقرير المصير). بدلاً من ذلك فإنه يحاول إعادة التفكير في، ولكن ليس رفض، السيادة السياسية. يحاول دريدا الإبتعاد عن التفكير التأسيسي حول السيادة بوصفها فكرة نقية ويركز على مفاهيم الوسائط مثل "المحرك أو الدافع، والنقل، والانتقال، والترجمة، والمرور، والتقسيم" المتضمنة دائما في "النضال من أجل السيادة" والتي تكشف في الوقت ذاته قابلية السيادة للتجزئة والتبادل والتقسيم والاختلاف. هذا التحول يجب أن يُفهم في سياق فهمه للغة والترجمة، فضلا عن نقده لـ"الميتافيزيقيا الحضور"، حيث تضع كلاهما حدود اللأسسيةfoundationalism، ولإمكانية استيعاب الأفكار النقية في الوعي والانطلاق نحو تجارب الترجمة والتقسيم. وبعد ذلك ومع الأسف فإن دريدا لا يقول لنا كيف تبدو السيادة القابلة للتجزئة بالضبط. ما يخبرنا به، مع ذلك، هو أن الخبرات التحقيقية للتقاسم والترجمة قد تمتلك القدرة على تحرير الفكر السياسي للسيادة من تراثه الديني.

 

وبالنتيجة فإن رؤية دريدا للسيادة مهمة فلسفيا وسياسيا. فمن خلال إدراك أن العقل والقوة معا سمتان غير متعارضتين للسيادة، يفضح دريدا هشاشة تلك التمييزات الفلسفية التي تسعى إلى تأسيس حدود غير قابلة للتجزئة (أي سيادية) بين الإنسان والحيوان، والحياة والموت، وما هو سياسي وما هو غير سياسي. وبهذه الطريقة، فإنه يخلي مساحة تحليلية للتفكير في السيادة أبعد من اللاهوت السياسي التقليدي دون أن يقصيه تماما. وفي الواقع، فإن القضية المطروحة بالنسبة له في الحياة السياسية عندما تمارس السلطة السيادية، ليست ما إذا كانت تلك السلطة يمكن أن تعمل دون سيادة، ولكن كيف نفكر في السيادة بشكل مختلف. ويقترح دريدا أن مهمة الفلسفة السياسية اليوم هو التمييز بين "السيادة (والتي من حيث المبدأ غير قابلة للتجزئة) وغير المشروط أو المطلق unconditionality" دون الإستسلام للنسبية أو للمعركة العمياء ضد" السيادة على ما هي عليهsovereignty as such".

 

هذا يعني من جهة، الحفاظ على السيادة سياقيا مع مسؤولية متصاعدة وفقا لخصوصية الحالة. ويلاحظ أيضا أنه "لا يمكن للمرء الوقوف ضد، وجها لوجه، كل السيادة، والسيادة بشكل عام" دون تهديد "المبادئ الكلاسيكية للحرية وتقرير المصير" المميزة للدولة القومية التي تعمل، في بعض الحالات، بوصفها حماية ضرورية ضد القوى الدولية والمهيمنة، سواء كانت سياسية أو لغوية أو فلسفية أو اقتصادية أو دينية. ومن ناحية أخرى، فإن ذلك يعني الدعوة دون قيد أو شرط لاستجواب وتحديد منطق السيادة السياسية ومعه أفكارعدم التجزئة، والاستثناء، والوحدة. القيام بذلك ليس فقط مهمة الأكاديميا ولكن يحدث بالفعل كلما يتم استخدام عالمية حقوق الإنسان لوضع حدود ولتحدي سيادة الدولة القومية.

 

وخلافا للإنسانية الليبرالية، فإن رؤية دريدا لا تحاول تجاوز سيادة الدولة القومية باسم مبدأ الإنسانية. فمن وجهة نظر دريدا إن مثل هذا المبدأ لا يزال يفترض ثيولوجيا سياسية للسيادة ويمكن أن يستخدم بشكل خطير، إذا كان لنا أن نتبع انتقادات شميت الحادة لها، بوصفها أداة أيديولوجية للامبريالية. بدلا من ذلك فإن دريدا يبحثعن تسييس السيادة لا لتصدير الخيال الأيديولوجي ولكن لمحاولة التفكير في السيادة بوصفها قابلة للتقسيم.

 

وهكذا، بالنسبة لدريدا في (الوحش والسيادة)، فإن التفكير في السيادة بشكل مختلف، وبشكل خاصفي السيادة الديمقراطية، هو أن نفكر في غير المشروط أو المطلق unconditionalityبعيدا عن فكرة أنه غير قابل للتجزئةindivisibility. هذا التفكير يتطلب الاعتراف بأن مسألة السيادة "ليست السيادة أو عدم السيادة ولكنها طرائق نقل وتقسيم السيادة التي كانت تعدغير قابلة للتجزئة ــ يقال ويفترض أنها غير قابلة للتجزئة ولكنها تتجزأ دائما". ولكن ما هي هذه الطرائق بالضبط؟ ليس من الواضح ما إذا كان دريدا يعتبر أن هذه الطرائق تشير أيضا إلى الطرق التي يتم بها تقسيم السيادة الديمقراطية من قبل الهيئات المؤسسية التي قسمت حيز السلطة السيادية على مجالات السلطة التشريعية والسياسية والقانونية. ولكن ما هو واضح، مع ذلك، هو أنه يؤكد أن الزمن واللغة هما من شروط الوساطة التي من خلالها تخضع السيادة للتقسيم، الشروط التي حجبها الفهم التقليدي للسيادة. من خلال تقسيم السيادة من الداخل، فإن هذه الشروط تشير إلى أن أي سيادة بشرية مفتوحة جوهريا على الاختلاف وقابلية المشاركة. وهذا ما يعنيه دريدا بالادعاء أن السيادة "هي دائما في عملية تعيين لذاتها من خلال دحض ذاتها ". وبسبب وجودها في الزمان واللغة، فإن السيادة تكون فقط عن طريق دحض عدم تجزئتها الخاصة ووحدتها وعدم تمايزها. يشير هذا الوضع الى أن السيادة النقية المطلقة التي لا تتجزأ هي وهم، وأن السيادة هي في الواقع تخضع للتقاسم، والإنقسامات، والتمايز الذي قد يخفيه سوء استخدام السلطة ولكن ليس لحد تجنبه.

 

 

* باحثة ومترجمة فلسطينية حاصلة على ماجستير تكنولوجيا حيوية، ماجستير تربية وعلم نفس، بكالوريوس صيدلة، صدر لها مجموعة أبحاث أبرزها:

1- أفق يتباعد: من الحداثة إلى بعد ما بعد الحداثة، دار نينوى للنشر والتوزيع. دمشق 2014.

2- الإنسان في ما بعد الحداثة، دار يوتوبيا، بغداد، 2014

3- نهايات ما بعد الحداثة: إرهاصات عهد جديد، مكتبة ودار عدنان للنشر 2013.

4- فصل في موسوعة: الفلسفة الغربية المعاصرة: صناعة العقل الغربي من مركزية الحداثة إلى التشفير المزدوج- الجزء الثاني

أضف تعليقك