حرية الاعتقاد، "صحيح لا تَقسِم ومقسوم لا تأكل وكل حتى تشبع"
"الإسلام لا يعرف حرية العقيدة... يجب على الإنسان التزام العقيدة الصحيحة... وليس له أن يعتنق الشيوعية أو النصرانية أو اليهودية أو الوثنية أو المجوسية، ليس له ذلك بل متى اعتنق اليهودية أو النصرانية أو المجوسية أو الشيوعية صار كافراً حلال الدم والمال، "، الشيخ عبد العزيز بن باز رئيس هيئة كبار العلماء ومفتي السعودية الأسبق (http://www.binbaz.org.sa/node/21516).
تعيش بعض التيارات "الإصلاحية" النخبوية أزمةً كبيرةً منذ مدة، إذ تحاول جاهدةً المقاربة بين حريات الاعتقاد والتفكير والتعبير كما تعرفها منظومة حقوق الإنسان وبين التعاليم والأحكام الدينية المستقاة من مصادرها الأصولية. يشكل حد الردة نقطة الانطلاق والعودة لهذه التيارات بمحاولتها نفيه بالكلية أو جعله مقتصراً على سياق ظرفي زماني ومكاني محددين حدثا في الماضي ولا ينسحبان على الحاضر والمستقبل.
يتخذ جانب من الفريق المنكر لحد الردة من التشذيب حول حديث البخاري "من بدل دينه فقتلوه" وغيره من عشرات الأحاديث بما فيها حديث معاذ بن جبل الذي ذكره وحسنه الحافظ في فتح الباري، منطلقاً للتنصل من ثبوت هذا الحد نصاً وممارسة، ويحاولون عبثاً إضفاء الصبغة السياسية عليه عوضاً عن صبغته الشرعية المتأصلة. فمن قَتْلِ ابن خطل وهو متعلق بأستار الكعبة يوم "فتح" مكة بأمر من الرسول لهجائه إياه، إلى حروب الردة ضد منكرين الزكاة في عهد الخليفة أبي بكر، إلى إحراق الخليفة علي ابن أبي طالب للسبئية... يعجز هذا الفريق عن إثبات دعواه بأن المرتد عن الإسلام لا يجب قتله شرعاً.
لا حاجة إلى الدخول في تحليل الحجج التي يجترحها الخَجِلون من حد الردة، ويكفي الاستشهاد ببعض الفتاوى التي لها مدلول أبعد من مجرد إثباته، فقد جاء في فتوى للشيخ صالح بن فوزان الفوزان عضو هيئة كبار العلماء السعودية: "حرية الرأي تكون فيما للرأي فيه مجال ولا مجال للرأي في أمور العقيدة وأمور الدين. لأن هذه الأشياء مبناها على الإيمان والتسليم والانقياد" (http://www.alfawzan.af.org.sa/node/13970)، بل ذهب الشيخ إلى ما هو أبعد من ذلك حيث حكم بكفر من يقول أن في الإسلام حرية اعتقاد (https://www.youtube.com/watch?v=gURv0G2FQho).
لم يختلف أمر الفتيا ولا ينبغي له، عند المؤسسات الدينية التي توصف ب"المعتدلة" في ما يتعلق بحرية الاعتقاد، فقد جاء في فتوى دار الإفتاء الأردنية رقم (901) لسنة 2010 أثباتها لحد الردة بالقتل وعدم وجود أي تعارض في هذا الصدد بين السنة وآيات القرآن (http://aliftaa.jo/Question.aspx?QuestionId=901#.VrYI1-TVzIU).
إن تأمل المسألة على نحو علمي محايد يقطع بأن الصبغة السياسية التي يحاول منكرو حد الردة إضفاءها على النصوص وعلى حالات القتل للمرتدين عبر التاريخ الإسلامي؛ تنقلب عليهم بحيث يبدو مسعاهم الرامي لنفي هذا الحد؛ سياسي المبعث والهوا.
ثمة أمر غاية في الأهمية يغيب عن مجترحي التجميل بالتأويل، ألا وهو أننا حتى لو تجاوزنا مسألة الحد من حيث كونه إزهاقاً لروح كل من يمارس حرية الاعتقاد خارج إطار الإسلام، فإنه يبدو من المحال نفي الحكم ب"الموت المدني" على المرتد، إذ يُفرَّق بينه وبين زوجه أو زوجته ويحرم من أطفاله وميراثه، هذا فضلاً عن فقدانه الحتمي لعمله وتعرضه دائماً لخطر القتل على يد الغوغاء من المقلدين كما حدث مع المفكر المصري الراحل د. فرج فودة في تسعينيات القرن الماضي.
إذا ما تجاوزنا حرية الاعتقاد من حيث تغيير الدين وهبطنا بها قليلاً إلى تغيير الطائفة أو المذهب، فإن من يتشيع أو يعتنق المذهب السني أو الإباضي مثلاً سوف يُنظَر إليه نظرةً لا تختلف كثيراً عن النظرة للمرتد "المبدل لدينه"، فالمراجع والمرجعيات لكل طائفة لم تألُ جهداً في سوق الحجج والأدلة على "فساد" معتقد الطائفة الأخرى بل وتكفير أتباعها إن كانوا عالمين بذلك "الفساد" الذي يحدده ويقرره بطبيعة الحال "علماء" الطائفة التي ترى أنها هي "الناجية" ومن عداها هالكون.
لا يبدو الأفق أرحب إذا ما هبطنا أكثر وأكثر بنطاق حرية الاعتقاد إلى مجرد ترك أحدى الفرائض من مثل الصلاة أو الزكاة، إذ سوف يعيدنا ذلك إلى حكم الردة بمعناه الأصولي العميق، فما كان قتال الخليفة أبو بكر "للمرتدين" إلا لمنعهم الزكاة وليس لتصريحهم بالخروج عن الدين، وما عليه الفتوى في السعودية وغيرها من الدول الإسلامية التي تعتنق ذات التوجه؛ أن تارك الصلاة كافر لا يجوز تزويجه وإن تزوج كان عقده باطلا (http://www.binbaz.org.sa/node/2368)، وهذا يؤكد على "صدق" ما ذهب إليه "علماء" الإسلام العارفين بصحيح الكتاب والسنة من أن "الإسلام لا يعرف حرية العقيدة" كما ورد سابقا.
أما إذا ما سوّلت لأحد نفسه البحث والتدقيق في كتب "الصحاح" (البخاري ومسلم) وإنكار ما جاء فيهما أو بعضه، فقد باء بما باء به منكر الكتاب وحَمَلَ كفراً، فإذا ما صوّرت له نفسه الشقية أنه بإمكانه إنكار الإجماع لأنه اجتهاد بشر يخطئون ويصيبون وليسوا منزهين عن الهوا والمصالح، فإنه سوف يكون قد وقع في صريح الكفر لأن منكر الإجماع كافر بالإجماع!!! وانظر في ذلك من المتأخرين فتوى الشيخ صالح بن فوزان الفوزان (http://www.alfawzan.af.org.sa/node/2387)، ومن المتقدمين بدر الدين الزركشي في البحر المحيط الذي فصل وطوّل فيه حول أنواع كفر منكر الإجماع.
إنّ بحث حريات الاعتقاد والتفكير والتعبير في أطر دينية أياً كانت طبيعتها، إنما هو لَيّ لذراع ما تيبّس فإما يَكسِر أو يَنكسِر، فالأجدى التسليم بما تقطع به النصوص والممارسات وفتوى "العلماء" من أن الدين لا يعرف ولا يعترف بحرية الاعتقاد، ومن ثم فلا بد من التوافق على مرجعية موحدة تكفل للأفراد حقوقهم وحرياتهم كما أرادتها الدساتير التي يجب تحييدها عن الأديان والعقائد، وإلا فإن مساحة حرية الاعتقاد المعترف بها للفرد سوف لن تتجاوز اضطجاعه على جانبه الأيمن مستقبلاً القبلة، مفكراً في ما قد يحل به إن فكّر وقدّر ليُقتَل كيف قَدّر، ليهبّ من فراشه ناظراً في مرآته المغبشة صارخاً: "أنا حر في أن أكون غير حر، سوف لن أَقسِم الصحيح ولن آكل المقسوم وأُقسِم إنني شبعان".