جورجيو أغامبين: الإنسان المستباح والحياة العارية

جورجيو أغامبين: الإنسان المستباح والحياة العارية

منذ فترة ، ليست بعيدة، حظي عمل الفيلسوف الإيطالي جورجيو أغامبين باهتمام وتقدير متزايد في الأوساط الأكاديمية والثقافية والإعلامية. لكن نجمهارتفع وعلا بعيدا جدا حين نشر كتابه (الإنسان المستباح: السلطة السيادية والحياة العارية، 1995 وترجم إلى الإنجليزية عام 1998. فكان الكتاب ضمن الكتب الأعلى مبيعا في العالم وأصبح معه الفيلسوف نجماً ثقافياً. والسبب في ذلك أن الكاتب  تألق في الجمع بين التفكير الفلسفي و النقد السياسي. ومع هذا وربما بسبب ذلك، فإن أطروحته الأساسية استفزازية بما فيه الكفاية وقد أكسبته جمهورا أكبر خارج الدوائر الفلسفية. حيث يؤكد أغامبين على "التآزر الداخلي بين الديمقراطية والشمولية "ويحدد معسكرات الاعتقال بوصفها "نموذج السياسةالحيوية في الغرب".

 

الإنسان المستباح Homo Sacer هو العنوان العريض لمشروع أغامبين الممتد والعريض. في أعماله ضمن هذا المشروع، يقرأ أغامبين الحاضر بوصفه المحطة الكارثية للتقليد السياسي الذي تعود جذوره إلى اليونان القديمة والتي أدت إلى معسكرات الاعتقال النازية المعاصرة. وفي حين نرى فوكو يقولبأن ظهور آليات السياسةالحيوية في القرنين السابع عشر والثامن عشر يعد انقطاعا تاريخيا، يصر أغامبين على علاقة منطقية بين السلطة السيادية والسلطات الحيوية. بمعنى أن السياسة الحيوية تشكل لب الممارسة السيادية للسلطة. عصر الحداثة، وفقا لذلك، ليس قطعا مع التقاليد الغربية ولكنه تعميم وتجذير ما كان ببساطة موجودًا منذ البداية. بالنسبة إلى أغامبين فإن تكوين السلطة السيادية يفترض خلق الجسد السياسي الحيوي. الاندراج في المجتمع السياسي لا يكون ممكناً، يكتب أغامبين، إلا من خلال استبعاد البشر الذين جرى حرمانهم من الوضع القانوني الكامل.

نقطه انطلاق أغامبين هي التمييز المفاهيمي الذي يميز، وفقاً له، التقليد السياسي الغربي منذ العصور اليونانية القديمة. فيذكر أغامبين أن الخط الرئيسي للفصل والتمايز ليس هو الفرق بين الصديق والعدو، ولكن الفرق بين الحياة العارية (زوي (zoé) ) والوجود السياسي ( بايوس BIOS) ، بين الوجود الطبيعي والوضع القانوني للإنسان على التوالي: زوي، "الحياة الإنجابية الطبيعية" المحددة بالمجال الخاص (الكائن البيولوجي في الحياة العارية ) والبايوس، "الشكل المؤهل من الحياة، بمعنى الحياة السياسية". ويدعي أغامبين أن دستور السلطة السيادية يتطلب إنتاج جسد السياسة الحيوية. ويقول أيضا إن إضفاء الطابع المؤسسي للقانون يرتبط ارتباطا لا انفكاك منه بكشف "الحياة العارية". في ضوء ذلك، فإن الانخراط في المجتمع السياسي لا يبدو ممكنا إلا باستبعاد بعض البشر الذين لا يسمح لهم أن يصبحوا رعايا قانونيين بالكامل. في بداية كل السياسات نجد - وفقا لأغامبين- إقامة الحدود وافتتاح المساحة المحرومة من حماية القانون: فــ" العلاقات السياسية الأصلية هي الحظر".

 

يدلل غامبين على هذا الأساس السري للسيادة باقتباس شخصية من القانون الروماني القديم. فمهدرور الدم أو مستباح الدم "هومو ساكر"، هو الفرد الذي قد يقتل على يد أي شخص دون إدانته بجريمة القتل لأنه قد حُظر من المجتمع القانوني السياسي. وفي حين أن المجرم قد يحظى بضمانات قانونية معينة وإجراءات رسمية، إلا أن هذا "الرجل المقدس" غير محمي أبدا وتم اختزاله إلى مجرد وجود مادي. ولأنه قد وضع في حالة أبعد ما تكون عن الإنسان والقانون المقدس، فإن الإنسان المستباح سيصبح "الميت الحي ". يقول أغامبين:

"تم استبعاده من المجتمع الديني ومن كل الحياة السياسية: لا يمكن أن يشارك في طقوس قبيلته، ولا [...] يمكنه القيام بأي عمل صالح من الناحية القانونية. ما هو أكثر من ذلك، هو أن يتم اختزال وجوده بأكمله إلى الحياة العارية وتجريده من كل الحق بحكم حقيقة أن أي شخص يمكنه قتله دون محاسبته على ارتكاب القتل. يمكن أن ينقذ نفسه فقط في رحلة دائمة أو أرض أجنبية."

 

السلطة السيادية، يقول أغامبين، تؤسس نفسها من خلال إنتاج نظام سياسي يقوم على استبعاد الحياة البشرية العارية، ويتحقق هذا من خلال سن الاستثناء الذي يتم فيه تعليق القانون، وسحبه من الكائن البشري الذي جرد من الوضع القانوني وتحول بالنسبة للسلطة السيادية إلى الحياة العارية دون حقوق. الحياة العارية، التي يلحقها الاستثناء، تعيش على عتبة المجتمع السياسي - القانوي. يؤدي الاستثناء السيادي إلى ترتيب  قانوني (قضائي) فـ" الحكم الذي علق نفسه، ينتج الاستثناء" - وهذا يعني أن النظام القانوني قد علق صلاحياته، وانتج استثناء الحياة العارية - وحافظ على نفسه من حيث علاقته بالاستثناء، فهو أولا يشكل ذاته كقاعدة عامة "، ثم (ضمنا) ومن خلال هذا الإقصاء للحياة العارية ـــ يقول أغامبين ـــــ تكونت الدولة الغربية نفسها.

 

بالنسبة لأغامبين فإن الشخصية الغامضة للإنسان المستباح تمثل الجانب الآخر من المنطق السيادي. وبما أن السيادة هي في وضع فوق القانون، فإن الحياة العارية تعني مجال خارج اختصاصه، وفي الوقت نفسه توفر الأساس لحكم السيادة. الحياة العارية، التي يبدو أنها تتموضع على هامش السياسة، تتحول إلى أن تكون أساساً متيناً للجسم السياسي الذي يقرر ليس ببساطة على حياة وموت البشر، ولكن من الذي سوف يتم الاعتراف به إنسانا على الإطلاق. من هذا المنظور، فإن إنتاج الناس المستباحين هو جزء تأسيسي ولكن غير معترف به من السياسة. أولئك الذين وقعوا في حظر السيادة وتم تجريدهم من كل الوضع القانوني، يجدون أنفسهم، بالفعل قد منعوا من المجتمع السياسي. بهذه الطريقة، تقرر السلطة السيادية الحيوات التي سيتم الاعتراف بها على أنها تنتمي لمجتمع الكائنات السياسية والتي سيتم تصنيفها فقط من حيث الواقع البيولوجي.

 

الشخص المستباح هنا ليس الشخص الذي يبقى خارج القانون، بل هو من يشكل بالوسائل السياسية القانونية "لتخصيص من سيتم استبعاده من حماية القانون"؛ لذلك لا ينبغي تصور هذا الوجود منزوع الحق بوصفه حالة قبل المجتمع pre-societal state. بل على العكس تماما، فإن أغامبين يجعل من الواضح أن الحالة الطبيعية التي يبدو أن الإنسان المستباح قذف اليها ليست بواقي الماضي التاريخي ولكنها نتيجة للعلاقات الاجتماعية. الحياة العارية لا تشير إلى العري الطبيعي والأصلي، أو غير التاريخي لكنها تعرض منتجا اصطناعيا، وعري مخفي يخفي الترميزات والعلامات الاجتماعية.

يمكن القول إن فصل الزوي عن البايوس، وإنتاج إنسان الحياة العارية، بوصفه منتج السلطة ذات السيادة  خضع لعملية تحول في الحداثة وإعادة موضعة داخل بولس polis، ليصبح محور سلطة الدولة التنظيمية. تشير هذه العملية المتجذرة في السياسة الكلاسيكية والممتدة إلى الوقت الحاضر، حسب أغامبين، إلى السياسة الغربية التي شكلت نفسها من بداياتها بوصفها السياسات الحيوية.

 

إنتاج الحياة العارية من خلال الاستثناء، وانشغال سلطة الدولة بإدارة الزوي، يتقدم على نحو متزايد وبشكل متوازعلى طول الحداثة، ليبلغ الذروة في القرن العشرين حيث أن نظام معسكر الاعتقال في الدولة الاستبدادية كان أول " تنظيم طبيعي وجماعي قائم فقط على الحياة العارية وحدها فقط  [...] لحياة الإنسان ".

 

يؤدي إعادة تركيب أغامبين للعلاقة الحميمة بين الحكم السيادي والاستثناء السياسي الحيوي إلى نتيجة المثيرة للقلق.ففي ضوء أطروحته التي تقول إن معسكر الاعتقال هو "مصفوفة السياسة الخفية hidden matrix of politics "، وزعمه وجود صلة داخلية بين ظهور حقوق الإنسان وإنشاء معسكرات الاعتقال . لن يكون هناك حدود آمنة ومأمونة تفصل بين الديمقراطيات البرلمانية والدكتاتوريات الشمولية، وبين الدول الليبرالية والأنظمة الاستبدادية. وهذا هو أول استفزاز يطرحة أغامبين للسياسات الغربية بمجملها.

 

بعبارة أخرى، يزيح أغامبين بشكل جذري المعنى التقليدي لـــلـ"معسكر". المعسكر الذي كان في الماضي تعبيراً عن الفرق بين الصديق والعدو، يرمز في عمل أغامبين إلى حالة الاستثناء حيث يتداخل القانون مع الواقع والقاعدة مع الاستثناء. فــ"الملعب في باري حيث احتجزت الشرطة الإيطالية في عام 1991 المهاجرين الألبان غير الشرعيين قبل اعادتهم إلى بلادهم، والمسار الدائري في دورة الالعاب الشتوية حين جمعت سلطات فيشي اليهود قبل تسليمهم للألمان، [...] أو مناطق d’attentes في المطارات الدولية الفرنسية التي يحتجز فيها الأجانب الذين يطلبون اللجوء، كلها ستكون معسكرات على قدم المساواة. في كل هذه الحالات، فإن فضاءً غير ضار ظاهريا [...] في الواقع يفصل الفضاء حيث النظام الطبيعي معلق بحكم الأمر الواقع، وسواء ارتكبت فيه الفظائع أم لا، فإن هذه المساحة لا تعتمد على القانون ولكن على الكياسة والحس الأخلاقي للشرطة التي تعمل مؤقتا بوصفها السيادة ".

 

إن المعسكر الذي أًظهر إلى حيز الوجود من خلال سن حالة الاستثناء، هو نتاج السلطة السيادية بالكامل. إنه المساحة التي تُحتجز فيها الحياة العارية من قبل الدولة. و"بقدر ما يتم تجريد سكانه من كل وضع سياسي واختزالهم كليا إلى الحياة العارية، فإن المعسكر [...] هو الفضاء السياسي الحيوي المطلق الذي يجري تحقيقة بصورة لم تكن بمثل هذا الوضوح في أي وقت مضى، حين لا تواجه السلطة شيئا سوى الحياة النقية، دون أي وساطة".

 

يقتبس أغامبين من حنة أرندت إن المعسكر هو الفضاء حيث "كل شيء ممكن". لا يمكن أن يقال أن المعسكر يحدد بالفظائع التي تجري هناك، ولكن باحتمالات حدوثها. هذا هو الشرط الذي تنتفي فيه الحياة العارية عن الإنسان المستباح. وعلى هذا النحو، فإن المعسكر يتحقق حيثما يتم حظر الحياة العارية بالقانون. واليوم، وبعد أن تحولت السياسة نحو" عالم الحياة العارية (أي نحو المعسكر)"، فقد أصبح الاستثناء هو الحالة الدائمة والمستقرة،" حيث جميع المواطنين يمكن أن يقال [... ] أنهم يظهرون تقريبا بوصفهم "مستباحي الدم ".

 

* باحثة ومترجمة فلسطينية حاصلة على ماجستير تكنولوجيا حيوية، ماجستير تربية وعلم نفس، بكالوريوس صيدلة، صدر لها مجموعة أبحاث أبرزها:

1- أفق يتباعد: من الحداثة إلى بعد ما بعد الحداثة، دار نينوى للنشر والتوزيع. دمشق 2014.

2- الإنسان في ما بعد الحداثة، دار يوتوبيا، بغداد، 2014

3- نهايات ما بعد الحداثة: إرهاصات عهد جديد، مكتبة ودار عدنان للنشر 2013.

4- فصل في موسوعة: الفلسفة الغربية المعاصرة: صناعة العقل الغربي من مركزية الحداثة إلى التشفير المزدوج- الجزء الثاني

أضف تعليقك