جبهة النصرة، ترويج الجلاد وترويض الضحية
لم تعد عبارات "نحن نلتزم الحياد" و "المهنية تحتم علينا تقديم الرأي والرأي الآخر" و "نحن منبر الجميع".... ذات جدوى في نفي انحياز العديد من وسائل الإعلام إلى تيار أو نظام سياسي أو ديني معين، خصوصاً بعد هبوب عواصف ربيع العرب المتخرفن، أقصد من الخريف وليس بالضرورة الخرف. يبدو استخدام هذه العبارات كمن يرتدي سراويل "الشارلستون" في زمن الأناقة المحسوبة بالمسطرة. قناة الجزيرة ذات التوجه الأخواني أذكى من اللجوء لمثل هذه العبارات والتبريرات البالية لتفسير تخصيصها ساعتين كاملتين لأبو محمد الجولاني زعيم جبهة النصرة الإرهابية على شاشتها، بثت أولاهما منذ يومين وستبث الثانية في الأسبوع القادم
ظهور أبو محمد الجولاني أثار موجات من التحليل على صعد مختلفة، فتحدث البعض عن دلالات التوقيت في حين تناول البعض الرسائل الضمنية والمباشرة التي تضمنها كلام الرجل، بينما آثر فريق ثالث التركيز على دلالات الديكور واللباس الذي ظهر فيه الجولاني بل وأصناف الطعام الدمشقية التي قيل بأنه يتناولها وما قد يعكسه جماع ذلكم كله من تحول في خطاب الجبهة وفكرها.
لا يمكن التقليل من أهمية هذه المحاور التي ركزت عليها معظم التحليلات ولكن الأخطر من وجهة نظري هو التحول الفج وليس المفاجئ في معالجة قناة الجزيرة للأحداث وترجمة توجهاتها السياسية على هذا النحو الذي لا يكاد يلمس الحد الفاصل بين السبق الصحفي والتسابق السياسي وتباين أثر كل منهما على المهنية الإعلامية.
في كثير من مواضع اللقاء يمكن ملاحظة حماسة مقدم البرنامج وهي تفوق حماسة الضيف الذي كان هادئاً متزناً بارعاً في استثمار المساحة التي إعطيت له لتسويق فكره وأجندته بحرفية وسلاسة.
لم يكن كم الأسئلة الإيحائية التي تضمنها اللقاء لافتاً وحده بل طبيعة تلك الأسئلة التي بدت وكأنها إعلانات مجانية مباشرة بدون مسحة إبداع تشويقية كتلك التي نراها في الإعلانات التجارية. كثيراً من أجوبة الجولاني كانت تنزلق على مسار إيحائي يوجهها صوب المتلقي السوري والعربي والدولي لإيصال رسائل محددة تصب جميعها في دائرة التسويق والترويج السياسي. فقد أتخمنا المحاور بسرد مشاهداته أثناء تجواله ولمدة أيام في القرى والمناطق التي سيطرت عليها الجبهة وكيف أنه لاحظ أن أهلها يعيشون في سلام وأمن وهدوء، ثم كيف أن الجبهة تزود سكان مناطق نفوذها بالكهرباء والماء والوقود دون مقابل، معرجاً على سماحة الجبهة التي لمسها في التعامل مع الأقليات، ناهيك عن التعبير المتكرر والمبالغ فيه عن الامتنان للزعيم لقبوله إجراء اللقاء وإيثاره لقناة الجزيرة على "عشرات غيرها" كما قال المحاور في بداية اللقاء ونهايته. لقد بدا اللقاء في كثير من أجزائه وكأنه حوار بين زعيم جبهة النصرة وأحد مريديه!
لا يمكن فهم مغزى هذا اللقاء بمعزل عن الحشد الإعلامي الذي بدأ منذ 5 أشهر تقريباً لمجابهة تمدد تنظيم داعش في سوريا ومن قبلها في العراق، حيث قامت قناة رؤية الفضائية الأردنية بخطوة جريئة وغير مدروسة من وجهة نظري حين استضافت منظر التيار السلفي الجهادي الأول عصام البرقاوي الملقب بأبي محمد المقدسي عقب جريمة داعش بقتل الطيار الشهيد معاذ الكساسبة، لتتوالى الإرهاصات الترويجية للجبهة بوصفها بديلاً عن داعش حتى نشر روبرت فيسك محلل شؤون الشرق الأوسط في صحيفة الأندبندنت اللندنيّة منذ أيام مقالته الجدلية التي تسائل فيها عمّا إذا كانت الولايات المتحدة الأمريكية قد أخطأت بقتلها إسامة بن لادن زعيم تنظيم القاعدة وأن ابن لادن لو كان حياً لكان وسيطاً ممتازاً وأفضل من يحاور الغرب من خلاله تنظيم داعش الذي يبدو ابن لادن معه معتدلاً ووسطيا. واستطرد فيسك لتدليل على "اعتدال" و "وسطية" ابن لادن من خلال قراءات الأخير الأدبية خصوصاً لناعوم تشومسكي وبعض الرسائل "الرقيقة" التي خطّها ابن لادن لإحدى زوجاته.
مرةً أخرى يحظى المقدسي أو ربما تحظى شبكة سي ان انبالعربية، بلقاء حصري أجرته الأخيرة معه مفسحةً له المجال للحديث عن نشأته ورحلته وطبيعة العلاقة بينه وبين تلميذه أبو مصعب الزرقاوي، دون أن يتطرق هذا اللقاء ولا لقاء قناة رؤية من قبله مع الرجل إلى فكره وكتاباته التي من أهمها "ملة ابراهيم" و "الديمقراطية دين" و "هذا ما أدين الله به" وجميعها كتابات تكفر الأنظمة القائمة وتقر بمشروعية تنظيم داعش والقاعدة، وهو ما لم ينفه المقدسي على الإطلاق بل يؤكده بين السطور في اللقائين المشار إليهما.
حالة اليأس والإحباط التي تركتها الهزات الارتدادية لزلازل "الربيع العربي" -التي أظهرت وَهن الدولة ووتحلل جذورها حيث ما أن ارتعشت الأرض قليلاً تحتها حتى خرت متشظيةً في كل اتجاه- أفرزت حالةً من الدفاع الذاتي الجمعي الاستباقي الذي يقوم على منهجية "المفاضلة السلبية" حيث يتم الاستسلام للسيء درأً للأسوأ.
الجولاني كان واضحاً وصريحاً لدرجة ربما أزعجت أصحاب مشروع الترويج له ولجبهته نظراً لأن صراحته ووضوحه صعّبتا من تحقيق غاية اللقاء معه المتمثلة في تعزيز القناعة القائمة على منهجية "المفاضلة السلبية" التي ترمي إلى تسليم المتلقي بأن ما كان يظنه الأسوأ هو في حقيقته مجرد سيء أو هو أصلح السيئين ولا بأس بالقبول به لتجنب ما دونه. قناعة كما أشرنا ظهرت إرهاصاتها مع تمدد وتوحش تنظيم داعش الذي لا يعبأ أصلاً بفكرة الحاضنة الشعبية لأنه يعتمد جهاد الشوكة والنكاية.
المتفحص لكلام الجولاني يجده يقر بالبيعة لأيمن الظواهري ويشترط على الأقليات العودة إلى "الدين الصحيح" لتجنب آلته الحربية، وهو يؤكد من بعد أن التحول من مقاتلة العدو البعيد "جهاد النكاية" إلى رد المعتدي "دفع صائل"، ما هو إلا تحول تكتيكي تفرضه طبيعة المرحلة
من يرون في جبهة النصرة مخرجاً للتخلص من داعش وإسقاط النظام إنما يراهنون على الحياة العاجلة بموت آجل، فهؤلاء يتناسون أن التنظيمات الإرهابية من داعش إلى النصرة إلى القاعدة والميليشيات الشيعية؛ كلها حركات دينية عقائدية وليست تنظيمات سياسية، وفي الدين والعقيدة يعاد ترتيب الأولويات مرحلياً ولكن لا يتم إسقاط أياً منها مطلقا، فالبراجماتية الفكرية والأيديولوجية الأصولية الراديكالية ضدان لا يجتمعان.
إن الرابح من تجذر منهجية "المفاضلة السلبية" هي أيديولوجية الجهاد السلفي الذي نجح بفعل توحش بعض تنظيماته في ترويض السواد المعتدل من الشعوب العربية وجرها إلى فضائه ليفاضلوا بين فصائله فيستسلم للأقل بشاعةً منها لأنه بات يرى فيها المخلص مع أنه من رحمها قد خرج الجلاد
طائفية النظام الإيراني وهمجية داعش ودموية نظام الأسد ومكارثية النظام المصري وأوتوقراطية سائر النظم العربية؛ جعلت من الثيوقراطية ملجأً ومنجى مع أنها عين الجحيم لأنها حاضنة كل ما ذُكر، وحسبك نظرةً وعبرةً المتنافسان الإقليميان الّلدودان على ضفتي الخليج العربي أو الفارسي بحسب الضفة التي ترى منها الواقع وتستشرف المستقبل.