ثلاثية محفوظ والثلاثية المحفوظة
السيد أحمد عبد الجواد، الشخصية المحورية في ثلاثية الأديب الراحل نجيب محفوظ. تناول النقاد هذه الشخصية من زوايا مختلفة؛ لعل أكثرها حظوةً بالتحليل كانت التناقضات القيمية التي تجسدها تلك الشخصية الورعة التقية في البيت، الماجنة اللاهية خارجه. ثمة جانب نفسي اجتماعي على درجة عالية من الأهمية لم يحظَ بالتناول المعمق من العديد من النقاد في هذه الشخصية، ألا وهو الأثر الذي تركه اكتشاف حقيقة تلك الشخصية مزدوجة المعايير والمسلكيات على أفراد الأسرة.
لقد عاش معظم أفراد أسرة "سي السيد" حالةً من الإنكار الكامل حينما اكتشفوا أن أمثولة الخلق العظيم وأيقونة السلوك القويم؛ لم تكن سوى أكذوبة كبيرة حرمت عليهم ما أحلته لنفسها وفرضت عليهم ما تأبى القيام به. تباينت انعكاسات الحقيقة المرة التي عرفها أفراد الأسرة على سلوكياتهم بعد أن تلاشت حالة الإنكار التي مرّوا بها، فمنهم من اختار المضي في حياته كما كانت، وأعتقد أن هذا يجسد استمرارا لحالة الإنكار التي ربما انتقلت إلى اللاوعي حيث يود الشخص أن يظل أسير الكذبة التي رسمت حياته وحددت مآلاته، إذ ليس أقسى ولا أمر على النفس من الشعور بالخديعة والتدليس خصوصاً إذا كانت هاتان النقيصتان قد شكلتا شخصية الفرد وقررتا مصيره، يضاف إلى ذلك أن خيارات التغيير تبدو محدودةً -إن لم تكن منعدمةً- حينما يتعلق الأمر بالمرأة على سبيل المثال خصوصاً في السياق الذي تقدمه الرواية، وهذا ما حدث بالنسبة للزوجة "أمينة" والابنتين "عائشة وخديجة"، في المقابل، انتهى المطاف بالابن الأوسط "فهمي" إلى الموت على يد الإنجليز؛ ربما لأنه أراد أن يثبت لنفسه أن ثمة قيم صادقة تستحق بذل الحياة من أجلها، فالعالم ليس فقط السيد أحمد عبد الجواد بتدليسه وازدواجيته،. أما "كمال" الابن الأصغر، فقد اختار الثورة الكاملة على الأفكار والمبادئ السلطوية الأبوية التي حكمت حياته، فتبنى نهجاً جديداً قوامه العقل والمنطق لفهم القيم الأخلاقية والدينية برمتها.
ثلاثية نجيب محفوظ لا تبدو بعيدةً عن الثلاثية الجدلية التي نعيشها اليوم: الدين، الهوية، المواطنة. هذه الثلاثية التي عوضاً عن دخول مكوناتها في ديالوج متحضر ينتج إطاراً جامعاً يستوعب الجميع ويثري تنوعه، أُقحِمَت في صراع مفتعل محسوم النتائج في ما بينها منذ قرون، فكانت الغلبة للدين على ما سواه، فبات هو الهوية والمواطنة والمعتقد، فتحول الديالوج إلى منولوج حفظه الأتباع وغدى قدس أقداسهم ومعيار تحديدهم لهوية الآخر التي هي حتماً أدنى من هويتهم سماوية المنشأ والمردّ. هذا ليس مجرد تأويل أو تحليل مبني على قراءة خاصة بل هو معتقد ومنهجية عمل تنطق بها أدبيات جماعات الإسلام السياسي المتطرف منها و"المعتدل" على حد سواء، حيث تؤكد تلك الأدبيات أن من يحكم الدولة يكفي أن يكون مسلماً حتى إن لم يحمل جنسيتها، فقد عبّر عن هذا الموقف بوضوح بل ببشاعة منذ سنوات؛ المرشد العام السابق لجماعة الأخوان المسلمين في مصر محمد مهدي عاكف؛ في حوار مسجل أجرته معه مجلة روزا اليوسف حينما أجاب عن سؤال: "هل تمانع في أن يحكم مصر غير مصري؟"، فأجابه: "طز في مصر.. وأبو مصر.. واللي في مصر".
الدين يجُبّ ما قبله ويجتث ما يقابله ويُجثي ما يأتي بعده، ف"عبثية" المواطنة والهوية من وجهة نظر الدين وسدنته تبدو "أحقر" من أن تقارن بواجب "إعلاء الدين وإظهاره على الدين كله". يرثي من يزور الأقطار الإسلامية في آسيا وأفريقيا لحال هوية شعوبها التي سُحقَت تحت سنابك خيل "الفاتحين"، فالقوم هناك لا يستطيعون نطق أسمائهم على نحو سليم وكثير منهم لا يعرف حتى معانيها، فأصدقائي المهندس حسن علي والناشط عاطف شيخ والناشط عاصم يعرّفون عن أنفسهم ب:"هاسان الي و آتيف شيك وآسيم..."، وهم من بعد يُصلّون بكلمات وأوراد ليس لهم حيلة في نطقها وفهمها، لم يبقِ لهم الدين الكثير من ثقافتهم وهويتهم الأصيلة، حتى لغتهم تطفلت عليها مفردات عربية إسلامية، فكلمة "عاصمة" معناها بلغة الأوردو "دارُ الخلافة"، ولأتأكد من سياق استخدام الكلمة وما إذا كان تاريخياً أو معاصرا، سألت أحدهم بالإنجليزية: what is Daru Alkhilafa for UK?” فأجابني دون تردد: London”!
لقد أفضى استفحال الإرهاب على مدار العقدين الماضيين ومع ثورة فضاءات التواصل الاجتماعي التي نعت للأبد عهد الكهانة الإعلامية والفكرية، إلى انكشاف سوءة الموروث وبروز عورته، فأصيب الورثة بالصدمة تماماً كما حدث لأفراد أسرة "سي السيد"، ومع ذلك، فقد تباينت ردات الفعل في الحالتين، فقد آثرت الأغلبية الصامتة الإستسلام لحالة الإنكار كما فعلت "أمينة وعائشة وخديجة" وذلك خوفاً من انتقام عاجل أو عذاب آجل، في المقابل، لقي عدد من الورثة المخدوعين الثائرين المصير عينه الذي لقيه "فهمي" مع اختلاف ملحوظ، ففي حين مات فهمي على يد جنود الاستعمار الإنجليزي نصرةً لوطنه ومواطنيه، قُتِل أؤلائك الورثة على يد بني جلدتهم لأنهم من وجهة نظر قتلتهم ليسوا مواطنين بل زنادقة ومرتدين، أما من تسوّل له نفسه أن ينحو منحى "كمال" فيُعمِل عقله ويُحكِّم فطرته، فمصيره مصير من سبقوه وإنا لله وإنا إليه راجعون!
إن الحديث عن إصلاح "الخطاب الديني" وإغفال ضرورة إصلاح مصادره، أشبه بمن يريد إصلاح سفينة فيها ثقب عظيم بتغيير بحّارتها؛ فلا نجت السفينة ولا من فيها نجى. أتفق تماماً مع من يقول أن ما تقوم به الجماعات الإرهابية لا يمثل كل المسلمين ولكنه بالتأكيد يمثل بعضاً من الإسلام كما تنقله كتب التراث، فعلى الكل ردُّ البعض ولو أبى البعض.