تقارير المحاسبة والفساد "سقط متاع" لا تستحق اهتمام الصحافة

تقارير المحاسبة والفساد "سقط متاع" لا تستحق اهتمام الصحافة
الرابط المختصر

خلال الشهر الأخير اصدر ديوان المحاسبة تقريره الدوري لشهر كانون الثاني للعام
الحالي، كما قام مدير الديوان بتسليم نسخ عن التقارير الصادرة خلال العامين
الماضيين...
الى مجلس الامة ومنتدى الشفافية، للمرة الاولى في تاريخ الديوان.
وبعدها بأيام
اصدرت دائرة مكافحة الفساد في المخابرات العامة تقريرها السنوي، وقام مركز الإعلام
الاردني بصياغة تقرير اخباري مطول عنه وتوزيعه على الصحف المحلية.
وفي الرابع من
الشهر نشرت الصحف خبرا عن تقرير ديوان المحاسبة بعناوين "مثيرة"، فكان عنوان
"الرأي": "ديوان المحاسبة يكشف عن تقصير وتجاوزات بالملايين فـي القطاعين". اما
عنوان صحيفة "الدستور" فكان "ديوان المحاسبة يكشف عن تجاوزات في مؤسسات عامة وخاصة
اتفاقية أضاعت على الخزينة 8,5 مليون دولار".
يعتقد قارئ العناوين السابقة ان
تقرير ديوان المحاسبة من الأهمية بمكان، وهو كذلك، بحيث كان من المفروض فيه ان يحتل
اهتمام الصحف، ولكن هذه العناوين "المثيرة" ومحتوى التقرير بما كشف عنه من إهدار
للمال العام بملايين الدنانير، لم تجد بعد ذلك عند الصحف أي متابعة حقيقية
للتقرير.
والامر ان الخبرين المنشورين في الصحيفتين عن صدور التقرير وفحواها
شابته عيوب، ربما بسبب قلة اكتراث المحررين للخبر. فلم يتجاوز حجم الخبر في صحيفة
"الدستور" اكثر من 171 كلمة فقط، بدون أي خلفيات او تفاصيل نشرها التقرير في عشرات
الصفحات، كما لم تقدم الصحيفة الرقم الاجمالي للهدر او الفساد، فيما تحدث العنوان
عن "ملايين". والحال هذه فإن قارئ الخبر لم يعرف حقا مدى الهدر وكم هي هذه
الملايين، هل هي ثلاثة ملايين مثلا ام ثلاثين.
واذا كان خبر صحيفة "الرأي" أطول
وجاء في نحو 900 كلمة، وشمل تفاصيل كثيرة عن عمليات الهدر والتجاوزات في القطاعين
وبذل فيه جهد اوضح، إلا ان الخبر لم يجمل التقرير في مقدمة تحوي خلاصة عامة تعطي
القارئ المعلومة عن حجم الهدر، ويبقي الخبر عند "الرأي" كما عند "الدستور" يتحدث عن
هدر بالملايين دون ان يعرف القارئ حجمها الفعلي.
أما عنوان "الغد" فكان كتالي
"تقرير لديوان المحاسبة: 8.5 مليون دينار غرامات مستحقة على جامعات خاصة.. زعم وجود
مخالفات "مالية وإدارية" في مستشفيي البشير وحمزة".
الحال ان عنوان الصحيفة لم
يعط القارئ صورة اشمل عن التقرير، واختار جزئية بسيطة تماما هي غيض من فيض
التجاوزات التي تحدث عنها ديوان المحاسبة، فالتقرير يتحدث، مثلا عن تجاوزات بلغت
قيمتها نحو 30 مليون دينار في دائرة الاراضي، فما هو الاهم تجاوز بقيمة 9 ملايين ام
بقيمة 30 مليون؟؟.
ولكن ما هو أكثر من ذلك استخدام كلمة "زعم"، وهي كلمة لم تعد
مستخدمة لدى وسائل الاعلام والوكالات التي لها باع طويل في المهنية، فهي تحمل في
طياتها حكما ليس من حق الصحيفة، إذ تشير إلى تشكيك واضح في مصداقية التقرير، حتى لو
كان التقرير لا يزال تحت مناقشة مجلس النواب ويحتاج إلى سماع رأي الجهات "المتهمة".
بيد ان كلمة زعم استخدمها محرر الخبر عند الحديث عن تجاوزات مستشفيي البشير والأمير
حمزة فقط، فيما استخدم كلمات مثل أكد وقال عند الحديث عن تجاوزات مؤسسات اخرى، وهو
امر مستغرب حقا فهل باقي نتائج التقرير صحيحة مثلا، وهل المستشفيين بعيدين عن
الشبهة فيما باقي المؤسسات الاخرى التي تناولها التقرير متهمة؟؟.
والصحيفة ايضا
لم تعط صورة إجمالية للتقرير، ويبدو ان هذا الخطأ في صياغة الخبر عند الصحف الثلاث
يعكس التسرع في التعاطي مع التقرير والاطلاع عليه بالكامل والخروج بتقرير اخباري
يعطي صورة اكثر شمولية.
وتميزت صحيفة "العرب اليوم" بنشرها ملخص عن تقرير ديوان
المحاسبة في صفحتين كاملتين، ونشرت لاحقا كمّا من الاخبار المتعلقة بديوان المحاسبة
وقانونه المقر من مجلس النواب ومطالبة رئيس الديوان بتوسيع صلاحيات الديوان
التنفيذية.
صدور التقرير ترافق ايضا مع تطورات اخرى، منها مناقشة قانون الديوان
في مجلس النواب ومطالبة رئيس الديوان بإعطائه صلاحيات تنفيذية وتسليم التقرير
وتقارير العامين الاخيرين الى مجلس الأمة ومنتدى الشفافية وهو امر يحصل للمرة
الاولى، وتقديم الحركة الاسلامية الشكر للديوان، وهو امر يحصل للمرة الاولى ايضا.
ومع ذلك فان الصحف اكتفت بنشر اخبار قصيرة دون أي متابعة او اهتمام جدي بكل هذه
التطورات وتحديدا في التقرير بكل ما فيه من محتوى يهم الجمهور الاردني.
اذاعة
"عمان نت" كان لها المتابعة اليتيمة للتقرير من بين وسائل الاعلام الاخرى، فقد
تناول مراسلها محمد شما في تقرير اخباري للاذاعة بتاريخ 13/3 ما أورده تقرير ديوان
المحاسبة عن هدر بقيمة 149 ألف دينار في أمانة عمان.
يقول الكاتب سميح المعايطة
في تقرير "عمان نت": "ربما حاولنا أن نحيل أي قضية أوردها الديوان إلى القضاء فستحل
بعد أربع سنوات، وبعد مضي الوقت يصبح التقرير كما الأغنية الشهيرة لفيروز (كتبنا
وما كتبنا) فالديوان يؤدي دوره بشكل جميل ودوره المحاسبة ومراقبة التجاوزات
والفساد.. والدور إذن أن يكون "الضابطة العدلية" وربما يتحسن الأداء، وذلك مع تشكيل
هيئة مكافحة الفساد وبمنظومة القوانين التي تعتز الحكومة بأنها أنشأتها، والمفترض
أن نفعل ما هو موجود من مؤسسات حكومية قائمة".
وبالمناسبة فإن المعايطة ورشيد
حسن وباتر علي وردم كانوا الوحيدين من بين مئات كتاب الاعمدة في البلد الذين كتبوا
عن تقرير ديوان المحاسبة في مقاله بعنوان "ارشيف التجاوزات" بصحيفة "الغد" تاريخ
14/3، يعيد فيه الفكرة نفسها التي تناولها في حديثة لعمان نت حول من يحاسب، ولكن ما
هو طريف في مقاله انتقاده وضع تقارير الفساد في اغلفة ثمينة ويقول: "صورة طريفة
وتبعث على الابتسام تلك التي بثها التلفزيون لرئيس ديوان المحاسبة وهو يسلم تقارير
السنوات السابقة الى رئيس مجلس النواب، والطريف اصرار ديوان المحاسبة على وضع
التقارير في عبوات هدايا فاخرة تشبه (علب) الاوسمة والدروع، وكأن ما هو في هذه
العلب جائزة او هدية، وليست ملفات للتجاوزات والفساد والاعتداء على المال العام
والانظمة والقوانين".
ويقول الكاتب رشيد حسن في مقال له في صحيفة "الدستور"
(6/3) بعنوان "صدمة التقرير": "شكل تقرير ديوان المحاسبة الرقابي لشهر كانون ثاني
صدمة لكثير ممن اعتقدوا بتراجع الاعتداءات على المال العام ، وذلك من حيث حجم هذه
التجاوزات والتي بلغت الملايين، أو من حيث عدد الوزارات والدوائر التي حصل فيها هذه
الاعتداءات وتبلغ 25 وزارة ومؤسسة، مما يعني أن شبهة الفساد موجودة وأن سوسة هذا
الوباء قد انتشرت وأصبحت ظاهرة".
ومع هذه "الصدمة" التي يتحدث عنها حسن فان عدم
اكتراث كتاب الاعمدة بتقرير ديوان المحاسبة، وبكل التطورات التي رافقت صدوره وصدور
تقارير العامين الماضيين وجدل قانون الديوان واقراره من قبل البرلمان يدعو للدهشة،
فالى هذا الحد وصل بكتاب الاعمدة الترفع عن قضايا محلية تهم المواطن.
واذا كان
سميح المعايطة ينتقد إدراج التقارير في أدراج مجلس النواب والحكومة دون أي ملاحقة
قضائية، فالسؤال الحقيقي الذي يجب ان يوجه للصحافة: أين دورها في تحشيد الرأي العام
وفي الضغط على المؤسسات الثلاث الاخرى لإحالة قضايا الفساد والتجاوزات وإهدار المال
العام الى القضاء ومحاسبة المقصرين والمفسدين. لا شك ان تقاعس الحكومة ومجلس النواب
عن إحالة القضايا التي وثقها تقرير ديوان المحاسبة سببه خفوت صوت الصحافة والاعلام
وتاليا تغييب المواطن وتغييب صوته، فما هي الصحافة ان لم تكن صوت المواطن وصرخته في
اذن صانع القرار؟.
ترافق صدور تقرير ديوان المحاسبة ايضا مع صدور تقرير دائرة
مكافحة الفساد، او بالاحرى خبر المركز الاعلامي الاردني حول نشاط دائرة مكافحة
الفساد. الاهم في التقرير ان الدائرة سجلت ارتفاعا بنسبة 36% في جرائم الفساد، ومع
ذلك فان مصير تقرير دائرة مكافحة الفساد في الصحافة كان أسوا كثيرا من مصير تقرير
ديوان المحاسبة لدرجة ان صحفا كالرأي والغد تجاهلت التقرير بالكامل.
مهما يكن من
امر، فان اهمال الصحف لهذه التقارير يدعو فعلا للتساؤل عن السبب الحقيقي لهذا
الخلل، هل هو مهني ام فقر ثقافي ام عدم اكتراث بمشاكل البلد الحقيقية؟؟. وما هي هذه
المشاكل ان لم تكن الفقر والبطالة ومحاربة الفساد، والتي تحتل ايضا الاولويات
القصوى لدى المواطن بحسب كل الدراسات واستطلاعات الرأي وليس الوضع في العراق او
فلسطين.

أضف تعليقك