تغيير القيادات الأمنية وأخبار أمانة عمان في الصحافة المحلية:

الرابط المختصر

اذا كانت الصحافة الاردنية قد استطاعت خلال السنوات الاخيرة اختراق بعض المحرمات في السياسة وفي الاجتماع، فإنها في المقابل، وضعت لنفسها قيودا ومحظورات لا ينص عليها أي قانون وارتضت ايضا ان تدافع، في بعض الاحيان، او تسكت في احيان كثيرة، عن مؤسسات عامة وخاصة تحت حجة "المصلحة الوطنيةويقينا ان الامر ليس محبة في هذه "المصلحة" بمقدار ما هو خضوع لرغبات المعلنين الكبار او "رعاة" الصحافيين والمثقفين.

في الايام الأخيرة عالجت الصحافة المحلية تطورين هامين في الحياة العامة، تمثل الاول في التغييرات التي أجراها الملك عبدالله الثاني في القيادات العليا للاجهزة الامنية واستحداث وكالة الامن الوطني، اما التطور الثاني فكان المشادة الكلامية التي وقعت بين النائب رائد قاقيش وامين عمان نضال الحديد على خلفية الاستجواب الذي تقدم به النائب لمجلس الأمانة حول مزاعم بالفساد.

في الخامس من الشهر الجاري صدرت الارادة الملكية بتعيين اللواء سميح عصفورة مديرا عاما لدائرة المخابرات العامة خلفا للفريق أول سعد خير الذي رفعه الملك إلى رتبة مشير وكلفه منصب مستشاره لشؤون الامن والعمل على استحداث وكالة للامن الوطني لم تعرف مهامها بعد.

وفيما كانت الصحف المحلية اكتفت بنشر الخبر نقلا عن وكالة الانباء الرسمية "بترا" وبالطريقة "البرتوكولية" المعتادة، على أهميته، فإن صحفا ومواقع اعلامية عربية على الانترنت، أعطت الخبر أهمية خاصة وزادته ابعادا تحليلية تركزت في اغلبها على مغزى التغيير، مجمعة على انه تغيير يستهدف تحجيم دور المخابرات في الحياة السياسية كجزء من النهج الاصلاحي للملك عبدالله الثاني وكان تقرير رنا الصباغ لصحيفة "الحياة" (7/5) من عمان ابرز مثال على ذلك.

وإذا كانت الصحف اكتفت بمثل هذه التغطية الخبرية المعتادة دون الخوض في أبعاد التغيير ومحاولة الاجتهاد في توصيل رسالة الملك للقارئ، فان كتاب الرأي أحجموا، عن تناول الموضوع رغم ان الكثير منهم مطلع على خفايا وكواليس السياسة المحلية وقادر على ان يضع القارئ في أجواء وأبعاد هذا التغيير.

ولكن هذه ليست الصورة الكاملة، فهناك كتاب "تجرؤا" فعلا على التعاطي مع هذه التغييرات، وهم بالمناسبة مجرد اثنين فقط، عريب الرنتاوي في "الدستور" (9/5)، وفهد الخيطان في "العرب اليوم" (8/5).

اما الرنتاوي فقد كتب مقالا تميز بجرأة خاصة وقد امتنعت الصحيفة عن نشر المقال، الذي ظهر فقط على موقعها عبر الانترنت، ويحاول الرنتاوي في مقاله تفسير أبعاد التغيير ونقل ما يدور في كواليس السياسة حوله.

ويقول الرنتاوي لـ"عمان نت" معلقا على امتناع الصحيفة لنشر المقال على نسختها الورقية: "ان قرار المنع هذا هو اجتهاد محرر بدليل ان المقال نشر على الانترنت في موقع الصحيفة ولم يتعرض لأي مساءلة من أية جهة".

أما الخيطان فقد حاول في مقاله تفسير أبعاد تشكيل وكالة الامن الوطني. ويرى ان "الهيكلية الجديدة لاجهزة الامن تستجيب الى تحديات سياسية وامنية محلية واقليمية، فعلى المستوى المحلي يبدو ان الاردن مقبل على تحولات نوعية بعد إقرار الاجندة الوطنية لا يعرف لغاية الآن مدى عمقها لكنها في كل الأحوال تغيرات مثيرة للجدل نظرا لارتباطها باستحقاقات اقليمية. وبهذا المعنى فإن البعد الامني سيأخذ دورا مركزيا في السياسة المقبلة ليس من باب هيمنة الامني على السياسي ولكن بهدف ضمان مسار آمن للتحولات المنشودة".

الصحف الاسبوعية امتنعت هي الاخرى عن التعاطي مع أبعاد قرارات الملك، وكتبت صحيفة "البديل الإعلامي" (10/5) تقريرا حاولت فيه تفسير قرار الملك بتشكيل وكالة الأمن الوطني لكن التقرير اقترب اكثر من المقالة ولم يستند إلى معلومات موثقة أو اقتباسات من مصادر معلومة وحفل بشكل خاص بشخصية المشير سعد خير.

الفارق بين تعاطي الصحف العربية ومراسليها من الصحفيين الاردنيين مع هذا التطور، يطرح سؤالا، حول ما إذا كانت الصحف المحلية لا زالت تضع لنفسها سقفا لا تتجاوزه وتفرض رقابة ذاتية لم تعد مبررة كثيرا، خاصة إذا علمنا انه لم تتم مساءلة أي من الصحفيين الاردنيين مراسلو الصحف العربية التي تعاطت مع هذه التغييرات بحرية اكبر.

سقف أدنى وانحياز مفضوح

إذا كان تناول الصحف لقضية تغيير القيادات الأمنية بهذا الشكل البرتوكولي المعتاد، يمكن ان يفهم على انه محاولة من الصحف لتجنب الوقوع في محظور قانون المطبوعات حول نشر كل ما يمس بالقوات المسلحة والأجهزة الامنية، فان صمتها وانحياز بعضها، أو بعض صحفييها، لمؤسسة تعنى بشأن العام على حساب مؤسسات اخرى ونواب امة، يثير تساؤلات اكبر حول مدى صدقية وموضوعية صحافتنا المحلية.

في الثاني من الشهر الحالي وقعت مشادة كلامية بين النائب رائد قاقيش وأمين عمان، نضال الحديد، على خلفية بيان اصدره النائب قاقيش في نفس اليوم، ينتقد فيه أداء امانة عمان. وقال قاقيش في بيانه الذي وزعه بكثافة على وسائل الاعلام المحلية انه "أرسل ما يقارب سبعين سؤالا إلى أمين عمان تتعلق بما أسماه "تجاوزات مالية وإدارية مفترضة"، بناء على شكاوى وردته من مواطنين"، وفقا لصحيفة "الغد" (3/5).

وباستثناء صحيفة "الغد" التي تابعت هذا الحدث في عدديها ( اكتفت اليوميات الاخرى بنشر خبر مقتضب عن هذه المشادة في اليوم التالي ثم خبرا عن اجتماع مجلس الامانة الذي رد على بيان النائب قاقيش.

اما الصحف الاسبوعية فقد اظهر بعضها انحيازا شديدا لجانب امين عمان ومجلس الامانة على حساب النائب قاقيش، وبرز في هذا الصدد التقرير الاخباري الذي نشرته صحيفة "الشاهد" (عدد 250 /4/5) الذي وان كان احتوى على رأي النائب قاقيش الا ان التقرير تحول الى ما يشبه المرافعة عن امانة عمان وحسن أداءها وهجوم على النائب.

وفي هذا السياق فقد امتنع كتاب الرأي عن تناول هذا الحدث على اهميته ايضا اذ يشكل خروجا على مألوف السياسة المحلية حين يصل الامر بشخصيتين عامتين الى التنابز بالالقاب والتطاول بالايدي في مكان عام.

غير ان السكوت هذا ليس هو ايضا كل ما في الامر، فقد اظهر كتاب آخرون انحيازا مكشوفا لامين عمان وخاصة الكاتب عمر كلاب في مقال له بصحيفة "البديل الإعلامي" (10/5) بعنوان "صوص المزبلة"، خرج فيه عن حد اللياقة وهو يدافع عن امين العاصمة، ورغم ان كلاب تجنب ذكر اسم النائب قاقيش، الا ان نشر المقال في هذا الوقت، لا يمكن ان يفسر بغير انه يتعلق بالمشادة بين الامين والنائب قاقيش، والارجح ان كلاب امتنع عن ذكر اسم النائب كي لا يعرض نفسه للمساءلة القانونية.



وبغض النظر عن موقف النائب ومدى صدقية بيانه واسئلته وحقه الدستوري في استجواب الأمانة، الا ان هذه المشادة بينه وبين امين عمان تطرح من جديد، قضية تناول الصحافة المحلية لكل ما يتعلق بأمانة العاصمة.



المراقب للصحف المحلية لا بد انه سيلحظ وبسهولة ان هذه الصحف امتنعت ومنذ سنوات طويلة، وقبل تسلم الامين الاخير لمنصبه، عن نشر كل ما من شأنه "المس" بأمانة عمان، والتركيز فقط على انجازاتها وعلى اخبار الامين الذي كاد ينافس رئيس الوزراء في كثرة ظهوره في الصحف مفتتحا هذا المكان او ذاك او هذه الفعالية او تلك وما الى ذلك من نشاطات الامين والامانة.



وهذا التوجه لدى الصحف المحلية، اليومية منها والاسبوعية، في التركيز على "ايجابيات" الامانة، يعود اساسا الى ان امانة عمان الغنية بمواردها المالية، إذ تصل موازنة العام الحالي الى نحو 114 مليون دينار، تشكل واحدة من اكبر المؤسسات المعلنة في الصحف.



بيد ان هناك اسباب اخرى، فقد اتاحت الموارد المالية الكبيرة للامانة تخصيص جزءا من هذه الموارد للنشاطات الاعلامية والثقافية تحت شعار تنمية عمان ثقافيا فقامت باصدار عدد من المجلات مثل مجلتي "عمان" و"تايكي" وظفت فيها عددا من الصحفيين وشكلت دائرة للنشاط الثقافي من ضمن مهامها نشر نتاج الكتاب على نفقتها الخاصة، وفتحت مركزها وسط العاصمة لنشاطات ثقافية. وفي ضوء عدم الفرز بين المثقف والصحفي في الاردن، إذ أن اغلب المثقفين في الاردن هم من العاملين في الحقل الاعلامي، فقد نال اغلب الصحفيين والمثقفين نصيبا من نفقات الامانة.



هذا عدا عن العلاقات العامة التي نسجها الامناء العامون للعاصمة مع الصحفيين والدعوات السخية لهم لحضور نشاطاتها. وتوظيف عدد من الصحفيين في دوائرها ومجالسها.

ربما يكون دور الدولة ومؤسساتها في تنمية العمل الاعلامي والثقافي دورا قابلا للجدل، وربما يكون مقبولا ومحمودا في بعض الاحيان، اذا ما ركز تحديدا على توفير البنى التحتية لهذه النشاطات، وهنا لا يمكن الرفض المطلق لدور الامانة وجهودها في تنمية البلد عامة، والعاصمة خاصة، ثقافيا واعلاميا، بل ان الامانة مطالبة بانفاق المزيد على هذه التنمية وعلى توفير بنية تحتية تشكل ارضية مناسبة لهذه التنمية.

غير انه لا يمكن ايضا، السكوت عن بعض المخرجات السلبية لهذا "الاحتضان" الذي ترعاه الامانة للمثقفين والإعلاميين، وهنا يكمن التمييز بين توفير البنية التحتية لهذه التنمية وبين "الرعاية" الشخصية للصحفيين.



هذا "الاحتضان"، اضافة الى ظروف محلية متعلقة بالحفاظ على تنمية الهوية الوطنية والشعور الوطني، أدى في جانب منه الى عدم وجود فرز بين السياسي والمثقف، وقد تحول اغلب المثقفين الاردنيين الى العمل في مؤسسات الدولة ومن بينها امانة عمان، وقد عكس هذا الامر نفسه على العمل الصحفي، اذ لا يوجد كما اشرنا سابقا، فرز بين الاعلامي والمثقف في الاردن فاغلب مثقفي البلد هم من العاملين في الصحف المحلية وهو ما اثر على طريقة تناول الصحف لمؤسسة وطنية كبيرة كامانة عمان تقوم على خدمة اكثر من مليوني نسمة.



ولا شك ان المشكلة لا تقع على كاهل الامانة، فمن حق العاملين فيها الدفاع عن نشاطاتها وابراز وجهها المشرق وانجازاتها، انما القضية تكمن في طريقة تعاطي الصحفيين مع هذه المؤسسة العامة وتناول قضاياها والتمييز بين الدفاع عن المصلحة الوطنية وعن مؤسسة عامة وبين تناول الجانب الاخر من الصورة، بما لا يحرم المواطن العادي من حقه في المعرفة الحقيقية وتسليط الضوء على جوانب القصور.



اخيرا، ان طريقة تعاطي الصحف مع الامانة ليس جانبا معزولا او هو لا يتعلق بالامانة فقط فهو يمتد ايضا الى مؤسسات عامة وخاصة تشكل موردا لا يمكن الاستغناء عنه في مجال الاعلانات مثل البنوك وبعض الشركات الاخرى.

أضف تعليقك