تعزيز الحاكمية الرشيدة يستدعي التغيير
جولات الملك ورئيس الحكومة في المخيمات الفلسطينية خلال رمضان, والإيعاز بتحسين
مستوى الخدمات والبنية التحتية لسكانها, تكتسب أهمية بالغة في ظل ظهور الإقليمية
البغيضة على إيقاع الشدّ السياسي بين ما بات يسمى بالقوى "الوطنية والليبرالية", ما
يهدّد أمن واستقرار المجتمع.
أراد الملك عبدالله الثاني ومن بعده رئيس وزرائه نادر الذهبي تطويع هذه الزيارات
لترسيخ صورة دولة لا تعرف حدود الجغرافيا لدى التعامل مع حقوق وواجبات مواطنيها من
مختلف الأصول والمنابت. هذه الشمائل ليست جديدة, لكن توقيتها ذو مغزى مع عودة هواجس
خيار "الوطن البديل", الذي يطل برأسه مجددا على يد منظرين وسط تنظير دولي, إقليمي
وداخلي.
فالمواطنة تعني المساواة في الحقوق والواجبات لكل من يحمل رقما
وطنيا في بلد نصف سكانه من أصول فلسطينية, حصلوا على الجنسية الأردنية منذ ستين
عاما. هذا الوضع يرتب لهم حقوق المواطنة كما يفرض عليهم واجباتها.
في الوقت
ذاته, يقيم زهاء نصف مليون لاجئ في المخيمات, لهم خيار حق العودة والتعويض بموجب
القانون الدولي. وهناك أيضا فئة النازحين إلى الأردن من الضفّة الغربية عقب حرب
1967 وما بعدها. قسم منهم يتمتع بالمواطنة الاردنية الكاملة. وعندما تقوم الدولة
الفلسطينية بإمكان اللاجئين والنازحين حسم أمر هويتهم الوطنية وولائهم السياسي,
طبقا لشروط ضم الضفة الغربية إلى الأردن عام .1950
الرسائل الرسمية تؤكد أن
هموم المواطنين, أينما كانوا, تتصدّر سلم اولويات الحكومة المنهمكة بمحاولة احتواء
تداعيات الأزمة الاقتصادية المحلية والكونية, وضمان مستوى معيشي وخدماتي لائق
للشعب.
تلكم رسائل مهمة تتزامن مع سعي أقلية سياسية وإعلامية لتلوين الصراع
المحتدم, حول مسار الدولة وآليات تطويرها واجتثاث الفساد منها, بصبغة إقليمية
مرعبة.
تسعى هذه الأقلية لغرس مفاهيم غير صحيحة مع أن الملك عبد الله الثاني
أثبت قولا وفعلا خلال السنوات العشر الماضية, أنه ملك كل الأردنيين وأن برنامج
تحديث البلاد ضروري للتعامل بأقل الضرر مع متطلبات العولمة وضمان ديمومة النمو
الإقتصادي.
من المهم هذه الأيام التأكيد على قدسية الوحدة الوطنية وتحييد
مظاهر الغربة السياسية والتهميش والإقصاء والاستفراد, التي يحاول نجوم السياسة
الصاعدون ترويجها من خلال اللعب على وتر الحقوق المنقوصة, واستغلالها لانتزاع تمثيل
هذه الفئات المحبطة التي قد تتنازعها تلك المشاعر.
فمعركة كسر العظم, التي
اشتدت منذ ثلاثة شهور بين مراكز قوى تمثّل منهجين سياسيين, اقتصاديين, اجتماعيين
متضادين, قد تكون نجحت في خلق انطباعات باتت أقوى من الحقائق, وساهمت في طعن الوحدة
الوطنية في مجتمع متعدد الأوجه, لم ينجح بعد في تكريس مفهوم المواطنة والانتماء
ودولة القانون.
فبات أي قرار يتخّذ ضد موظف عام بسبب شبهة فساد, مثلا, يوضع
في إطار حرب مفتعلة, من قبل بعض الدوائر المؤثرة للاستفراد بمكون أساسي من مكونات
المجتمع. وباتت كل خطوة سياسية أو اقتصادية تقاس ضمن موازين هذا الصراع. وفاقم من
حساسية الوضع الداخلي تنامي مخاطر الوطن البديل بسبب فشل عملية السلام وحالة
الانقسام الفلسطينية وتنكّر القوى الدولية, وفي المقدمة أميركا, لمسؤوليتها.
لكن الصحيح أن الصراع الحالي لا علاقة له بقضية الحقوق والمواطنة والولاء
والانتماء. وبات من الضرورة أن يحسم عبر مراجعة السياسات العامة حتى تدور العجلة
بكاملها ويعاد ترميم علاقة المواطن بمؤسسات الدولة, عبر إحياء قيم المواطنة كأساس
متين لهذه المعادلة من خلال إصلاحات سياسية حقيقية.
المواجهة هي بين أغلبية
محافظة غير متجانسة سياسيا ولا فكريا لكنها تضم من يرفض الانفكاك بسرعة عن الدولة
وتفكيك مؤسساتها الأمنية والسياسية, وإضعاف الولاية العامة للحكومة من خلال خلق أطر
عمل موازية غير دستورية. هذا التيار الواسع يصر على الإبقاء على دور الدولة
الاجتماعي والاقتصادي, وهو يضم كبار الموظفين المدنيين والعسكريين والأمنيين وأبناء
المتقاعدين العسكريين و"الوطنيين" ممن يشغلون مواقع سياسية وإعلامية واقتصادية
واجتماعية متقدمة. هؤلاء المحصنّون بثقافة المؤسسة الأردنية وثوابت الدولة والمجتمع
التي قامت عليها المملكة, يشعرون بأن مستقبل بلادهم بات مهددا وأن هناك من يحاول
تفكيك المؤسسات لكسر الإرادة الشعبية وتحضير الأرضية لحل القضية الفلسطينية على
حساب الأردن.
في المقابل تقف أقلية متنفذة لكنها متجانسة تتبنى نهج
الليبرالية الاقتصادية وليس السياسية. هذه الفئة تحاول هندسة مجتمع جديد من خلال
خلق طبقة اقتصادية/سياسية تدعم نهج تسريع الخصخصة الاقتصادية والانفتاح وتقليص دور
الدولة شبه الرعوي. كما تريد وقف الهدر في برامج الدعم الحكومي وتوجيهه للفئات
الأكثر تضررا, وترى ضرورة حفز القطاع الخاص لأنّه يولد فرص عمل. هذه المدرسة تتبنى
نظرة عملية ومحاسبية حيال قضية الحقوق والمواطنة الحسّاسة وتريد تحصيلها عبر تأسيس
نظام محاصصة سياسية حتى قبل قيام الدولة الفلسطينية المستقلة وانتزاع حق العودة
والتعويض, ولو كان في ذلك اقتطاع من حساب الاردن مجتمعا ودولة ومؤسسات سيادية ضمن
نهج سارت عليه الدولة لعقود. وهم يعتقدون أن المدرسة المحافظة تسعى إلى تقويض جهود
التحديث الملكي للمحافظة على النفوذ والمكاسب بدلا من تعزيز مفهوم دولة
المواطنة.
المواجهة بين الجبهتين تركت الشعب في حالة ذهول وغضب. ولا بد الآن
من ترميم سريع للخراب الذي لحق بالعلاقات الداخلية جرّاء الصراع, يبدأ بسلسلة
تغييرات وشيكة في بعض المواقع الأساسية وينتهي بتفعيل الدستور وتحديد مهام وأدوار
كل من رئيس الوزراء, رئيس الديوان الملكي, ومدير عام دائرة المخابرات. في السياق,
يفترض تعديل قانون الانتخاب ليضمن عدالة أكبر في التمثيل, لكن من دون المساس ببنية
الدولة وتركيبتها المستقرة وبشكل يؤدي أيضا الى وأد مشاريع التوطين مع المحافظة
الكاملة على حق العودة والتعويض. ولا بد من اتخاذ تدابير صارمة لوقف أي تصرفات من
شأنها أن تلهب مشاعر عدم المساواة, تمهيدا لإجراء انتخابات تشريعية نهاية 2010 تعيد
الاعتبار لمجلس النواب, بعد التجاوزات في انتخابات الصيف الماضي.
الاحتكام
للدستور نصا وروحا يشكّل المدخل الوحيد لعملية التحديث الشامل. وعلى ذلك لا بد من
العودة إلى الالتزام الكامل بمبدأ فصل السلطات وحصر الولاية العامة بمجلس الوزراء
في إدارة الشؤون الداخلية والخارجية قولا وفعلا, حتى يتسنّى للحكومة تحمل مسؤولية
القرار والتوجّه. وليتسنى أيضا للسلطة التشريعية والإعلام ممارسة دورهما الرقابي
والمحاسبي على الحكومة, صاحبة الولاية العامة الوحيدة.
تجبير الوحدة
الوطنية عبر مكافحة الفساد المستفحل وتعزيز أجواء الانفتاح الإعلامي والسياسي
تدريجيا عبر خطوات تنفيذية بدلا من وعود براقة غير فاعلة, تظل متطلبات أساسية لخلق
جبهة داخلية متينة تساعد الملك على تجاوز التحديّات الداخلية والخارجية.
وتنتظر النخب تعديلا وزاريا بسرعة يعيد وجوها سياسية لها امتدادات في
المجتمع, تمثّل الأردنيين من أصول فلسطينية قادرة على إذابة مشاعر الاقصاء السياسي
بدلا من الإصرار على وزراء تكنوقراط. ولا بد من تفعيل العلاقات بين الحاكم الإداري
ولجان تمثّل المخيمات لتحسين مستوى الخدمات لأن في ذلك خدمة للناس وليس
للتوطين.
ولا بد من قوننة إجراءات وأنظمة تطبيق قرار الأردن السيادي بفك
الارتباط الإداري والقانوني مع الضفة الغربية لسحب البساط من تحت أقدام الأحزاب
والساسة, المعارضين لهذا القرار.
كذلك لا بد للحكومة من تحديد, بطريقة أكثر
وضوحا, موقف الأردن من قضايا الحل النهائي, خصوصا اللاجئين والحدود والقدس مع
التأكيد على أن الأردن, هو الجهة المخولة بالمحافظة على حقوق الدولة في التعويض
المستقبلي وضمان حقوق مواطنيه في العودة والتعويض.
ربما تأتي بدايات الحسم
الملكي تجاه الصراع الدائر قبل إجازة العيد. فهناك من البوادر والإشارات ما يكفي.
على ان تستكمل بإجراءات أخرى بعد انتهاء الإجازة لأن تحصين الوضع الداخلي بات
استحقاقا حيويا لا مفر منه في مواجهة ما سيأتي به الشتاء من مفاجآت قد تكون غير
سارة.











































