لا تكاد تخلو دولة من دول العالم من ظاهرة التحرش الجنسي، تلك الظاهرة التي حولت حياة مئات الملايين من النساء والفتيات الى كابوس دائم، وقضت على مستقبل ملايين من الأطفال فتيان وفتيات بدأوا / بدأن الطفولة بتحرشات وانتهت باعتداءات جنسية ستلازم آثارها المدمرة حياة لم يعيشوها/ يعشنها بعد .
وكان الصمت والرضوخ مسيطرين على ضحاياه وعنواناً للرد على المتحرشين والمعتدين، وكانت السلطة والقوة ولا زالتا مرتعاً وأرضية خصبة للتحرش الجنسي.
وتشير جمعية معهد تضامن النساء الأردني "تضامن" الى أن التحرش الجنسي لا يحتاج للغة لفهمه ، ولا لشكل أو لباس لممارسته ، ولا لعمر يستهدفه ولا حتى لجنس يفرقه، وإنما هو فعل غريزي لاأخلاقي يصدر عن أشخاص يعانون من أمراض نفسية عززتها تربية خاطئة لذكورة زائفة وسطحية ، ونظرة دونية للنساء تشكلت عبر التاريخ ، وتتم ممارسته في المحيط الضيق كالبيت وبيوت الجيران والحي ، لينتقل الى الحيز الأوسع كالأماكن العامة والمؤسسات التعليمية وأماكن العمل.
والتحرش الجنسي هو عبارة عن إيحاءات جنسية غير مرغوب فيها ، لفظية أو جسدية ، أو القيام بسلوك ذات طابع جنسي سواء أكان هذا السلوك بشكل صريح أو ضمني. وله أشكال متعددة ووسائل متنوعة تعتمد على المكان الذي يمارس فيه والسلطة والنفوذ اللذان يتمتع بهما المتحرش.
كما ويعتبر التحرش الجنسي بفعل واحد أو عدة أفعال حتى لو بدا بعضها عرضياً أو ثانوياً حادثة منفردة ومستمرة وذات خطورة عالية من السلوك الهجومي الذي اتخذ من الملاحقة والإيحاءات الجنسية الالكترونية وسيلة إضافية.
وتشير "تضامن" إلى مشروع الحماية الذي نفذته جامعة جون هوبكنز والى القانون النموذجي حول التحرش الجنسي الذي عرّف التحرش الجنسي في مكان العمل على أنه "القيام بإيحاءات جنسية غير مرحب بها تؤدي إلى بيئة عمل عدائية أو عندما يعتبر الطرف الذي يتلقى هذه الإيحاءات الجنسية أنها منافية للأخلاق أو أن رفضها سينعكس سلباً أو قد يُعتبر أنه سينعكس سلباً على ظروف العمل الحالية أو المحتملة". وتعتبر العاملات المنزليات من أكثر الفئات التي تتعرض للتحرشات الجنسية.
وتشمل الإيحاءات الجنسية في مكان العمل السلوك والإيحاءات الجسدية، وطلب إسداء معروف جنسي أو فرض إسداء مثل هذا المعروف ، وإبداء ملاحظات ذات طابع جنسي ، وعرض ملصقات أو صور أو رسومات جنسية واضحة ، والإشارة إلى شخص بطريقة مهينة أو مذلّة استناداً إلى تعميمات على أساس النوع الاجتماعي ، والقيام بأي إيحاء غير مرحب به سواء كان جسدياً أو كلامياً أو غير كلامي ذات طبيعة جنسية بطريقة مباشرة أو ضمنية.
ومن شأن كل ما ذكر أن يخلق بيئة عمل مرهبة أو معادية أو مهينة أو مهدِّدة، وتدخل غير منطقي في الأداء العملي للشخص الذي يتعرّض للتحرّش ، وتعاني ضحية التحرش الجنسي من أي شكل من أشكال الضرر المقرون بالوظيفة أو الترقية أو إعادة التوظيف أو إستمرارية الوظيفة، ويكون لرفض الإيحاءات الجنسية وقع سلبي على ظروف العمل عندما يصبح عرض العمل أو شروط العمل أو الترقية أو إعادة التوظيف أو استمرارية الوظيفة رهناً بقبول الشخص لهذه الإيحاءات الجنسية غير المرغوبة أو بمدى إحتماله لها.
أما التحرش الجنسي في مؤسسة تعليمية فيعّرف على أنه "القيام بإيحاءات جنسية غير مرغوبة تجاه طالب / طالبة أو جعل تقديم المعروف الجنسي يبدو كشرط لتحقيق ظروف تعليمية مؤاتية أو لخلق بيئة تعليمية عدائية". وتتضمن الظروف المؤاتية علامة تضمن النجاح أو تقدم إلى المستوى التعليمي التالي ، أو تقديم درجات الامتياز أو المنح التعليمية ، أو دفع راتب أو مخصص أو مكاسب أو امتيازات أو اعتبارات ومزايا أخرى. فيما تخلق الإيحاءات الجنسية بيئة تعليمية عدائية عندما تؤدي إلى بيئة مرهبة أو معادية أو مهينة أو مهدِّدة ، أو تؤدي إلى تدخل غير منطقي في الأداء الأكاديمي لضحية التحرش ، أو تعاني ضحية التحرش من أي شكل من أشكال الضرر في الحياة التعليمية.
بينما يعرّف التحرش الجنسي في الشارع والأماكن العامة على أنه "القيام بإيحاءات جنسية غير مرغوبة اللفظية منها والجسدية من قبل أشخاص غير معروفين بطريقة مهينة ومؤذية ومخيفة. وينتشر هذا النوع من التحرش في الأماكن المزدحمة كالباصات والقطارات والتجمعات ، وفي الأماكن الخالية من المارة أو المظلمة. وتتعدد أشكاله كالملاحقة واللمس والنظرة الفاحصة واستخدام الإشارات والتلفظ بكلمات بذيئة والتصفير.
وتنوه "تضامن" إلى دراسات مسحية عديدة لمؤسسات أكاديمية ومؤسسات مجتمع مدني أظهرت مدى تفشي التحرش الجنسي في الأماكن العامة والشوارع في عدد من البلدان ، ففي ولاية أنديانا الأمريكية أجريت دراسة من قبل جامعة أنديانا أواخر الثمانينات وامتدت الى أوائل التسعينيات من القرن الماضي على عينة من 293 امرأة من مختلف الأعمار تبين أن ما نسبته 100% منهن تعرضن للتحرش الجنسي ، وأظهرت دراسة كندية عام 2000 على 12300 امرأة بعمر 18 عاماً فما فوق أن 80% منهن تعرضن للتحرش الجنسي في الأماكن العامة والشوارع من قبل غرباء ، ودارسة مسحية على 200 امرأة صينية في بكين أفادت أن 70% منهن تعرضهن للتحرش الجنسي في الشارع وأن 58% منهن تعرضن له في الباصات ، وإن 64% من 632 امرأة يابانية بعمر 20-30 عاماً تعرضن لتحرش جنسي جماعي في القطارات ، وأن 2000 امرأة تقدمن ببلاغات للشرطة خلال عام 2008 (وهو لا يعكس الرقم الحقيقي كون ظاهرة التحرش الجماعي بالقطارات منتشرة في اليابان بشكل خاص).
وفي دراسة مسحية للمركز المصري لحقوق المرأة في مصر عام 2008 أجريت على 2000 رجل وإمرأة و109 أجنبيات في أربع محافظات مصرية تبين أن 83% من النساء تعرضن للتحرش الجنسي في الشوارع لمرة واحدة على الأقل ، وأن 50% منهن يتعرضن له بشكل يومي ، كما لم يكن للباس المرأة أثر في منع التحرش حيث تعرضت له المحجبات والمنقبات. وأظهرت دراسة مسحية في اليمن أجرتها جريدة "يمن تايمز" على 70 إمرأة من صنعاء أن 90% منهن تعرضن للتحرش الجنسي في الأماكن العامة وأن 20% منهن يتعرضن له بشكل مستمر.
وفي دراسة حديثة أجراها تحالف القضاء على العنف ضد المرأة في لندن بشهر آذار من عام 2012 وشملت 1047 إمرأة تتراوح أعمارهن بين 18-34 عاماً ، تبين أن 43% منهن تعرضن للتحرش الجنسي خلال عام 2011 فقط.
أما التحرش الجنسي في أماكن العمل ، فتشير إحصائيات أشرفت عليها وكالة رويترز أن السعودية تحتل المرتبة الثالثة بين 24 دولة في قضايا التحرش الجنسي في مواقع العمل، وتبين من خلال الدراسة التي شملت 12 ألف إمرأة من دول مختلفة أن 16% من النساء العاملات في السعودية يتعرضن للتحرش الجنسي من قبل مسؤوليهم في العمل وتصل نسبة التحرش في المانيا إلى 5%، بريطانيا 4% وإسبانيا 6% والسويد تحتل المرتبة الأخيرة بنسبة لا تزيد عن 3% . وأشارات دراسات أخرى أن نسبة التحرس الجنسي بالنساء والفتيات بشكل عام في لبنان وصلت الى 30%. كما أشارت دراسة مسحية أجريت في الجامعة الهاشمية في الأردن الى تعرض 14% من نساء العينة لتحرشات جنسية في أماكن العمل.
وتؤكد "تضامن" على أن شبكة الإنترنت مليئة بالتقارير والشهادات الحية لنساء وفتيات تعرضن للتحرش بمختلف أشكاله في أغلب الدول العربية ، خاصة بعد أن قررت النساء الخروج من صمتهن والتعبير صراحة عن رفضهن لممارسات المتحرشين وإنتهاكات حقوقهن الإنسانية والتصدي للعنف الموجه ضدهن ، فنشطت النساء والفتيات في مصر لمواجهة التحرش الجنسي من خلال حملات الكترونية أو على الأرض بالتظاهر والإحتجاج كحملة "إمسك متحرش" وحملة "لا للتحرش الجنسي" وأطلقت مواقع الكترونية ترصد التحرش كموقع "خارطة التحرش الجنسي في مصر" ، وأنتجت العديد من الأفلام التي توثق حالات تحرش جنسي ، حيث تشير المخرجة المصرية نيفين شلبي لتعرضها شخصياً لتحرش جنسي أثناء تصويرها فلم "خط أحمر"، الذي يتناول التأثير النفسي للفتاة التي تعرضت لتحرش جنسي.
وفي الأردن تشير "تضامن" الى السلسلة البشرية التي أقامها شباب وشابات ما بين دوار الداخلية ودوار المدينة الرياضية حاملين يافطات ترفض التحرش الجنسي ، والى الحملات الالكترونية المنتشرة والتي تعبر عن رفض تام وخروج عن صمت وخوف أصبحا من الماضي.
وركزت وسائل الإعلام في الفترة الأخيرة على حادثة تعرض طالبات ومشرفتهن عميدة الكلية لمضايقات بسبب إنتاج فلم توثيقي عن التحرش الجنسي الذي تتعرض له الطالبات في إحدى الجامعات الأردنية حيث أعفيت الدكتورة من العمادة ، وتعرض طالبات مدرسة إبتدائية في مدينة الزرقاء الى تحرشات يومية من قبل رجل أربعيني يقف في الطريق المؤدية للمدرسة ، وتعرض لاجئات سوريات في مخيم الزعتري لتحرشات جنسية مختلفة.
وتؤكد "تضامن" على أن أغلب نصوص قوانين العقوبات لا تكفي لتجريم التحرش الجنسي باعتباره عملاً منافياً للحياء ، وأن إثبات الجريمة يكون من الصعوبة بمكان خاصة عندما لا يتوفر شهود ، وأن الحاجة أصبحت ملحة لإصدار تشريعات خاصة بالتحرش الجنسي ، ففي مصر أعد المجلس القومي للمرأة مشروع قانون حول التحرش الجنسي كما قدم المركز المصري لحقوق المرأة مشروع قانون آخر لمواجهة التحرش الجنسي ، وفي السعودية طرح مشروع قانون لمكافحة التحرش الجنسي للتصويت عليه في مجلس الشورى السعودي الذي تم تعديلة ليكون تحت مظلة نظام الحماية من الإيذاء ، فيما أدخلت المغرب تعديلات على القانون الجنائي وأضافت نصوصاً خاصة بالتحرش الجنسي بينما تطالب بعض الجمعيات بسن قانون إطار يجرم التحرش يبنى على الأسس التي بني عليها القانون الإسباني مثلا وهي "الوقاية والحماية وعدم الإفلات من العقاب" ، وفي الأردن يجد العديد من نشطاء حقوق الإنسان أن المادة (340) من قانون العقوبات المتعلقة بالفعل المنافي للحياء غير كافية لتجريم التحرش الجنسي. وكذلك الحال في لبنان ودول عربية أخرى.
وتشير "تضامن" الى تنبه الأمم المتحدة لظاهرة التحرش الجنسي داخل هياكلها ووكالاتها ، حيث أصدرت وضمن نظام العدل الداخلي في الأمم المتحدة نشرتين للأمين العام الأولى حول " منع التمييز والتحرش بما في ذلك التحرش الجنسي وإساءة استخدام السلطة" والثانية حول " تدابير خاصة للحماية من الاستغلال الجنسي والانتهاك الجنسي".
ودعت "تضامن" الحكومات العربية الى تجريم التحرش الجنسي بسن قوانين منفصلة عن قوانين العقوبات ورسم إستراتيجيات وسياسات تهدف الى الحد منه ، كما تدعو مؤسسات المجتمع المدني والمنظمات المدافعة عن حقوق النساء والأطفال بشكل خاص بالعمل على وضع إستراتيجيات وطنية لمكافحة التحرش الجنسي ، وإقتراح مشاريع قوانين ، وزيادة البرامج التوعوية والتثقيفية حول الثقافة الجنسية وحول التحرش الجنسي للنساء والفتيات والأطفال ، والعمل على تسهيل وصولهن الى مراكز تقديم الخدمات الإرشادية ، ودعم برامج إشراك الرجال والشباب في مكافحة التحرش ، وكما تدعو وسائل الإعلام الى إبراز قضية التحرش الجنسي والمخاطر التي تترتب على حدوثة ، النفسية والصحية بالنسبة للمتحرش بهن ، والإخلاقية والتربوية بالنسبة للمتحرشين ، والأسرية بالنسبة للمجتمع ككل.